إن بناتكم أمانة في أعناقكم، ولسنَ سلعاً تباع بأعلى سعر أو ينتظر بها المواسم، واحذر -أيها الأب- أن تكون فلذة كبدك خصماً لك يوم القيامة. ولا يعني ذلك تزويج أول خاطب يطرق الباب، ولكن متى تقدم صاحب الدين والخلق فمرحباً به وإن قلّ ماله، وليس للخلق والدين مقابل من الثمن، وما أكرم والد بنته بأكثر من زوج صالح، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً، رضي منها آخر"، وكم من المصائب التي...
أما بعد: فاتقوا الله ربكم -أيها الناس- واعلموا أنكم لم تخلقوا عبثاً ولم ولن تتركوا سدى، فأنتم في دار بلاء واختبار (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك: 2]، فالسعيد من عرف الجادة وسلك الطريق المستقيم، والشقي من أتبع نفسه هواها فلم يلجمها بلجام الخوف من الله, ولم يجعل نصب عينيه ما أمامه من الحساب والجزاء.
عباد الله: الزواج نعمة ربانية ومنحة إلهية، به يجتمع الزوجان على ما أباح الله ويشرعان في تأسيس بيت مسلم تظلله نسمات الإيمان وتحوطه عناية الرحمن، ولكن هناك عقبات وعراقيل وضعها الناس في طريق هذا المشروع الخير والحلم الجميل، فشوهوا صورة الزواج وكدروا على الراغبين في الظفر به، فانقلب الزواج إلى همٍّ لا ينقطع، وأمنية لا تكاد أن تتحقق إلا بشق الأنفس، ومن هنا كان واجباً على الجميع بحث هذه العراقيل ووضعها على ميزان الشرع، فما كان منها دخيلاً على المسلمين فلا عبرة به، وما كان له أصل في الدين ولكن الناس أساؤوا فيه وتعدوا، فالواجب مراعاة ما شرع الله دون إفراط أو تفريط.
فمن تلك العراقيل تأخير تزويج البنات والأخوات، إما عناداً ومكابرة أو طمعاً في مرتب أو انتظاراً لصاحب المال الوفير أو المنصب الأثير، وغفل أولئك عن قول الله تعالى وهو العليم الخبير بما يصلح الناس (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [النور: 32]، وأين هم من قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد", قالوا: يا رسول الله وإن كان فيه؟ قال: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ثلاث مرات" أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.
وكم من فتاة بقيت حبيسة بيتها تنتظر نصيبها لتسعد كمثيلاتها من النساء، تطرب أذنها لسماع كلمة أمي، وتتمنى أن لو كان لها أولاد يملؤون حياتها ويبرون بها في حال كبرها، ولكن حال دون ذلك أب أو أخ قاسي القلب قد عضلها عن النكاح حمقاً وجهالة، وأي ظلم أشنع من ذلك يا عباد الله؟
إن الله تعالى قد أنزل آية تتلى إلى يوم الدين بسبب عضل ولي، فقد أخرج البخاري عن معقل بن يسار أنه قال: زوجت أختاً لي من رجل فطلقها, حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها فقلت له: زوجتك وفرشتك وأكرمتك فطلقتها ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود إليك أبداً، وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فأنزل الله هذه الآية: (فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ) [البقرة:232]، فقلت: الآن أفعل يا رسول الله قال: فزوجها إياه".
وتزداد المصيبة حين تجبر الفتاة على الزواج من ابن عمها أو قريبها رغماً عنها، أخرج النسائي عن عائشة أن فتاة دخلت عليها فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته، وأنا كارهة، قالت: اجلسي حتى يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته، فأرسل إلى أبيها، فدعاه فجعل الأمر إليها, فقالت: يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم أللنساء من الأمر شيء.
وعند ابن ماجه جاءت فتاة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته قال: فجعل الأمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن تعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء.
فيا معشر الآباء: إن بناتكم أمانة في أعناقكم، ولسنَ سلعاً تباع بأعلى سعر أو ينتظر بها المواسم، واحذر -أيها الأب- أن تكون فلذة كبدك خصماً لك يوم القيامة. ولا يعني ذلك تزويج أول خاطب يطرق الباب، ولكن متى تقدم صاحب الدين والخلق فمرحباً به وإن قلّ ماله، وليس للخلق والدين مقابل من الثمن، وما أكرم والد بنته بأكثر من زوج صالح، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً، رضي منها آخر"، وكم من المصائب التي تعانيها بعض النساء من أزواجهن، فهذه تشتكي زوجاً لا يصلي، وأخرى تعاني الأمرَّين من زوج سكير عربيد لا تأمنه على بناته ومحارمه، عياذاً بالله تعالى.
وأمر آخر يقع فيه البعض من المقدمين على الزواج حين يجعل للزواج حسابات مادية، فيبحث عن ذات الوظيفة والمرتب بغض النظر عن الخلق والدين، ونسوا المعيار الحقيقي الذي توزن به النساء، أخرج البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك". "فاظفر" كلمة جميلة تشي بمعاني الفوز والكسب، وما يصنع المال والجاه والنسب بالمرأة إن هي عريت عن الخلق والدين الذي يجملها ويحافظ على مكتسباتها، ولو خُيّر أحدنا بين مال الدنيا ونقص العقل أو الدين لما رضي بذلك، ثم إن المال غاد ورائح، وكرسي الوظيفة لا يدوم وعنه غنى، ولكن لا غنى للبيت عن أم صالحة ذات خلق رصين, تربي أولادها وتصون عرضها وتحفظ بيتها، وكم كان المال والجمال سبباً في نشوب المشاكل الزوجية، وهذا لا يعني العزوف عن الجميلة أو ذات النسب بشرط توفر الدين والخلق.
وثمة أمر آخر أرشد الشرع إليه، والناس فيه بين مفرط مقصر وآخر متشدد، فالشرع أباح للخاطب رؤية مخطوبته، وبين أن ذلك مظنة دوام العشرة، فعن المغيرة بن شعبة قال: خطبت امرأة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنظرت إليها؟ "قلت: لا، قال: "فانظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم بينكما" أخرجه النسائي.
فمن الناس من مانع من ذلك بحجة الحياء أو عدم الاعتياد، ومنهم في بعض البلاد من فتح الباب على مصراعيه وسمح لموليته بالجلوس والحديث مع خاطبها، وربما خلا أو خرج بها قبل عقد النكاح، وهذا محرم، وكثيراً ما أدى إلى نتائج لا تحمد عقباها.
وفي التزام حدود الله تعالى الخير والفلاح والستر والعافية في الدنيا والفوز بالجنة والنجاة من النار في الآخرة (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) [النساء: 13، 14] أقول قولي..
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبذكره تلين القلوب القاسيات، وفي التزام شرعه صلاح الأمم والمجتمعات، أما بعد، فاتقوا الله ربكم تفلحوا وتسعدوا.
أيها المؤمنون: لقد ندب الشرع إلى إعلان النكاح, وعمل الوليمة فيه إظهاراً للفرح واغتباطاً بنعمة الله تعالى، وتمييزاً بين النكاح والسفاح، فعن محمد بن حاطب الجمحي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فصل ما بين الحرام والحلال الدف والصوت". قال أبو عيسى: حديث حسن، عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى صبياناً ونساء مقبلين من عرس، فقام نبي الله -صلى الله عليه وسلم- ممثلا فقال: "اللهم أنتم من أحب الناس إلي، اللهم أنتم من أحب الناس إلي". يعني الأنصار، رواه مسلم. وفي صحيح البخاري جاء عبد الرحمن عليه أثر صفرة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تزوجت؟" قال: نعم، قال: "ومن؟" قال: امرأة من الأنصار، قال: "كم سقت؟" قال: زنة نواة من ذهب أو نواة من ذهب فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أولم ولو بشاة"، ففي هذه الأحاديث دلالة على مشروعية إعلان النكاح وضرب الدف فيه للنساء، وفيه إشارة إلى حضور النساء والأطفال وليمة العرس، فيا ليت أولئك الذين يمنعون الصبيان من حضور الأعراس يدركون هذا، وقد علم أن أشد الناس فرحاً بالعرس هم الأطفال، وعلى صاحب الوليمة الحذر من داء الإسراف والتبذير، فهما داءان مقيتان (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأنعام: 141]، (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ) [الإسراء: 26، 27]. ولما كان غالب الولائم لا يخلو من آفة حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: "الطعام طعام الوليمة، يمنعها من يأتيها، ويدعى إليها من يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله" رواه مسلم.
ألا وإن من علامات بركة النكاح خلوه مما حرم الله تعالى من إسراف وتبذير ولهو محرم، ومتى كان العرس كذلك سعد به الزوجان وضيوفهما، وأضحى الفرح شكراً لله بالقول والفعل، وإلا كان وبالاً وحسرة يبقى ألمها وإثمها.
نسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا وأن يقينا شر نفوسنا..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي