لقد كان في قصصهم عبرة

محمد بن مبارك الشرافي
عناصر الخطبة
  1. قصة عتبة مع النبي ومساومته له .
  2. دروس وعبر من قصة عتبة مع النبي .
  3. قصة في حماية الله للرسول وحفظه له .
  4. قصة أبي مسلم الخولاني مع الأسود العنسي .
  5. دروس وعبر من قصة أبي مسلم الخولاني مع الأسود .

اقتباس

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ الْقَصَصَ جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ اللهِ يُثَبِّتُ اللهُ بِهَا قُلُوبَ الْعِبَادِ، فَكَمْ مِنْ قِصَّةٍ أَثَّرَتْ فِي حَيَاةِ إِنْسَانٍ فَغَيَّرَتْ مَسَارَهُ، وَكَمْ مِنْ مَوْقِفٍ اعْتَبَرَ بِهِ صَاحِبُ نَفْسٍ أَبِيَّةٍ فَاسْتَفَادَ مِنْهُ وَانْطَلَقَ فِي مِضْمَارِهِ. وَمَعَنَا فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ قِصَصٌ جَمِيلَةٌ، و...

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ للهِ الْقَائِلِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ)[يوسف: 111].

وَالْحَمْدُ للهِ الذِيْ أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ فِي مُحْكَمِ تَنْزِيلِهِ قَوْلَهُ عز وجل: (وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود: 120].

أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَكَمْ قَصَّ عَلَيْنَا مِنْ قَصَصٍ فِيها عِبَر، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً.

أَمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وَاعْتَبِرُوا بِسَلَفِ أُمَّتِكُمْ، وَكُونُوا أَصْحَابَ قُلُوبٍ حَيَّةٍ تَنْتَفِعُ بِالأَخْبَارِ وَالسِّيَرِ، وَتَقْتَدِي بِالأَخْيَارِ، وَأَصْحَابِ الْمَوَاقِفِ الْحَيَّةِ وَالْعِبَر.

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ الْقَصَصَ جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ اللهِ يُثَبِّتُ اللهُ بِهَا قُلُوبَ الْعِبَادِ، فَكَمْ مِنْ قِصَّةٍ أَثَّرَتْ فِي حَيَاةِ إِنْسَانٍ فَغَيَّرَتْ مَسَارَهُ، وَكَمْ مِنْ مَوْقِفٍ اعْتَبَرَ بِهِ صَاحِبُ نَفْسٍ أَبِيَّةٍ فَاسْتَفَادَ مِنْهُ وَانْطَلَقَ فِي مِضْمَارِهِ.

وَمَعَنَا فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ قِصَصٌ جَمِيلَةٌ، وَحِكَايَاتٌ نَبِيلَةٌ، أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَنْفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِهَا.

رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ -رحمه الله- فِي السِّيَرِ: أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ لَمَّا رَأَى هُوَ وَمُشْرِكُو قُرَيْش أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- صَارُوا يَكْثُرُونَ، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مُسْتَمِرٌّ فِي دَعْوَتِهِ، فَقَالَ عُتْبَةُ وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْمُشْرِكِينَ: "يَا مَعْشَرَ قُرَيْش، أَلا أَقُومُ إِلَى مُحَمَّدٍ فَأُكَلِّمَهُ وَأَعْرِضَ عَلَيْهِ أُمُورَاً لَعَلَّهُ يَقْبَلُ بَعْضَهَا فَنُعْطِيَهُ إِيَّاهَا وَيَكُفَّ عَنَّا، فَقَالُوا: بَلَى يَا أَبَا الْوَلِيدِ، فَقُمْ إِلَيْهِ وَكَلِّمْهُ.

فَقَامَ عُتْبَةُ حَتَّى جَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي إِنَّكَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ مِنَ الشَّرَفِ فِي الْعَشِيرَةِ وَالْمَكَانِ فِي النَّسَبِ، وَقَدْ أَتَيْتَ قَوْمَكَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ فَرَّقْتَ بِهِ جَمَاعَتَهُمْ، وَسَفَّهْتَ بِهِ أَحْلامَهُمْ، وَعِبْتَ بِهِ آلِهَتَهُمْ وَدِينَهُمْ، وَكَفَّرْتَ بِهِ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ... فَاسْمَعْ مِنِّي حَتَّى أَعْرِضَ عَلَيْكَ أُمُورَاً تَنْظُرُ فِيهَا لَعَلَّكَ تَقْبَلَ مِنْهَا بَعْضَهَا.

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا أَبَا الْوَلِيدِ أَسْمَعُ" قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ هَذَا الأَمْرِ مَالاً جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا، حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالاً.

وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ شَرَفَاً سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا، حَتَّى لا نَقْطَعَ أَمْرَاً دُونَكَ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ مُلْكَاً مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا.

وَإِنْ كَانَ هَذَا الذِي يَأْتِيكَ رِئِيًّا تَرَاهُ -مِنَ الْجِنِّ- لا تَسْتَطِيعُ رَدَّهُ عَنْ نَفْسِكَ طَلَبْنَا لَكَ الطِّبَّ وَبَذَلْنَا فِيهِ أَمْوَالَنَا حَتَّى نُبْرِئَكَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا غَلَبَ التَّابِعُ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يَتَدَاوَى مِنْهُ.

حَتَّى إِذَا فَرَغَ عُتْبَةُ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَفَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟" قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "اسْمَعْ مِنِّي" قَالَ: افْعَلْ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)[فصلت: 1-3] فَمَضَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي السُّورَةِ يَقْرَأُهَا، فَلَمَّا سَمِعَ بِهَا عُتْبَةُ أَنْصَتَ لَهَا وَأَلْقَى بِيَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ يَسْتَمِع، حَتَّى انْتَهَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى السَّجْدَةِ فَسَجَدَهَا، ثُمَّ قَالَ: "سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟" قَالَ: سَمِعْتُ، قَالَ: "فَأَنْتَ وَذَاكَ".

ثُمَّ قَامَ عُتْبَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: نَحْلِفُ بِاللهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الذِي ذَهَبَ بِهِ، فَلَمَّا جَلَسُوا إِلَيْهِ قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ قَالَ: وَرَائِي أَنِّي وَاللهِ قَدْ سَمِعْتُ قَوْلاً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَاللهِ مَا هُوَ باِلشِّعْرِ وَلا الْكَهَانَةِ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَطِيعُونِي وَاجْعَلُوهَا بِي، خَلُّوا بَيْنَ هَذَا الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ وَاعْتَزِلُوهُ، فَوَاللهِ لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ الذِي سَمِعْتُ نَبَأٌ عَظِيمٌ، فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ وَعِزُّهُ عِزُّكُمْ، وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ، قَالُوا: سَحَرَكَ وَاللهِ يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ، قَالَ: هَذَا رَأْيِي لَكُمْ، فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ.

فَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ الْعِبْرِ: أَنَّ الإِسْلامَ بَدَأَ غَرِيبَاً ضَعِيفَاً، ثُمَّ انْتَشَرَ وَقَوِيَ، فَاللهُ -عز وجل- كَفِيلٌ بِنُصْرَةِ دِينِهِ، وَإِعْلاءِ كَلِمَتِهِ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَثِقَ بِرَبِّنَا، فَمَهْمَا قَوِيَ الْبَاطِلُ وَكَثُرَ أَهْلُهُ فَمَصِيرُهُمْ إِلَى الْخَسَارَةِ وَالثُّبُورِ، قَالَ اللهُ -تعالى-: (قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ) [سبأ: 49].

وَمِنَ الْعِبَرِ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا مِنَ الْقِدَمِ يَجْتَهِدُونَ فِي رَدِّ الْحَقِّ، بِالْقُوَّةِ تَارَةً وَبِاللِّسَانِ تَارَةً، فَحَرِيٌّ بِنَا أَهْلَ الإِسْلامِ أَنْ نُدَافِعَ عَنْ دِينِنَا وَنَقِفَ سَدَّاً مَنِيعَاً فِي وَجْهِ أَعْدَائِهِ مِنَ الْكُفَّارِ الْخَارِجِيِّيْنَ وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْعَلْمَانِيِّينَ.

وَمِنَ الْعِبَرِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ: أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللهِ تَكُونُ بِالْقُرْآنِ فَهُوَ أَعْظَمُ كِتَابٍ وَأَصْدَقُ خِطِابٍ، فَتَأَمَّلُوا كَيْفَ أَثَّرَ الْقُرْآنُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الْمُشْرِكِ، حَتَّى فِي وَجْهِهِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ عَرَفُوا تَأَثُّرَهُ، فَأَيْنَ الدُّعَاةُ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الدَّعَوِيَّةِ؟ وَمِنْ هَذِهِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، قَالَ اللهُ -تعالى-: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)[الإسراء: 9].

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَأَمَّا الْقِصَّةُ الثَّانِيَةُ: فقد وقعت فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ حَيْثُ إِنَّ رَجُلاً مِنَ الْمُسلِمِيْنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَصَابَ امْرَأَةَ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَأَنْ قَتَلَهَا، فَحَلَفَ زَوْجُهَا أَنْ لاَ أَنْتَهِيَ حَتَّى أُهْرِيقَ دَمًا فِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ.

فَخَرَجَ يَتْبَعُ أَثَرَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابِه، وَكَانَوا قَدْ نَزَلُوا إِلَى شِعْبٍ مِنَ الْشِّعَاب، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَجُلٌ يَكْلَؤُنَا؟" فَانْتَدَبَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ -رضي الله عنهما-، فَقَالَ: "كُونَا بِفَمِ الشِّعْبِ".

فَقَامَا رضي الله عنهما يَحْرُسَانِ، فَرَأَى عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ -رضي الله عنه- أَنَّ صَاحِبَهُ عَمَّارَاً مُجْهَدٌ، فَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَنَامَ أَوَّلَ اللَّيْلِ عَلَى أَنْ يَقُومَ هُوَ بِالْحِرَاسَةِ حَتَّى يَأْخُذَ صَاحِبُهُ قِسْطَاً مِنَ الرَّاحَةِ تُمَكِّنُهُ مِنْ اسْتِئْنَافِ الْحِرَاسَةِ بَعْدَ أَنْ يَصْحُو.

وَرَأَى عَبَّادٌ أَنَّ الْمَكَانَ مِنْ حَوْلِهِ آمِنٌ فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: لِمَ لا أَشْغَلُ وَقْتِي بِالصَّلاةِ؟ فَقَامَ رضي الله عنه يُصَلِّي، وَأَتَى الرَّجُلُ الْمُشْرِكُ فَلَمَّا رَأَى شَخْصَهُ عَرَفَ أَنَّهُ رَبِيئَةٌ لِلْقَوْمِ، أَيْ طَلِيعَتُهُمْ وَحَارِسُهُمْ، فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ فَلَمْ يُخْطِئْهُ، فَنَزَعَهُ مِنْ يَدِهِ وَاسْتَمَرَّ فِي صَلاتِهِ وَلَمْ يَقْطَعْهَا لاشْتِغَالِهِ بِحَلَاوَتِهَا عَنْ مَرَارَةِ أَلَمِ الْجُرْحِ، فَرَمَاُه بِسَهْمٍ ثُمَّ بِسَهْمٍ حَتَّى رَمَاهُ بِثَلاَثَةِ أَسْهُمٍ، فَلَمَّا أَثْخَنَتْهُ الْجِرَاحُ رَكَعَ وَسَجَدَ، ثُمَّ انْتَبَهَ صَاحِبُهُ، فَلَمَّا عَرَفَ الْمُشْرِكُ أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا بِهِ وَأَحَسُّوا بِمَكَانِهِ هَرَبَ، وَلَمَّا رَأَى عَمَّارٌ مَا بِعَبَّادٍ مِنَ الدَّمِ قَالَ: سَبْحَانَ اللَّهِ! أَلاَ أَنْبَهْتَنِي أَوَّلَ مَا رَمَى؟ قَالَ: كُنْتُ فِي سُورَةٍ أَقْرَأُهَا - وَهِيَ سُورَةُ الْكَهْفِ - فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ أَقْطَعَهَا[أَصْلُ هَذِهِ الْقِصَّةِ عند أَبِي دَاوُود 198 وَالْبَيْهَقِيُّ من رواية جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رضي الله عنهما-، وَحَسَّنَ الْحَدِيثَ الأَلْبَانِيُّ].

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: تَأَمَّلُوا خُشُوعَهُ وَحُبَّهُ لِلصَّلاةِ وَحِفْظَهُ لِوَقْتِهِ بِالصَّلاةِ مَعَ قِيَامِهِ بِالْحِرَاسَةِ، ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ رضي الله عنهما يَكْرَهُ أَنْ يَقْطَعَ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، مَعَ مَا كَانَ يُعَانِي مِنْ آلامِ السَّهْمِ، وَلَوْلَا خَوْفُهُ رضي الله عنه عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَأَكْمَلَ السُّورَةَ وَأَتَمَّ صَلاتَهُ وَلَوْ قُتِلَ، فَأَيْنَ أُولَئِكَ الذِينَ لا يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ إِلَّا قَلِيلاً، ثُمَّ أَحَدُهُمْ لا يُكْمِلُ الْقِرَاءَةَ وَلا يَخْتِمُ السُّورَةَ لِأَنَّ جَوَّالَهُ قَدْ رَنَّ فَاشْتَغَلَ بِالسَّوَالِفِ وَالأَخْبَارِ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنَ فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

اللَّهُمَّ أَحْيِ قُلُوبَنَا وَأَيْقِظْنَا مِنْ غَفْلَتِنَا، وَأَصْلِحْ ظَاهِرَنَا وَبِاطِنَنَا.

أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالِمِينَ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَالْقِصَّةُ الثَّالِثَةُ فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ: وَقَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، حَيْثُ ادَّعَى الأَسْوَدُ العَنْسِيُّ النُّبُوَّةَ بِالْيَمَنِ، وَالْتَفَّ حَوْلَهُ جَمْعٌ كَبِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَكَانَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلانِيِّ -رحمه الله- مِمَّنَ أَسْلَمَ فِي الْيَمَنِ وَلَمْ يَرَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- بَعْدُ، وَكَانَ مَعْرُوفَاً بِالْعِلْمِ وَالصَّلاحِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ فَأُتِيَ بِهِ، فَلَمَّا جَاءَهُ قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ، قَالَ: مَا أَسْمَعُ، قَالَ: أَتْشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: مَا أَسْمَعُ، قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَرَدَّدَ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِرَارَاً، وَحَاوَلَ أَنْ يُثْنِيَهُ عَنْ دِينِهِ فَمَا قَدِرَ، فَمَا كَانَ مِنْهُ حِينَئِذٍ إِلَّا أَنْ جَمَعَ النَّاسَ، وَأَمَرَ بِنَارٍ عَظِيمَةٍ فَأُضْرِمَتْ، ثُمَّ جَاءَ بِأَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلانِيِّ -رحمه الله- فَرَبَطَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَوَضَعُوهُ فِي مِقْلاعٍ ثُمَّ رَمَوهُ فِي أَلْسِنَةِ النَّارِ وَلَظَاهَا، فَطَارَ أَبُو مُسْلِمٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا اللهَ -جل وعلا-، فَقَالَ: (حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران: 173] فَيسَقَطَ فِي وَسَطِ النَّارِ، وَانْتَظَرَ النَّاسُ، وَالنَّارُ تَخْبُو شَيْئَاً فَشَيْئَاً، وَإِذَا بِأَبِي مُسْلِمٍ قَدْ فَكَّتِ النَّارُ وَثَاقَهُ، وَلَمْ تُحْرِقْ ثِيَابَهُ، فَذُهِلَ عَدُوُّ اللهِ وَخَافَ أَنْ يُسْلِمَ مَنْ بَقِيَ مِنَ النَّاسِ، فَقَامَ يُهَدِّدُهُمْ وَيَتَوَعَّدُهُمْ.

أَمَّا أَبُو مُسْلِمٍ فَانْطَلَقَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَتَاهَا وَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه-، فَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ بِبَابِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ دَخَلَهُ وَقَامَ يُصَلِّي إِلَى سَارِيَةٍ، فَبَصُرَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- فَأَتَاُه فَقَاَلَ: مِمَّنِ الرَّجُل؟ فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، قَالَ: مَا فَعَلَ الرَّجُلُ الذِي حَرَقَهُ الْكَذَّابُ بِالنَّارِ؟ فَأَنْشُدُكَ بِاللهِ أَنْتَ هُوَ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَاعْتَنَقَهُ عُمَرُ -رضي الله عنه-، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِ حَتَّى أَجْلَسَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيق -رضي الله عنه-، فَقَالَ: الْحَمْدُ للهِ الذِي لَمْ يُمِتْنِي حَتَّى أَرَانِي مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- مَنْ فُعِلَ بِهِ كَمَا فُعِلَ بِإِبْرَاهِيم خَلِيلِ الرَّحْمَنِ[رَوَى القِصَّةَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَابْنُ عَسَاكِرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَذَكَرَهَا شَيْخُ الإِسْلَامِ - رحمهم الله – أَجْمَعِينَ].

فَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ الْعِبَرِ: أَنَّهُ يُوجَدُ مَنْ يَدَّعِي مَا لَيْسَ لَهُ وَيُوجَدُ مِنْ ضِعَافِ الْعُقُولِ مَنْ يُصَدِّقُهُ، فَهَذَا الكَذَّابُ العَنْسِيُّ ادْعَى النُّبُوَّةَ وَتَابَعَهُ مَنْ تَابَعَهُ مِنْ قَوْمِه.

وَفِيهَا: ثَبَاتُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى الْحَقِّ وَلَوْ تُوُعِدُوا بِالْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، فَفِيهَا فَضْلُ الْعُلَمَاءِ.

وَفِيهَا مِنَ الْعِبَرِ: إِثْبَاتُ كَرَامَاتِ الأَوْلِيَاءِ، وَالْوَلِيُّ هُوَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ، وَلَكِنْ لَيْسَتِ الْكَرَامَةُ شَرْطَاً لِيَكُونَ الْعَبْدُ وَلِيَّاً، خِلافَاً لِأِهْلِ البِدَعِ الذِينَ يَقُولُونَ: لَابُدَّ لِكِلِّ عَبْدٍ صَالِحٍ مِنْ كَرَامَةٍ، حَتَّى صَارُوا يَكْذِبُونَ وَيَدَّعُونَ الْكَرَامَاتِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا مِنْ ضَعْفِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ وَقِلَّةِ الْعِلْمِ، بَلْ الْوَلِيُّ هُوَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ التَّقِيُّ، قَالَ اللهُ -تعالى-: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ)[يونس: 62-63].

فَكُلُّ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ هُوَ للهِ وَلِيُّ.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ عِلْمَاً نَافِعَاً وَعَمَلاً صَالِحَاً، اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا رُشْدَنَا وَقِنَا شَرَّ أَنْفُسِنَا.

رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، وَاعْفُ عَنَّا، وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي