خطبة عيد الفطر المبارك 1433هـ

عبد الرحمن بن إبراهيم العليان
عناصر الخطبة
  1. يوم العيد يوم الشكر .
  2. منزلة حسن الخلق .
  3. ثمرات حسن الخلق .
  4. محاربة المفسدين للأخلاق الحسنة .
  5. سنة التفاؤل وبواعثه .
  6. مآسي بعض المسلمين في العيد .
  7. صيام ست من شوال .
  8. تثمين مظاهر الفرح والتصافي والتآخي في العيد .

اقتباس

ألا فاشكروا اللهَ ربَّكم أنْ أصبَحَ بكم سالمِين معافين، غيرَ منكرين لدينكم، ولا مستوحشين من إيمانِكم، ولا مشرَّدين من ديارِكم؛ وأَتْبِعوا الحسنةَ الحسنة، "ومن صام رمضان ثمَّ أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر". وانظروا في أنفسكم: هل تحقّقت فيكمُ الغايةُ من صيامكم، وأوتيتم تقواكم؟.

الخطبة الأولى:

الحمد لله حمدا طيّبا مباركا فيه كثيرا،  (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) [الفرقان:2].

أحمده على حسن صنعه، وأشكره على إعطائه ومنعه، وأكبّره تكبيرا، خوّف من يخاف من عقابه، وأطمع العامل في ثوابه.

سبحانه! لو شاء لآتى كلَّ نفس هداها، ولكن ألهمها فجورَها وتقواها، إنه كان بعباده بصيرا.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقرارا بوحدانيته، وأستعينه فاقة إلى كفايته،  (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا) [الفرقان:54].

سبحان رفيعِ الدرجات! سبحان مجيبِ الدعوات! سبحان فارجِ الكربات! سبحانه! بنعمتِه تَتِمُّ الصالحات، وبرحمته يصطفي من عبادِه مسارعين إلى الخيرات، لا نقدرُ أن نأخذَ إلا ما آتانا، ولا أن نتَّقِيَ إلا ما وقانا، ولولا ربُّنا لما اهتدينا ولا زكونا، ولا صُمْنا ولا صلينا.

وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه، المبعوثُ إلى الناسِ كافّةً بشيرا ونذيرا، أرسله ربه بالنور الساطع، والأمر الصادع، والضياء اللامع، فكان رحمةً مهداة، وسراجا منيرا.

خيرُ من تبتّل إلى ربه تبتيلا، وأشرفُ من سبَّحه بكرةً وأصيلا، أكرم من نال الشتائم والأذى، فكان محمَّدَ الفعال، محمودَ السجايا، لا يعمى عن نوره إلا من به قذى.

صلوات الله وسلامه عليه ما صام صائمٌ لله صيفا هَجِيرا، وما اتخذ قانتون قيامَهم بين يدي ربِّهم في الظلم هِجِّيرا، وعلى آله وصحبه، الألى نالوا شرف الصحبة، ونصروه وعزّروه، ووقَّروه توقيرا، وعلى التابعين لهم بإحسان، ما صُدِحَ بالذكرِ الحكيم وحُبِّر تحبيرا.

الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر!.

الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا.

الله أكبر! ما اجتهد مجتهدٌ وشمّر، والله أكبرُ! ما أمسى منيبٌ لربه وأسحر، والله أكبر! ما صام صائمٌ وأفطر، والله أكبر! ما أكمل العدّةَ مؤمنٌ وكبّر، والله أكبر! ما أحسن الظنَّ بربه محسنٌ واستبشر! الله أكبر، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.

أما بعد: فيا أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ سبحانه، فبِها تُرفَعُ الأعمال، ويُعفى عن التقصير والإهمال، وتُحَطّ الأحمال، وتُنال الآمال.

إنها دارُ حصنٍ عزيز، ومركبُ نجاةٍ عليّ، وموئل شرفٍ سنيّ، خيرُ ما أُخفِيَ وأُسِرّ، وأجملُ ما أُبدِي وأُظهِر، قد منعت أولياءَ الله محارمَه، وألزمت قلوبهم مخافتَه، استحضروا الأجل؛ فقصَّروا الأمل، ولاحَظوا الأجل؛ فأحسَنُوا العمل.

أيها المسلمون: هذا يوم حمدٍ لله، وثناءٍ عليه على إتمام النعمة، ولَهَجٍ بالشكر له على إكمال العِدّة، والتوفيق للعبادة.

أيامٌ معدودات، انقضت سراعا، وتوالت تباعا، شمّر فيها مشمّرون، واجتهد مجتهدون، وتسابق إلى الخيرات موفَّقون، وقصَّر مقصِّرون، وخُذِل محرومون.

فلئِن بُسِطَت في الصدقات أيديكم، وحملتكم إلى الصلوات أرجلُكم، وتعلّقت بالمساجد قلوبُكم، ولهجت بالذكر ألسنتكم، وخشعت لكتاب ربكم أفئدتكم؛ فلقد خُذِل دون ذلكم أناسٌ أمثالُكم، أصحُّ منكم أجسادا، وأعظم أحلاما، أركسهم العصيان، وأقعدهم الحرمان والخذلان.

واليوم يوم تغابن وتمايز، قضى المسلمون شهرا مباركا، بالأمس كانوا يتلهفون إليه شوقا، ويتُوقون إلى لُقياهُ تَوْقا.

شهرَ رمضان؛ وأين هو شهرُ رمضان؟ ألم يكنْ بين أيدينا؟ ألم يكن مَلَأَ أسماعنا وأبصارنا؟! لم يكنْ إلا كطرفة عين، حتى انقضى موسم التقوى، وبلابل الروح قد هدأ تغريدها، وإلى الله المصير!.

فيا شهرنا؛ غيرَ موَدَّعٍ ودَّعناك، وغيرَ مَقْلِيٍّ فارقناك، كنت لنا روضة وأنسا، وعن المعاصي قيدا وحبسا.

وإذْ أنتم في يوم عيدكم؛ فأَحْسِنُوا الظنَّ بربكم، وأبشروا وأمِّلوا، ومَن أحسن الظنَّ فليحسنِ العمل، وإن الله تعالى عند ظن عبده به، فليظنَّ به ما شاء، عيدُكم مبارك، وتقبّلَ اللهُ منّا ومنكم.

الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! عددّ ما وُفِّقَ موفَّقٌ فشكر، والله أكبر ولله الحمد، ما تاب منيبٌ لربّه واستغفر.

أيها المكْملون العِدَّة: إن شهر رمضان هو شهر الخير والإحسان، شهر التقوى والبرِّ والعرفان، يقودُ المؤمنَ إلى حسنِ الأخلاق، وجماع الفضائل، والنأيِ عن المساوئ والرذائل، فإذا صام أحدكم فلا يكنْ يومُ صومه وفطره سواء، والصوم جُنَّة؛ فإذا كان يومُ صومِ أحدِكم فلا يصخبْ ولا يجهل، فإن سابّه أحد فليقلْ: إني امرؤٌ صائم؛ لأن من لم يَدَعْ قولَ الزور، والعملَ به، والجهل، فليس لله حاجة في أن يدعَ طعامه وشرابه.

فالدينُ هو الأخلاق، فلا يصِحُّ دينٌ بلا أخلاق، ومَن زاد علينا في الأخلاق أو نقص زاد علينا في الدين أو نقص؛ بل إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علّل بعثتَه بأوجز عبارة، وألمحِ إشارة؛ فقال: "إنما بُعِثْتُ لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاق".

بل لقد أبان -صلوات الله وسلامه عليه- عن البرِّ بقوله: "البرُّ حسن الخلق" رواه مسلم.

وإنه لا يكمُلُ إيمان المرء حتّى يحسنَ خلقُه، ويلينَ جانبُه، وتنطلقَ أساريرُه، ويحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه؛ ومصداق ذلكم قول النبي -صلى الله عليه وسلم- : "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنُهم خُلُقا" رواه أبو داود والترمذيّ وأحمد.

وبحسن الخلق يبلغ المؤمن درجة الصائم القائم، فماذا تغني صلاةٌ أو صيامٌ أو صدقةٌ مع فساد جَنان، وفُحْشِ لسان، ووجهٍ عبوسٍ مكفهرّ، وبغضاءَ ومكر؟!.

بل إن سوءَ الخلق ليفسد العمل؛ كما يفسد الخلُّ العسل، ولقد سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابَه يوما قائلا: "أتدرون من المفلس؟" قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: "إن المفلس مِن أمتي مَن يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذَفَ هذا، وأكل مالَ هذا، وسفكَ دمَ هذا، وضرب هذا؛ فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناتِه؛ فإن فنيتْ حسناتُه قبل أن يُقضى ما عليه أُخِذ من خطاياهم، فطُرِحت عليه، ثم طُرِحَ في النار" رواه مسلم.

فرُحماك يا ربّنا رُحماك! فأين المعجبون بأعمالهم وعباداتهم في حين إنهم بادئو الشرّ، كالحو الوجوه، قريبو العُدوان؟.

فمن كان منهم يملك ألفًا فليعلمْ أن ما عليه من الحقوق والتبعات يزيد على الألفين، كما أنه لا يغني جمال المظهر إذا كان المخبَرُ عاريًا، باديةً للناس سوأتُه!

 وهل ينفعُ الفتيانَ حسنُ وجوهِهِمْ *** إذا كانتِ الأخلاقُ غيرَ حسانِ؟

أخرج البخاريُّ في صحيحه عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: استيقظ النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة، فقال: "سبحان الله! ماذا أُنزِل الليلةَ من الفتن؟! وماذا فُتِحَ من الخزائن؟! أَيْقِظُوا صُوَيْحِبَاتِ الحُجَر؛ فرُبَّ كاسيةٍ في الدنيا، عاريةٍ في الآخرة".

إن جمالَ المظهر في قبحٍ نفسِيّ، كقنديلٍ على قبر مجوسيّ، ومن سُرَّ بشجاعته التي يضعها في غير موضعها لله -سبحانه-؛ فليعلم أن النمرَ أشجعُ منه، وأن الأسدَ والذئبَ أجرؤُ منه، ومن سُرَّ بحمله الأثقال؛ فليعلم بأن الحمار والبغل أحملُ منه، ومن سُرَّ بحسن صوته؛ فليعلم أن كثيرا من الطيور والجمادات أحسنُ صوتا منه.

فأيُّ فخرٍ وأيُّ سرورٍ في ما تكون فيه هذه البهائم متقدِّمةً عليه؟! بل إن العاقلَ لا يغتبط بصفةٍ يفوقه فيها سبُعٌ أو بهيمةٌ أو جماد، وإنما يغتبط بتقدمه في الفضيلة التي أبانه الله بها عن الحيوانات العجماوات.

أجَلْ -وقاني الله وإياكم-؛ فإن من الناس أناسا يتظاهرون بالإنابة والخشية؛ عمروا ظواهرَهم بأثواب التقى، وحشَوْا بواطنَهُم من الأدغال؛ ذئابٌ في الظلام، يرتكبون أعملا يأباها الشارع الحكيم.

إذا جلس إليك أحدُهم أعطاك من عُذوبةِ لسانِه، وثمرةِ جنانه؛ حتى لتخالَنَّه صديقًا صدوقا، خِلًّا وفيًّا؛ فإذا غاب عنك فرى عرضَك فريَ الأديم؛ فهوَّش وشوّش، ثمَّ غمَزَ ولمَز.

وهُم بهذه الدنايا يتهافتون على الخرص والظنون تهافُتَ الجرادِ على النبراس، ولم يعلموا أن الإيمان والهدى يتسربان من قلوبهم تسَرُّبّ الماء من الإناءِ المثقوب، وهؤلاء سوادٌ في الناس، غيرُ خافين لرامقٍ ببصر.

إنهم أخطرُ من يكونون على المجتمع، ومن عناهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "وتجدون شرَّ الناس ذا الوجهَين، وذا اللسانَيْن، يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه" رواه مسلم.

الله أكبر! الله أكبر! ما تذكّرَ من تذكَّر، وما حاسب متقٍ نفسَه فيما قدّم وأخّر، لا إله إلا الله والله أكبر! الله أكبر ولله الحمد!.

وإذْ إنا في زمن المغريات والمضلات، فَلَكَمْ ترون وتسمعون -أجاركم الله- عن صرعى الشهوات؟ وكم يُذاعُ ويخبَرُ عن زلات وهفوات وانتهاكات؟! خلواتٌ محرمات، ووقوعٌ في المحذورات الموبقات، تقَضّ لها مضاجعُ بيوتٍ آمنة، وتُزعِج أفئدةً غافلةً ساكنة، وتؤلم أنفسًا هانئة.

أفيحدثُ هذا في بلد التوحيد والدعوة والمحافظة؟! نعم! يحدث إذا اتُّبِعت خطواتُ الشيطان، ونسِيَ فئامٌ حظًّا مما ذُكِّروا به في السنة والقرآن.

كان هذا ويكون متى ما ضعفَ التوجيه، وتلاشى الإرشاد، وماتتِ القوامةُ الحقّة، وفُتِحت للباطل الذرائع.

يحصل هذا إذا اتُّبِعتْ خطواتُ الشيطان، فلا أبصارَ تُغَضّ، ولا حجابَ شرعيًّا يُلتَزَم، يكثر الخَبَث إذا وُجِدت أسبابه، وانتفت موانعُه، حين يضعف الوازعُ الزاجر، وتوأد روحُ العفّةِ في النفوس، ويشرَّعُ للاختلاط بين الجنسين ويهوَّنُ من شأنه، ويُتركُ الفتيانُ والفتيات وقودًا لنارٍ يقدحُ فتيلَها إعلامٌ فاجر، بِبَثِّ الأفلامِ الرخيصة التي تدُعُّ إلى كل قبيح من القول، ورديءٍ من الفعل، تذكيها روايةٌ عفنة تحبّذ المغامرةَ المحرّمة، وتزَهِّد فيما أباح الله من الزواج، ورحلاتٌ مشبوهة إلى حيثُ المجونُ والإباحيّةُ المطلَقة.

بلِ اسألوا -سَتَرَكم اللهُ وسَتَرَ عليكم- اسألوا المحتسبين ومن يكونون في مقامِ الفتيا أو موضعِ الاستشارات؛ ينبئوكم عن أنكى مِن هذه الجراح وأعظم؛ فلقد ظهر زنا المحارم -ولا حولَ ولا قوّةَ إلا بالله-  نتيجةً لذلكم أجمعِه!.

أضيفوا إليه ما يحدث من بعض النساء من ألبسةٍ مخزيةٍ فاضحةٍ بحجة أنها بين محارمها، فوافق ذلكم هوى، وقلوبا هواء، فوقع المحذور.

الله أكبر! الله أكبر! الله أكبرُ كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا.

أيها الناس: وإذا كان قوامُ ذلكم هو الأخلاقَ الإسلاميةَ المثلى؛ فإن من بني جلدتنا من نبذوا مصدر هذه الأخلاق خلف ظهورهم نبذَ المسافر فضلةَ الأكّال، واحتالوا على الشعائر؛ ويا محنةَ الأديانِ بالمحتال!.

اتخذوا دون الإذعان لله مكانا قصيّا، وجعلوا الوحيَيْن وراءهم ظهريّا، وفرّقوا بين العقائد والأخلاق؛ فليس الدينُ عندهم أخلاقا، ولا الأخلاقُ دينا، بلِ الأخلاقُ عندهم ما اتفق والعقولَ الشهوانيّة، والنفوسَ الذليلةَ التبعيّة، يريدون أن لا يبقى من الإسلام إلا اسمُه، ولا من القرآن إلا رسمُه، وإن رضُوا بدينٍ فدينٌ مشوَّهٌ مبتورُ الأطراف.

وما أرادوا فرضَه من الإفساد، أو تنحيتَه من الهدى والرَّشاد؛ فإنما يكون تحت غطاءِ الحريّةِ القاتم، وإنما هي حريةُ الكفرِ والفسوقِ والعصيان التي كرّهها الله إلى السلف الصالح -رضي الله عنهم-.

إنهم المنافقون الذين يشهدُ اللهُ بأنهم كاذبون، والله أعلمُ بما يوعون، وتحت الرغوة اللبنُ الصريح.

وإلا؛ فأيّ ضيرٍ عليهم لو تركوا الناس وصبغتَهم الخاصّة التي اختارها الله لهم، تميِّزُهُم عن سواهم، وتدلُّ على أنهم أهل دين وخلق؟!.

وليت شعري:  مَن لم يكن بالحقِّ مقتنعا  *** يُخْلِ الطريقَ، ولا يوهِنْ منِ اقتنعا

أَجْلَبُوا بالغِرّةِ والظنون والكذب، وإلقاء الشُّبَهِ؛ لهزّ الثوابت المسَلَّمات، والخوضِ في المشتبهات والموبقات؛ أشداءُ على المؤمنين، أذلةٌ على الكافرين.

وأولئك من نهى الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- عن طاعتِهم، وأمره بموعظتِهم، ودعاهم إلى تدبّرِ كتابِه، والحذرِ من عقابِه.

ولقد صدّقوا ظنَّهم؛ فاتَّبَعهم أغرارٌ من الفتيان والفتيات، على حينِ فترةٍ من قيام العلماء بواجبهم من التحصينِ والتبيين، وجَلَدٍ من إعلامٍ أثيم، آزره إرسالُ الحبالِ على الغوارب من المحضن الأول للتربية والتوجيه والرعاية.

يخوض مراهقون ومراهقاتٌ أمواجًا في بحرٍ لُجِّيّ، تحيط بهم ظلماتٌ بعضها فوق بعض، وتنتضل فيهم سهام أهواءٍ مضلة، وتعترضهم شياطينُ مجيلة، ثمَّ لا يملكون سلاحا، على قلة تجربة، وضعف مَنَعَة، فكان بعضهم مقصِدًا لمنظَّمات تنصيرية؛ ليصبح نصرانيًّا مرتدّا عن دينه، وآخرون تاهوا في مهَامِهِ العقل المزعوم، حتى تردَّوا في هاوية الإلحاد، بل التنقصِ من جنابِ الربِّ العظيم، والرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-!...

إنها حلاتٌ فرديّة؛ ولكنْ، أولئكم الأفراد لم يحترقوا إلا بنارٍ لم تخمدْ بعد، ولربما صلاها غيرُهم.

إنها أمانةُ كلمةٍ وتوجيهٍ ورعايةٍ ومعاملة وقوامة، ملقاةٌ فوق ظهورنا جميعا؛ فهل نقوم بتلكم الأمانة، أم نظل نتجرع مراراتٍ، ولا نكاد نسيغها مراتٍ ومرات؟...

الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر ما اتصلت عينٌ بنظر، وأذنٌ بخبر.

الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا.

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله حقَّ حمدِه، أحمدُه حمدَ عبدٍ قام بعهدِه، وأوفى بوعده...

والصلاة والسلام على رسوله وعبدِه، وعلى آله وصحبه، الذين أقاموا الحق، وعَدَلُوا عن ضِدِّه، وعلى التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

الله أكبر الله! أكبر الله أكبرُ ما أضاءتِ النجوم، وتلاحمتِ الغيوم؛ الله أكبر تكبيرا يليق بجلال الحيِّ القيوم.

أيها الصائمون القائمون: وأنتم في يومِ عيدٍ مبارك؛ فإن التفاؤل يصبح أعظمَ طلبا، وأكثرَ ملاءمة، ومع ذلكم؛ فالتفاؤل لا ينكرُ الواقع، ولا يَتغافَلُ عن الأحداث.

فمحور القضايا، وأكبر الرزايا، قضيةُ فلسطين السليبة، أرضِ القدسِ الحبيبة؛ فما زال المسجدُ الأقصى يئنُّ تحت وطأة المحتل، جاثمٌ على أرضها، مستعبدٌ أهلَها، يأكلُ الخيرات، ويدنّسُ المقدسات، وما زال يقتطع في كلِّ يومٍ منها جزءا، يسرقُ الضفة، ويحاصرُ غزّة، والمسلمون في غفلة مع تزاحم المستجدات.

وليس عن أرض القدس ببعيد؛ إخواننا في سوريّا الخلافةِ والأمجاد؛ فالعدوُّ الباطنيّ يذيقُهم أنكى صنوفِ القهرِ والإذلال، ظانًّا أن ليس له ولا لملكه من زوال، والعالم يشاهدُ ويتابع، ولا يقدِّمُ إلا الفرصَ المتعاقبةَ للعدوِّ الباطش؛ ليُمَدَّ بدعمٍ غيرِ محدود من عُبَّادِ الوثن، ومن إخوانه الفرسِ الحاقدين.

أما المسلمون؛ فإن ساندوا إخوانهم فعلى ذات قلة، وخجل، وتخوفٍ، وترقب، والله المستعان.

وكلُّ هذا ألقى في روعِ المضطهدين المبتَليْن قطعَ الثقة بما عند الناس، واللَّجأ إلى رب الجنة والناس؛ فنادَوا: (ليس لنا غيرُك يا الله)، وأيقنوا أن النصرَ لا يكونُ من أحدٍ سواه، ولن يبرحُوا -بنصرِ اللهِ وتأييدِه- قتالَهم للعدوِّ الأرعن، يدُكُّون معاقلَه وحصونَه بصوت التكبيرِ المجلجِل، وباسم اللهِ المُزلْزِل.

واذكروا – رفع اللهُ ذكرَكم- إخوانَكم المنسيِّينَ في ميانْمار؛ حيث ثارتِ البغضاءُ من أفئدةِ عُبَّادِ بوذا -قاتلهم الله-؛ فأذاقوا المسلمين هنالكم -ممن لا حولَ لهم ولا طول، ولا سلاحَ بأيديهم، ولا حكومةَ تحميهم- العذابَ الأشنع، والتنكيلَ الأفظع؛ حتى أحرقوهم جماعات بالمئات، بالنار ذات الوقود، (إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [البروج:6-8].

وللمسلمين في بقاعٍ أخرى ألفُ مشرّدٍ وقتيل، وبكاءٌ وعويل، وشعوبُ الإسلام:

 ... * كأصحابِ كهفٍ في عميق سباتِ

بأيمانِهمْ نوُرانِ هَدْيٌ وسُنّةٌ *** فمَا بالُهُم في حالكِ الظُّلُماتِ

ومع ذلكم كلِّه؛ فهل لنا أن نفرحَ بعيدِنا، ونتفاءلَ بحالِنا وحال أمَّتِنا؟.

إي وربي! نتفاءل؛ فالتفاؤل سنةُ نبيِّنا -صلى الله عليه وسلم-، وهو وميضٌ من دينِنا، التفاؤل نسيانٌ لأحزان الماضي، وتغلُّبٌ على تحدّياتِ الحاضر، جِدٌّ في مواجهةِ المستقبل، المتفائل لا يلتفتُ إلى الماضي فيحزن، ولا يقلقُ من المستقبلِ فيبأسُ وييأس؛ بل ينظرُ إلى الحلِّ لا إلى المشكلة، ويعدّدُ المكاسب، ويتغافلُ عن الخسائر، المتفائل ينظرُ إلى المنح في طياتِ المحن، ويستشرفُ نورَ الأمل في حالكِ ظلماتِ الألم.

أجَلْ -أسعدَكُمُ الله بطاعته- فهل يُحتاجُ إلى المصباح إلّا في الظلام! بل؛ ألا ترون أن النورَ مهما اشتدَّ ضياؤُه لا يُنتَفَعُ به في وَهَجِ الشمس؟!.

كيفَ لا نتفاءل ونحنُ نرى من الخير في أمّة الإسلام ما لا يخطرُ على بالِ متأمل؟! كيف وقد أدركتِ الأمةُ أن التغييرَ لا يكون دخيلًا مجلوبا من الأجنبيِّ عنها! بل لا يكونُ إلّا من داخلها، من هاماتها ولَهَازِمِها، وأن النصرَ إنما هو من عندِ اللهِ العزيزِ الحكيم؛ فعادَتْ نفوسٌ إلى فطرتِها، وخَلَعَتْ ثيابَ مذَلَّتِها، ونَفَضَتْ عنها غُبارَ تبعيَّتِها.

إن رسولَنا -صلى الله عليه وسلم- كان يحبُّ الفأل، وتعجِبُهُ الكلمةُ الطيّبة، والأسماءُ الحسنة، ويكرهُ الأسماءَ القبيحةَ المتشائمةَ؛ بل، ويغيِّرُها إلى أسماءٍ جميلة.

لِمَ الأسفُ على الماضي وهو لا يُرَدّ، وذاهبٌ لا يرتدّ؟! الأسف لا يردّ الغائب، كما أن البكاءَ لا يعيدُ الميّت؛ وإنما يعيدُه الذكرُ الحسن، والدعاءُ والعملُ الصالح.

ولِمَ الخوفُ من المستقبل وهو غيب لا ندري ما اللهُ صانعٌ فيه؟! فأحسِنْ بالله أملَك، وأصلح عملَك، وأذْهبْ بذكر الله حزنَك، وامسح عنك دموعَ اليأس، واستعِنْ بالله ولا تعجزْ، ومن المقدُورِ لا ينجو الحَذِر، ومن يتبصّرْ في أمر الدنيا يهُنْ عليه ما يلاقي، ويحِسّ بأنه من عظماءِ الدنيا وإن عاش في زِيِّ المملوكين، ورُبَّ حالٍ بكيتَ منها، فلمّا صرتَ في غيرها بكيْتَ عليها، ولا بقاءَ في الدنيا لأحد، وذو النعمة فيها غيرُ مخَلَّد.

وتبصَّرْ بمن حولَك ترَ جراحا وجراحا، وإنْ رأيتَ أفراحا فاعلمْ أن وراءَها أتراحًا.

وانظر إلى جانب الجمال، تجمُلْ حالُك، و

مَن تكن نفسُهُ بغير جمالٍ *** لا يرى في الوُجُودِ شيئاً جميلا

الله أكبر! الله أكبر! لا إله إلا الله، الله أكبر! الله أكبر ولله الحمد.

أيها النساء الفضليات، يا شقائق الرجال، وصانعات العظماء والأبطال:

أيها المتفائلون:

هذا يوم عيدكم، يوم الفطرِ المبارك، وقد شرع لكم ربُّكم عيدًا آخرَ في العام، ألا وهو عيدُ الأضحى، وما سوى هذين العيدَيْن من الأعياد فهو بدعةٌ وضلالة، ومِن جهةِ المعنى والواقع؛ فإن كلَّ يومٍ لا يعصي فيه المسلمُ ربَّه فهو عيد.

ألا فاشكروا اللهَ ربَّكم أنْ أصبَحَ بكم سالمِين معافين، غيرَ منكرين لدينكم، ولا مستوحشين من إيمانِكم، ولا مشرَّدين من ديارِكم؛ وأَتْبِعوا الحسنةَ الحسنة، "ومن صام رمضان ثمَّ أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر". وانظروا في أنفسكم: هل تحقّقت فيكمُ الغايةُ من صيامكم، وأوتيتم تقواكم؟.

ألا فافرحوا بعيدكم فَرَح الشاكرين؛ وقد علمتم أن للصائمِ فرحتَين: فرحةً عند فطرِه، وفرحةً عند لقاءِ ربِّه، ومتى تجاوز الناسُ حدودَ اللهِ في أعيادهم فما قدروا ربَّهم حقَّ قدره، ولا شَكَرُوه على آلائه.

أطلِقُوا بالبشْرِ محياكم، وارسموا البسْمَةَ على وجوه أهليكم.

يومُ العيد يومُ الفرحِ والتصافي، يومُ المواساةِ والتآخي، وهو يومُ الأرحام بالصلة، ويومُ الأولادِ بالإبهاجِ والإيناس، ويومُ الأحباب بتجديد المحبّة، ويومُ المتهاجرِين بالتواصلِ والعفوِ والصفح.

إنه يومُ اليتامى بالعطفِ والحنان، والفقراءِ بِسَدِّ المسغبة، إذْ فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاةَ الفطر طُهْرةً للصائم من اللغو والرفث، وطُعْمةً للمساكين، يخرجها المرءُ عن نفسه وعمّن يموّنه سائرَ عامِه، ووقتُ إخراجِها الفاضل يومَ العيد قبل الصلاة.

ألا تقبَّلَ اللهُ منكم، وأَتَمَّ عليكم فرحتَكم، وعيدُكم عيدُ القبولِ والبركةِ والغفران، بإذنِ الواحدِ الرحمن المنّان.

الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي