لقاؤنا اليوم مع "العشر الأواخر"، ومع "ليلة القدر"، ومع ختام الشهر، ومع وداع شهر رمضان المبارك، فهذه هي الجمعة الأخيرة من هذا الشهر العظيم. فليلة القدر، أي: الليلة التي تضيق الأرض بالملائكة من كثرتهم، أو ليلة القدر حيث يأمر الله -عز وجل- الملائكة أن يكتبوا أقدار الناس وأرزاقهم وأعمارهم، فهي ليلة يظهر فيها ما قدره الله في ذلك العام، إلى آخر المعاني الجليلة التي تحويها وتشملها...
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا كما يحب ربنا ويرضى، كل ذي مُلك مملوك لله، وكل ذي عزة فغالبه الله، وكل ذي قوة فضعيف عند الله، وكل جبار فصغير عند الله، وكل ظالم لا محيص له من الله.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم- عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
أوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله، وأحثكم على طاعته، وأحذركم وبال عصيانه ومخالفة أمره، وأستفتح بالذي هو خير: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة:7-8].
أما بعد: فيا إخوة الإيمان والعقيدة، لقاؤنا اليوم مع "العشر الأواخر"، ومع "ليلة القدر"، ومع ختام الشهر، ومع وداع شهر رمضان المبارك، فهذه هي الجمعة الأخيرة من هذا الشهر العظيم.
والعشر الأواخر -أيها الإخوة الكرام- هي ختام الشهر، وثلثه الأخير؛ وقد بيّن -عليه الصلاة والسلام- في الأحاديث الصحيحة الصريحة المتعددة قيمة هذا الشهر، وقيمة عشره الأواخر وأوتاره ولياليه.
ومن هذه الأحاديث التي أخرجها البخاري ومسلم -رحمهما الله- وغيرهما من أهل الحديث والسنة ما يدل على التماس ليلة القدر في العشر الأواخر؛ ومنها ما يدل على التماس ليلة القدر في أوتار العشر الأواخر: "التمسوها في تسع بقين، أو سبع بقين، أو خمس بقين، أو ثلاث بقين، أو في آخر ليلة".
"لتسعة بقين" يعني: يبقى تسع ليالٍ، أي ليلة الحادي والعشرين، "ولسبع بقين" أي: ليلة الثالث والعشرين، "ولخمس بقين" أي: ليلة الخامس والعشرين، "ولثلاث بقين" أي: ليلة السابع والعشرين، أو في آخر ليلة أو ليلة التاسع والعشرين "لواحدة بقين". وفي رواية: "التمسوها في آخر ليلة".
روايات متعددة، منها أنه -صلى الله عليه وسلم- اعتكف في العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف في العشر الأوسط، ثم قيل له إنها في العشر الأواخر فقال: "من أراد أن يلتمسها فليتلمسها في العشر الأواخر".
ثم يوم أو ليلة عشرين رآها النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوم، رأى أنه يسجد ليلتها في ماء وطين، فأصبح ليلة عشرين يخبرهم: إني رأيتني أسجد في ماء وطين. وهو ليلة القدر.
يقول الرواة في الأحاديث الصحيحة: فكان المغرب من ليلة إحدى وعشرين من رمضان فجاءت سحابة وامتلأ الجو بالسحب بعدها، ثم نزل المطر، وكان العريش فوقنا جريد النخل، فنزل المطر إلى المسجد، فصلى -عليه الصلاة والسلام- الصبح وإن جبينه وأنفه عليه ماء وطين، فكان هذا مفهوما منه أنه ليلة إحدى وعشرين.
وفي رواية أيضا صحيحة: "التمسوها ليلة ثلاث وعشرين"، وقد أُريها -عليه الصلاة والسلام-، وأُري فيها أنه يسجد في ماء وطين أيضا، مع صحة الحديث واختلاف الراوي.
وفي رواية كذلك، قال: " أرى رؤياكم قد تواطأت في السّبع الأواخر"، على أنها ليلة سبع وعشرين، "فالتمسوها ليلة سبع وعشرين".
ولما قيل لأبي بن كعب -رضي الله عنه-: إن أخاك عبد الله بن مسعود يقول: "من يقم الحول يصب ليلة القدر"، وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- يرى أن ليلة القدر في الحول كله وليس في وقت محدد، تطوف في الحول وتدور في أيام الحول الهجري، فيقول: "مَن يقم الحول"، أي: الذي يقوم جميع ليالي السنة، "يُصِبْ ليلة القدر".
فقال أبي بن كعب: "رَحِم الله أخي ابن مسعود! إنه لَيَعلم أنها في رمضان، وأنها في العشر الأواخر، وأنها في أوتارها، وأنها ليلة سبع وعشرين؛ ولكن أراد ألّا يتكل الناس على ليلة واحدة".
أقوال متعددة، نظر العلماء فيها فرأوا أن الجمع بين هذه الأقوال يدل على أن ليلة القدر غير ثابتة في ليلة واحدة، قد تكون في عامٍ ليلةَ إحدى وعشرين، وقد تكون في عام آخر ليلة ثلاث وعشرين، وقد تكون في عام ثالث ليلة خمس وعشرين، وقد تكون في عام رابع ليلة سبع وعشرين، وقد تكون في عام خامس ليلة تسع وعشرين؛ من أجل الأحاديث الصحيحة الصريحة التي رئيت ليلة القدر فيها في أوتار هذه الليالي العشر.
ليلة القدر، ليلة العظمة، القدر هو المكانة والعظمة، فهي ليلة عظيمة جليلة كريمة، أو ليلة فيها تضيق الأرض بالملائكة المقربين الذي ينزلون إلى الأرض، ليلة ضيق الأرض بالملائكة مأخوذ من قوله -تعالى-: (وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ)، قُدِر أو ضُيِّق، (فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ)، أي: لن نضيق عليه.
فليلة القدر، أي: الليلة التي تضيق الأرض بالملائكة من كثرتهم، أو ليلة القدر حيث يأمر الله -عز وجل- الملائكة أن يكتبوا أقدار الناس وأرزاقهم وأعمارهم، فهي ليلة يظهر فيها ما قدره الله في ذلك العام، إلى آخر المعاني الجليلة التي تحويها وتشملها وتعنى بها ليلة القدر.
إخوة الإيمان والعقيدة: إننا نعيش هذه الأيام الكريمة الجليلة العظيمة، وكما تعلمون فإن الأمور بخواتيمها، ومما أثر عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه كان يدعو ويقول: "اللهم اجعل خير عمري أواخره، وخير أيامي خواتيمها، وخير عملي خواتيمه، وخير أيامي يوم أن ألقاك".
فإذا ما اجتهدنا وصدقنا في هذه الأيام الأخيرة فإن الله -عز وجل- يعظم الأجر ويكثر المثوبة، والذي يجتهد في آخر الشهر خير من الذي يجتهد في أوله ثم يتكاسل في آخره، والذي يبقى مع ربه -عز وجل- في جد ونشاط يتحين نفحات مولاه ويضاعف جهوده وهو يقول: قد تكون هذه الليلة هي آخر ليلة من حياتي؛ فيجتهد، ليلقى الله -عز وجل- وهو مقبل عليه، وهو مكثر من ذكره، وهو مجدّ في طاعته، فما (تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ).
والنبي -عليه الصلاة والسلام- اعتكف في شهر رمضان، كله واعتكف في عشره الأواخر كثيرا، وكان ينصب له خيمة صغيرة في أواخر المسجد لينعزل عن الناس إلا في أوقات الصلاة أو الموعظة، يلتمس الخير وليلة القدر.
إخوة الإيمان والعقيدة: إننا في هذه الأيام الكريمة بحاجة إلى أن نستحث الهمم، ونستنهض العزائم، ونتوجه إلى الله -عز وجل- قبل فوات هذا الشهر، وقبل انصرام أيامه ولياليه.
وأعظم شيء ينفعنا في هذه الأيام بعد فريضة الصيام والصلاة وما افترض الله علينا أن نجدد التوبة والاستغفار كل حين؛ لنكون ممن يحبه الله -عز وجل-؛ فإنه سبحانه يحب التوابين ويحب المتطهرين.
ما أحوجنا إلى أن نبتعد عن الظلم بكل أنواعه، فالظلم ظلمات يوم القيامة، واتق دعوة المظلوم فإنها ترفع فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب -عز وجل-: "وعزتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين!".
ولنبتعد عن الشحناء والبغضاء والحسد والحقد، فإن الشحناء والخصومة والمنازعة كانت سببا في عدم بيان ليلة القدر، فقد قال -عليه الصلاة والسلام- فيما صح عنه: "أريت ليلة القدر فخرجت لأبينها لكم فرأيت رجلين يتحقّان -أي كل يطلب الحق من صاحبه- أو يتخاصمان ويتنازعان؛ فأنسيتها أو فنسيتها أو فرفعت".
ومعنى رفعت، أي: رفع بيان موعدها وليلتها؛ لكنها لم ترفع حقيقة لأنه كان يأمر بالتماسها، فهي موجودة كما صحت بهذا الأحاديث، "إنما رفع بيان ليلتها" رفعت وأنسيها -عليه الصلاة والسلام- من أجل شحناء أو خصومة أو منازعة بين رجلين من أصحابه!.
انظروا -أيها الإخوة- ما للمعصية أو للشحناء والخصومة من شؤم لا يرجع إلى الرجلين أو المتخاصمين فحسب؛ بل يرجع إلى الأمة كلها!.
إذاً؛ قد يكون الذنب من البعض يرجع شؤمه على من حوله، على أهل بيته وعلى من حوله من الناس، بل على الكثيرين من خلق الله -عز وجل-، فللمعصية شؤم لا يقتصر على فاعلها، وللذنوب آثار لا تكون لمن اقترفها فقط؛ إنما يعم البلاء كثيرا من الناس، حتى الحيوانات والبهائم.
إخوة الإيمان: هذه المعاني تأمرنا وتحثنا على تصفية القلوب، وتطهير النفوس، وإزالة أدرانها وأحقادها وضغائنها وشحنائها، حتى تكون قلوبنا سليمة، فإن هذه الدنيا لا تستأهل من أصحابها أن يحقد بعضهم على بعض أو يحسد بعضهم بعضا أو يخاصم بعضهم بعضا، هي أهون من أن تستحق ذلك، فهي لا تساوي عند الله جناح بعوضة!.
وهناك في نفوس المؤمنين من الكرم والسماحة ما يتعالى على هذه المنازعات والمخاصمات؛ فإن من الناس من يتنازل عن حق كبير له على صاحبه، وإن من الناس من يتبرع بمال كثير لآخر في حاجة إليه، وإن من الناس من يتنازل عن حقه الكبير في هذه الدنيا عندما يطلب منه أن يحلف على ذلك الحق.
إن من الناس المؤمنين من تهون عليهم الدنيا عندما يروا الطرف الآخر يقاتل لأجلها ويخاصم، هناك نفوس أبية كريمة، هناك نفوس تجود بالخير ولا تبخل به، هناك نفوس تتعالى على الشح والبخل والطمع، تلك النفوس هي التي غمرها الإيمان وخالطتها بشاشته، ورأت حقيقة هذه الدنيا، وأنه ليس للإنسان منها إلا ما أكل فأفنى، ولبس فأبلى، وتصدق فأبقى.
اللهم إنا نسألك في هذه الأيام الكريمة أن تمن علينا جميعا بما مننت به على عبادك الصالحين، اللهم وفقنا لتوبة صادقة نصوح، اللهم اكفف نفوسنا عن الحرام، اللهم أغننا بالحلال.
اللهم وفق شبابنا ونساءنا وصغارنا للاستقامة على هذا الدين، والالتزام بتعاليمه، اللهم ارزقنا في هذه الأيام وما بعدها الإخلاص الدائم، والاستقامة الصادقة، اللهم اجعلنا من عبادك المتقين المقبولين.
وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون...
الحمد لله حمدا كثيرا كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغاما لمن جحد به وكفر.
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدا -صلى الله عليه وسلم- الشفيع المشفع في المحشر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه المصابيح الغرر، ما اتصلت عين بنظر، ووعت أذن بخبر.
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله العظيم حق تقواه، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه، وتزودوا من دنياكم لآخرتكم بعمل يرضاه، واعلموا أنه لا يضر وينفع ويصل ويقطع ويفرق ويجمع ويعطي ويمنع إلا الله.
واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ به بنفسه، وثنى بملائكة قدسه، وثلّث بالعالم جنه وإنسه، قال -تعالى- ولم يزل قائلا عليما، آمرا حكيما: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي