في هذا اليوم المبارك العظيم تظهر أخلاق الأمم وقيمها وفضائلها، تظهر استقامتها على دينها، فالأمة المستقيمة، الأمة الصالحة، الأمة التي تدين بالإسلام وتسير على نهج النبي محمد -عليه الصلاة والسلام- تتجلى أخلاقها في هذا اليوم أكثر من أي يوم آخر. أخلاق الرحمة، أخلاق التعاطف، أخلاق التزاور، أخلاق الصفاء، أخلاق المحبة، أخلاق السلام، أخلاق البذل والعطاء، أخلاق الاستقامة على هذا الدين؛ فَلْنَنْظُرْ إلى هذه الأخلاق الكريمة، ولْنُبَادِرْ إلى تمثّلها والقيام بها.
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله نحمده ونستعين به ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فلن تجد له وليا مرشدا.
عيد الفطر، كما أخبر عنه -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كان يوم الفطر وقفت الملائكة على أبواب الطرقات، فيقولون: أيها الناس، اغدوا إلى ربٍّ كريم، يمنّ بالخير، ويعطي عليه الثواب الجزيل، لقد أمركم الله بصيام رمضان فصمتم، وأمركم نبيه -صلى الله عليه وسلم- بقيام ليله فقمتم، وأطعتم ربكم، فخذوا جوائزكم، وانصرفوا إلى رحالكم مغفورا لكم"، كما يقول -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الطبراني في المعجم الكبير.
يا رب! يا من تهب الكثير، وتجبر القلب الكسير، وتغفر الزلات، وتقول: هل من سائل مستغفر أو تائب أقضي له الحاجات؟ يا ربنا، يا سامع الأصوات، ويا مجيب الدعوات، اغفر لنا أجمعين.
وأشهد أن سيدنا ونبينا وعظيمنا محمدا -صلى الله عليه وسلم- عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أرسله الله رحمة للعالمين، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، واللواء المعقود، والشفاعة العظمي يوم القيامة.
هو الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، صلى الله عليه وسلم في الأولين وفي الآخرين، وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين، سيدي أبا القاسم يا نور قلبي يا رسول الله.
أوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله، وأحثّكم على طاعته، وأحذركم وبال عصيانه ومخالفة أمره.
وأستفتح بالذي هو خير: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة:7-8].
إخوتي في الله، وأحبابي في رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن هذا اليوم يوم جمُعةٍ ويوم عيد، يومٌ اجتمع فيه عيدان، يوم من أيام الله -عز وجل-، يغدق الله الفضل فيه لعباده، ويعطيهم من الرحمات والجزاء الأوفى ما لا يحصيه ولا يعده إلا الله.
أيها الإخوة: إن الناس اليوم ينظر كل منهم إلى الشهر الذي مضى وودع نظرة ملؤها الاعتراف بالتقصير، نظرة يقول بلسان حاله صاحبها:
فيا شَهْرَ الصيامِ فَدَتْكَ نفْسِي *** تَمَهَّلْ في الرحيلِ والانتقالِ
فما أدري إذا ما الحولُ وَلَّى *** وَعُدتَّ بقابلٍ في غير حالِ
أتلقاني مع الأحياءِ حَيَّاً *** أمَ اْنَّكَ تلْقَنِي في اللَّحْدِ بالِي
فتلكَ طبيعةُ الأيَّامِ فِينَا *** فِراقٌ بعدَ جمْعٍ واكتمالِ
وهذي سُنَّةُ الدُّنْيا دواماً *** يُبَدّدُ نورَها بعد الكمالِ
إن الناس في شهر رمضان ينظرون إليه بعد انصرامه وانتهائه وهم أصناف: صنف بذلوا الغاية والجهد فصاموا وقاموا وقرؤوا ودعوا وفعلوا الصالحات وأحسنوا لله وتقربوا إليه، ولم يدعوا بابا من أبواب الخير إلا طرقوه، ولا نوعا من أنواع الطاعات إلا فعلوه.
فهنيئا لهم! وطوبى لهم! وعليهم الشكر لله على هذا التوفيق وهذه النعمة التي أسداها الله لهم وأعانهم عليها.
وصنف ثانٍ قصّر في شهر رمضان، فارتكب بعض الأخطاء، وقصّر في الطاعات، ولم يبذل الجهد المطلوب، فرّط وأسرف وانحرف واعتزل، وخلط عملا صالحا وآخر سيئا، وهذا الصنف أولى بالندم، وأولى بالاستغفار والتوبة، وأن يعاهد ربه الذي خلق الشهور كلها -وهو خالق كل شيء- أن يتدارك ما فات.
فمن رحمة الله بهذه الأمة أنه لم يغلق لهم باب الخير والتوبة؛ بل باب التوبة مفتوح، وباب الرجوع إليه غير موصد في كل لحظة وفي كل حين، فالله -عز وجل- يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها.
فلْيُبَادِرْ مَن شعَر بتقصير في هذا الشهر إلى التوبة والإنابة، وإلى تدارك ما فات بالذكر والدعاء والاستقامة.
وصنف ثالثٌ كان تفريطه فيه منهجا، فلا صام ولا صلى، ولا قام ولا دعا، صنف انحرف عن منهج الله، وتراكمت الشهوات على نفسه، والذنوب على قلبه، فأظلم وانحرف، وهذا الصنف يوشك أن يأخذه الله أخذ عزيز مقتدر؛ فالله يمهل ولا يهمل، فعليه أن يعلم أن نذير الموت آتٍ في كل يوم من أمراض وأوجاع.
والمنية تختطف بأمر الله ومشيئته وقدَره مَن أراد الله انقضاء حياته، صغيرا أو كبيرا، صحيحا أو عليلا، فالموت لا يعرف نوعا واحدا من البشر، إنه شيء كتبه الله على كل حي، فقد يأخذ الصحيح والصغير قبل المريض والكبير.
وهذا الصنف الثالث عليه أنْ يعلم أنه ليس بِمُعْجِزٍ في الأرض، وأنه لم يخلق عبثا، وأنه قادم على الله، فإما أن يقبل على الله فيحبه الله، وإما أن يعرض فيأخذه الله وهو له كاره؛ فيخسر الدنيا والآخرة.
إخوة الكرام: في هذا اليوم المبارك العظيم تظهر أخلاق الأمم وقيمها وفضائلها، تظهر استقامتها على دينها، فالأمة المستقيمة، الأمة الصالحة، الأمة التي تدين بالإسلام وتسير على نهج النبي محمد -عليه الصلاة والسلام- تتجلى أخلاقها في هذا اليوم أكثر من أي يوم آخر.
أخلاق الرحمة، أخلاق التعاطف، أخلاق التزاور، أخلاق الصفاء، أخلاق المحبة، أخلاق السلام، أخلاق البذل والعطاء، أخلاق الاستقامة على هذا الدين؛ فَلْنَنْظُرْ إلى هذه الأخلاق الكريمة، ولْنُبَادِرْ إلى تمثّلها والقيام بها.
في هذا اليوم ينبغي أن يظهر برّ الوالدين في أبهى صوره، فلا عقوق ولا عصيان ولا قطيعة، إنما هو ود وحب وتواضع، وطاعة وتقرب إلى الوالدين إن كانا من الأحياء، وإلا فالدعاء لهما والصدقة لهما والاستغفار لهما وإكرام صديقهما وإنفاذ عهدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، هذا بعض حقهما على ولدهما أو بنتهما.
وصلة الأرحام كذلك، فـ "الرحم معلقة بالعرش، تقول: مَن وصَلَنِي وصله الله ومن قطعني قطعه الله".
فلنبادر أيها الإخوة بصلة أرحامنا، كلّ واحدٍ على حسبه وحسب قدرته وإمكانه.
وأفضل الصدقة الصدقة على ذي الرحم الكاشح، أي: الذي يبغضك أو يضمر البغضاء والعداوة، تراه مقطوعا بعيدا معرضا، فأنت تتصدق له وتعطيه وتصل هذا الرحم الذي قطعك، فهو أعظم صلة.
كذلك الصحابي الذي جاء للرسول -صلى الله عليه وسلم-، قال: إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "إن كنت كما تقول فكأنما تسفهم الْمَلّ -أي: تُطعمهم الرماد الحار؛ إحراجا وإيقافا عند الحد، وتفضّلا عليهم، وإظهارا لتقصيرهم- ولا يزال معك من الله ظهيرٌ -أي: مُعين وناصر- عليهم ما دمت على ذلك".
في هذا اليوم -أيها الإخوة- يتواصل الأقرباء والمسلمون جميعا بصلة الإيمان، ووشيجة هذا الدين، فيتصافح الناس جميعاً، فلا بغضاء ولا ضغينة، وتُرفع الأعمال إلى الله إلا أعمال المتخاصمين، ترفع في أيام معينة، وينظر الله إلى عباده بالرحمة والمغفرة، فنظرة بعين رضاه تجعل الكافر وليا، وقطرة من فيض جوده تملأ الأرض ريا، وهكذا؛ إذا نظر الله لعبده بعين الرضا أنزل عليه الرحمة والمغفرة.
الإخوة الكرام: الأولى بنا كذلك مع هذه الصلة وهذه العلاقة الأكيدة والوطيدة أن نبتعد عن كل ما نهى الله عنه من وجوه المنكرات وأصناف الآثام، أن نبتعد عن الاختلاط قدر الإمكان، ألا يختلط الأجنبي بالأجنبية، فكثير من المقصرين والغافلين ربما يفسدون عبادتهم ويضيعون ثواب قرباتهم بالمعاصي والآثام.
ومن علامة قبول الله للطاعة أن يوفقك إلى طاعة بعدها، وأن يعينك على قربة عقبها، ومن علامة الرد والخسران أن تترك الطاعة وتنقلب إلى العصيان؛ فلو وفقت لكان حبل الطاعة ممدودا، وكان طريق الخير مشدودا، وكان توجهك إلى الله دائما غير مقطوع.
أخوتي الكرام: إذا قدر أحدنا أن يصبح ويمسي وليس في قلبه غل لأحد فَلْيَفْعَلْ؛ فإن ذلك من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومَن أحبّ سنة المصطفى -عليه الصلاة والسلام- كان معه بالمحبة والاتباع والذكر في الدنيا، وكان معه بالقرب والمنزلة في الآخرة.
تصفو القلوب، وتتزكى النفوس، وتستقيم على هذه الطاعة العظيمة، ونتذكر إخواناً لنا، أحياء وأمواتاً.
أما الأحياء فنتذكرهم بالدعاء، ونمد لهم يد العون قدر الإمكان، فالله سائلنا عن قدرتنا وإمكاناتنا ومساعداتنا الممنوحة والممنوعة لإخواننا في الدين مهما قربوا أو بعدوا، نتذكر أحوالهم ونستعرض ما يعرض لهم، ونحاول إيصال النفع إليهم بكل أنواعه وجميع أشكاله، فهذه أمانة، وهذا علامة الإيمان.
وإخوان لنا أيضا نتذكرهم، نتذكر إخوانا لنا قد انتهت آجالهم وأصبحوا تحت التراب من قريب أو بعيد، ندعو لهم ونستغفر لهم، ونسأل الله أن يزيل همومهم ويعافيهم في الآخرة، وأن يجعلهم ممن سلموا من عذاب الله، ونالوا المقامات العُلَى عند الله.
الإخوة الكرام: نحسن إلى الجيران وإلى الأصحاب والأصدقاء، ونبذل الجهد والطاقة في سبيل العون والمعونة؛ حتى ننال عون الله وتوفيقه ورضاه وتسديده.
هكذا نستشعر بالعيد بُعد الطاعة، وهكذا تتواصل أيام المسلم قربة إلى الله، وطاعة لله، ومحبة لله، وتمسكا في وشائجه مع عباد الله، حتى يستشعر أنه عضو في الجسد الإسلامي الكبير، إذا اشتكى منه جانب تداعى منه الجانب الآخر.
أسأل الله جل وعلا أن يديم لنا التوفيق إلى طاعاته، وأن يعيننا على قرباته، وأن يصفي قلوبنا من أحقادها وأضغانها، وأن يبعثنا بالإيمان تجديدا وتوفيقا، وأن يجعلنا ممن رضي عنهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله حمدا كثيرا كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك إرغاما لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً -صلى الله عليه وسلم- الشفيع المشفع في المحشر، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم، فاتقوا الله العظيم حق تقواه، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه، وتزودوا من دنياكم لآخرتكم عملا يرضاه، واعلموا أنه لا يضر وينفع ويصل ويقطع ويفرق ويجمع ويعطي ويمنع إلا الله.
واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكة قدسه، وثلّث بالعالم جنه وإنسه، قال -تعالى-، ولم يزل قائلا عليما، وآمرا حكيما: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي