غزوة بدر الكبرى

محمد بن محمد المختار الشنقيطي

عناصر الخطبة

  1. يوم بدر ملحمة عظيمة من ملاحم الإسلام
  2. عبر وعظات من غزوة بدر
  3. من أسباب النصر والهزيمة
  4. نعمة بلوغ شهر رمضان
  5. وصايا للمعتكفين والمعتكفات

  

أما بعد:

فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-.

عباد الله: إن في سيرة النبي العطرة وآثاره الجميلة الجليلة النضرة أسوة للمؤمنين، وقدوة للأخيار والصالحين، سيرة خير الورى حبيب الله -جل وعلا-، سيرة مُلئت علمًا وحكمة وإيمانًا، سيرة ملئت ثباتًا وصبرًا وإيقانًا، سيرة ملئت حلمًا ورحمة وبرًا وفضلاً وإحسانًا، سيرة خير الورى حبيب الله -جل وعلا-، ثلاثة وعشرون عامًا حمل فيها رسالة الله، وبلَّغ فيها شريعة الله، ما ترك باب خير إلا دلنا عليه، ولا سبيل رشد إلا هدانا إليه، فصلى الله عليه وسلم تسليمًا، وزاده تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا.

وفي ثنايا هذا الشهر المبارك كانت ملحمة من ملاحم الإسلام، ويوم من أيامه الجليلة العظام، يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، يوم أعز الله فيه جنده، ونصر فيه عبده، وأذل فيه من عاداه، ورفع المنار لمن والاه، يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، يوم خاضه رسول الله بالثبات واليقين والإيمان، خاضه مع الصحب الكرام -رضي الله عنهم وأرضاهم-، وبوَّأهم دار السلام، ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً ما على وجه الأرض يومها أحب إلى الله منهم، ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً كتبت لهم السعادة وهم في بطون أمهاتهم، ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً نادى عليهم منادي الله: يا أهل بدر: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً أقدامهم حافية وثيابهم مرقعة بالية، وأحشاؤهم ظامئة خاوية، ولكن قلوبهم نقية زاكية، وهممهم شريفة سامية عالية، الصحب الكرام -عليهم من الله الرضوان والسلام-.

قاد رسول الله جحافل الإيمان، أسد الشرى، رجال الوغَى، أتم الله عليهم المحبة والرضا.

وقفنا أمام يوم بدر؛ لكي نستلهم العظات والعبر، وقفنا أمام ملحمة الإسلام، واليوم الأول من أيامه العظام، رأينا العبر، رأينا العظات، أعظمها وأجلها أن الإسلام كلمة الله الباقية، ورسالته الخالدة، باقية ما بقي الزمان وتعاقب المكان، يرفع شعارها ويقدس منارها بعزّ عزيز وذل ذليل، هذا الإسلام الذي كتب الله العزة لمن والاه، وكتب الذلة والصغار على من عاداه، كلمة باقية ورسالة خالدة زاكية.

مِنْ عِبَر يوم بدر أخذنا أن الصبر مفتاح الفرج؛ فما ضاقت الأمور على من صبر، الصبر مفتاح الخير.

أخذنا من غزوة بدر أن مع العسر يسرًا، وأن عاقبة الصبر خير: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ﴾ [النحل: 127]، صبر حبيب الله ورسول الله فأقر الله عينه، ونصر الله حزبه، ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا﴾ [آل عمران: 125]، فإن وجدت عبدًا من عباد الله قد صُبَّت عليه المحن والبلايا من الله، ونصب وجهه صابرًا لله، فبشره بحسن العاقبة والمآل من الله.

علمنا أن الصبر عواقبه الخير، ولقد صدق رسول الهدى إذ يقول: "ما أعطي عبد عطاء أفضل من الصبر". بالصبر يتوسع ضيق الدنيا، وبالصبر تتبدد همومها وغمومها وأحزانها، يطيب العيش وترتاح النفوس وتطمئن القلوب، وصدق عمر -رضي الله عنه وأرضاه- إذ قال: "وجدنا ألذ عيشنا بالصبر".

وقفنا أمام غزوة بدر فوجدنا أن التقوى سبيل النصر للمؤمنين، وطريق الفلاح للمفلحين: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا﴾ [آل عمران: 125]، بالصبر والتقوى تنزلت ملائكة الرحمن؛ نصرة لجند الإيمان، فمن صبر واتقى جعل له ربه من كل همّ فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا.

صبرًا -يا أهل الإسلام- في زمان عظمت كربه، في زمان اشتدت بلاياه ومحنه، حيثما ولَّيْتَ بناظريك رأيت الأشجان والأحزان، نساء وأرامل وأطفال وثكالى، لا يعلم مقدار ما يعانون ولا يعلم مقدار ما يكابدون إلا الله المطلع على الخفيات، عالم السر والنجوى، فاطر الأرض والسموات، فيا أهل الإسلام: لئن ضاقت الأرض عليكم فَلِمَ تضيق بالصبر والتقوى؟! إن وراء الليل فجرًا، إن تحت الرماد نارًا، صبر جميل، لعل الله أن يأتي بالفرج الجليل.

عباد الله: وقفنا أمام غزوة بدر الكبرى، فعلمنا أن من أسباب النصر العظيمة تآلف القلوب وتراحمها، كان أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- في قلة من العدد والعدة، ولكن كانت بينهم المحبة والصفاء والمودة، كانوا متراحمين متعاطفين متآلفين متكاتفين متناصرين متآزرين، شعارهم: لا إله إلا الله، فسبحان من أعزهم وهم أذلاء، سبحان من أغناهم وهم فقراء، سبحان من رفعهم وهم وضعاء.

التآلف والتعاطف والتكاتف والتناصر والتآزر سبيل إلى نصر المؤمنين، طريق لعزة الأخيار والصالحين، فإن وجدت أهل الإسلام متعاطفين متراحمين فاعلم أن النصر حليفهم، وإن وجدتهم متقاطعين متباعدين متناحرين، إن مزقتهم الجماعات والحزبيات والرايات والشعارات، فادمع على الإسلام بين أهله.

عباد الله: وقفنا أمام غزوة بدر الكبرى، فاستلهمنا منها مواقف المحبة والرضا من أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وجدناهم تحت رايته لا يقولون غير قوله، لا يتقدمون عليه، ولا يؤخرون أمرًا أمر بإمضائه -صلوات الله وسلامه عليه-، سلام على أسد الشَّرى، سلامٌ على رجال الوغَى يوم سمعوا وأطاعوا، سلامٌ عليهم يوم قال قائلهم: "يا رسول الله: امض لما أمرك الله، وصل حبال من أردت، واقطع حبال من شئت، فإنا سِلمٌ لمن سالمت، وحرب لمن حاربت، وخذ من أموالنا ما شئت، والله ما أخذت منها أحب إلينا مما تركت". سلام عليهم من الله ورحمات، ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: 23].

اللهم يا فاطر الأرض والسموات: أسبغ عليهم شآبيب الرحمات، وبوئهم المنازل العلا في الجنات، واجمعنا معهم مع الآباء والأمهات والإخوان والأخوات والأبناء والبنات، يا مصلح الأحوال والشؤون.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الواحد القهار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مقلب القلوب والأبصار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الأطهار وعلى جميع أصحابه الأخيار، ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم ما أظلهم الليل وأضاء النهار.

أما بعد:

فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-.

عباد الله: أنعم الله علينا بهذه النعمة العظيمة، والمنة الجليلة الكريمة، فبلغنا شهر رمضان، وما كنا لنبلغه إلا بفضل الحليم الرحمن، بلغنا شهر رمضان ونحن في عافية في الأبدان، وأمن في الأوطان، ورغد عيش بين الأهل والولدان، فالحمد لله كالذي نقول، والحمد لله خيرًا مما نقول.

عباد الله: وها هي أيام الشهر قد تتابعت، ولياليه الغر قد تلاحقت، هذه أيام رمضان قد أوشكت على الرحيل، وها نحن في هذا اليوم أو بعد يومين سنستقبل العشر الأواخر، ختام شهر رمضان ووداعه، وقفنا على الليالي العشر ونحن فقراء إلى رحمة الله، وقفنا على أبواب العشر الأواخر نشكو تقصيرنا إلى الله، وقفنا على أبواب العشر الأواخر وكلنا أمل وطمع في رحمة الله أن لا يخيب رجاءنا، وأن يستجيب دعاءنا، وقفنا على أبواب عشر ما دخلت على رسول الله إلا شد مئزره وأيقظ أهله وأحيا ليله، صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين.

بينها ليلة خير من ألف شهر، من قامها إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، عشر إذا دخلت على الأخيار والصالحين فروا إلى بيوت الله معتكفين ركعًا سجدًا، يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا، سيماهم في وجوههم من أثر السجود، قد فارقوا النوم والكرى والهجود، يرجون رحمة الله الحليم الودود، ويسألونه مقامًا مع الركع السجود، في نعيم الجنات جنات الخلود، مع المقربين الشهود، قد سمت أرواحهم إلى الخيرات، وتنافست أجسادهم في فعل الباقيات الصالحات، عشر وما أدراك ما هذه العشر؟! أقسم الله بها في كتابه المبين، وعظَّم شأنها بهدي رسول الله الأمين.

فيا معاشر المعتكفين والمعتكفات: وصية لكم من كتاب الله وسنة رسول الله: اعلموا أن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، لا يقبل الله من الاعتكاف إلا ما كان خالصًا لوجهه، يراد به ما عنده: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف:110].

أخلصوا لله النيات، وأخلصوا لله العبادات والطاعات، فلا يزال العبد بخير إذا تكلم تكلم لله، وإذا عمل عمل لله.

يا معاشر المعتكفين والمعتكفات: قدموا الحقوق والواجبات، إياك -أخي المسلم- أن تعتكف ووراءك حق أمرك الله بأدائه يضيع باعتكافك، إن كان الوالدان بحاجة إلى برِّك وحنانك وعطفك وإحسانك فاحتسب عند الله في القيام عليهما، كم من قائم على أم حنون يسقيها دواءها، ويعالج جراحها وداءها، بلَّغه الله أجر المعتكفين، كم من قائم على أب ضعيف، شيخ كبير، يقضي حوائجه، ويرحم ضعفه، ويحسن إليه، ويجبر بإذن الله كسره، بلَّغه الله مقام المعتكفين، كم من قائم على زوجة سقيمة مريضة، يقوم عليها، بلَّغه الله أجر الاعتكاف بما كان من إحسانه إليها.

تخلف عثمان -رضي الله عنه وأرضاه- عن غزوة بدر بسبب زوجه التي كان يمرضها، رقية -رضي الله عنها وأرضاها-، لو كنت مريضًا لقامت على رأسك ولأحسنت إليك، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، إياك أن تعتكف والأبناء والبنات بحاجة إليك، أو يكون اعتكافك سببًا في ضياعهم، فاتق الله في الأقربين إليك.

يا معاشر المعتكفين والمعتكفات: اخرجوا إلى بيوت الله بالنية الصادقة، وليس في قلوبكم إلا الله، وادخلوا إلى بيوت الله معظمين شعائر الله، فللمساجد حقوق عظيمة، فلا تسبَّنَّ مسلمًا، ولا تشتمنَّ قائمًا، ولا تلزمن صائمًا، إياك وأذية المسلمين في اعتكافك، تجنب النوم في الأماكن الفاضلة، ومكن الناس من بيوت الله، ولا يجوز حجز الأماكن في المساجد إلا لمن خرج لقضاء حاجته، أما من عدا ذلك فلا يجوز له أن يؤذي المسلمين في بيوت الله رب العالمين، المساجد بيوت الله، استوى فيها الغني والفقير، والجليل والحقير، ذلة لله العظيم الكبير.

تقبل الله منا ومنكم، وأصلح أحوالنا وأحوالكم.

عباد الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [الأحزاب: 56].  

  


تم تحميل المحتوى من موقع