إخوة الإيمان: ما هي إلا أيام قلائل وليالي معدودة، ويلفظ هذا الشهر أنفاسه، ما هي إلا أيام قلائل ويمضي رمضان، يخرج رمضان وقد قَدّم فيه من قَدّم، وقصّر فيه من قصّر، يخرج الصيام شاهدًا لنا أو علينا، فمنا من صام وصامت جوارحه، صام عن الطعام وصام لسانه عن الغيبة والنميمة، صام ...
أما بعد:
إخوة الإيمان: ما هي إلا أيام قلائل وليالي معدودة، ويلفظ هذا الشهر أنفاسه، ما هي إلا أيام قلائل ويمضي رمضان، يخرج رمضان وقد قَدّم فيه من قَدّم، وقصّر فيه من قصّر، يخرج الصيام شاهدًا لنا أو علينا، فمنا من صام وصامت جوارحه، صام عن الطعام وصام لسانه عن الغيبة والنميمة، صام عن أكل الحرام وتناوله، صام سمعه عن سماع الأغاني والمجون، صامت عيناه عن النظر إلى المحرمات في الأسواق والتلفاز، صام قلبه إذ تفرغ لله رب العالمين، صام قلبه خاشعًا خائفًا من الله -تعالى-، صامت جوارحه كما صام عن الطعام والشراب.
وقام لله احتسابًا وإيمانًا، قام يصلي لله التراويح، قرأ القرآن كثيرًا في هذه الشهر، فيالها من غنيمة عظيمة، ويا لها من بشرى لهذا الرجل، وأرى نفسي مضطرًا للكلام عن مرض خطير ينتاب الناس في رمضان وفي غير رمضان، هذا المرض هو مرض الغرور، وما أدراك ما مرض الغرور الذي حذرنا الله -عز وجل- بقول: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ) [الإنفطار: 6- 8].
الغرور هذا المرض الفتّاك، هذا المرض الخطير الذي يقع فيه الناس وهم صُوّام، وهم قوّام بل ربما وهم متصدقون.
يكشف لنا القرآن الكريم عن أسبابه، فيقول الله -تعالى- عن السبب الأول من مصادر الغرور: (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [فاطر: 5].
عباد الله: وكيف لا يغتر الإنسان بالحياة الدنيا؟ كيف لا يغتر بزينة الأرض؟ كيف لا يغتر بالأولاد؟ كيف لا يغتر بالأموال؟ كيف لا يغتر بالضِياع؟ كيف لا يغتر بالزوجة؟ فالدنيا تغر العباد لذلك يحذر الله -عز وجل-: (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)[فاطر: 5].
هذا هو المصدر الأول من مصادر الغرور.
المصدر الثاني: (وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) والغرور بفتح الغين هو الشيطان اللعين، وكيف يُغّر الشيطان العباد؟ يغرهم بأن يُلبّس عليهم، بأن يهون لهم من المعاصي التي يقترفونها.
المصدر الثالث من مصادر الغرور: الأمانيّ، قال الله -عز وجل-: (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [الحديد: 14].
وتأمل كيف أن الشيطان المصدر الثاني للغرور يتكرر مع الأماني، ويتكرر مع الدنيا فكأن الشيطان يُذكي الأسباب الأخرى للغرور فيُغري بالدنيا ويُغري بالأماني، وغرتكم الأماني يتمنى أن يكون له قصر في الجنة، يتمنى أن يكون صالحًا، يتمنى أن يكون مستقيمًا ملتزمًا طائعًا لأوامر الله -عز وجل-، هذا هو رأس ماله "يتمنى" كما يتمنى في الدنيا أن يكون رئيسًا، أن يكون ثريًا كذلك يتمنى مجرد تمن للآخرة، وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور.
كذلك الابتداع في الدين، الافتراء في الدين يحمله على الغرور، تراه مبتدعًا في دين الله أورادًا وأذكارًا ما أنزل الله بها من سلطان، ألف كذا، وألف كذا، وألف كذا من الأذكار، فتراه ينطق بها ويلهج بها لسانه صباح مساء، والرسول –صلى الله عليه وسلم- يقول: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدّ".
ينفق الأموال الطائلة على الموالد والمآتم وغير ذلك مما ابتدعوه في دين الله رجاء الأجر والثواب العظيم عند الله -عز وجل-، هذا من قوله عز وجل: (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ) [آل عمران: 24].
افتروا في دين الله -عز وجل- أشياء ما أنزل الله بها من سلطان، ما سألوا عن الدليل وما استوثقوا من هذا الأمر، وما جاء فيه عن النبي –صلى الله عليه وسلم- الذي أمرنا باتباعه والاقتداء به، نسي أنه إذا نزل في القبر لم يسأل عن الشيخ الفلاني أو الفلاني، لم يُسأل عن الطريقة الفلانية والعلانية، وإنما سيُسأل عن النبي الذي بعث فيهم، فإن كان متبعًا للرسول –صلى الله عليه وسلم- أقر به وصدق ونطق بأنه رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وإن كان متبعًا لغيره ومقدمًا غيره بين يديه وراميا بحديثه عُرض الحائط، فهذا يغفل عن رسولنا – صلى الله عليه وسلم- ولا يهتدي إليه: (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء) [إبراهيم: 27].
أربعة مصادر هي مصادر الغرور: الدنيا، والشيطان، والأماني، والافتراء، وكما أن أسباب الغرور متنوعة، فكذلك المغرورون أصناف وألوان.
أول المغرورين هو: الكافر الجاحد، فيغتر بكل هذه الأسباب، فتراه مغترًا بالدنيا، فينظر إلى النعم التي يتقلب فيها فينطق أنه ما أوتي هذه النعم إلا لأنه صالح ولأنه مستحق يقول الله -عز وجل- عن الكافرين: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا) [مريم: 77-79].
ويقول الله -عز وجل- عن ذلك الكافر في سورة الكهف: (وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا) [الكهف: 36].
ويقول عن مثيله في سورة فصلت: (وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ) [فصلت: 50].
وينظر إلى تأخر العذاب عنه ويطغيه ما أعطي في الدنيا، المال في ازدياد والأولاد كما هم في نمو وازدياد، وهو مقيم على المعاصي، فإذا نظر الأمر كذلك العذاب لا يُحَل، الأموال لا تنقص فإنه يغتر بحاله وينسى أن الله -عز وجل- يستدرجه من حيث لا يعلم، فيغتر بالحالة التي هو عليها، ويقول الله -عز وجل- عن الكافرين: (وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ)[المجادلة: 8].
(فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الشعراء: 187].
اغتروا، إذا رأوا المسلمين الصالحين، المؤمنين المستقيمين على نهج الله رب العالمين فإنهم ينظرون إليهم من عَلي؛ لأنهم فقراء، لأنهم ليسوا بأغنياء ولا أثرياء فكذلك يقولون: (أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا)[الأنعام: 53].
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ)[الأحقاف: 11].
وقع بعض المسلمين فيما وقع فيه الكافرون، فاغتروا بالنعم التي تترى عليهم، واغتر بعضهم بعدم حضور المصائب واغتر بعضهم بأنه غني، وأن المتبع لدين الله -عز وجل- فقير.
ومن الغرور الذي يقع فيه بعض الناس، وهو غرور خطير، غرور الرجاء، وهل في الرجاء غرور؟ أي نعم، من الرجاء ما هو غرور.
العبد بين الخوف والرجاء في الدنيا: (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا)[الإسراء: 57].
(أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ)[الزمر: 9].
متقلب بين الأمرين يقدم الصلاة ويقدم الصيام ويقدم الصدقة ويخاف ألا تقبل منه: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا -أي من الصيام والصلاة والصدقة- وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)[المؤمنون: 60].
فيغتر فلا يعرف من دين الإسلام إلا أنه ربه غفور رحيم، إلا أن رحمته سبقت غضبه، فيتكل على رحمة الله كما زعم، وهؤلاء كما قال الحسن البصري: "يقولون نحسن الظن بالله فخرجوا من الدنيا ولم يفعلوا خير فسُقِط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا".
يقولون نحسن الظن بالله وما عملوا صالحًا، وهل يكون رجاءً بلا عمل؟ هل يكون رجاء في رحمة الله بلا توبة، وبلا استغفار وبلا صدقة وبلا صلاة، وبلا غير ذلك من الصالحات؟ لا.
استمع ماذا يقول ربك عن الذين يرجون رحمته حقًا: يقول الله -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ -أعمال صالحة- أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[البقرة: 218].
أي من آمن ومن جاهد في سبيل الله ومن هاجر، هجر المعاصي، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه وترك أرض المعصية وانطلق إلى أرض الطاعة هذا الذي يرجوا رحمة الله؛ لذلك فإن الله -عز وجل- يغفر له ذنبه.
ومن الناس من يغتر ببعض الأعمال الصالحة، وينسى مضمونها، فمن الناس من يغتر بقراءة القرآن فيفرح بجمال صوته يتغنى بالقرآن وينطق بأنه تالٍ للقرآن وينسى ما فيه من وعد ووعيد، وحلال وحرام، فيمر على الختمة، يختم القرآن مرارًا لكنه لا يتدبر، يغتاب ويفعل المعاصي، بل ربما ارتكب الموبقات من أكل الربا، وقذف المحصنات الغافلات، والزنا، وغير ذلك، وهو يظن أنه تالٍ للقرآن، وهذا من الغرور؛ لأن الله -عز وجل- يقول عن التالين لكتابه حقًا: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ)[فاطر: 29].
وذكر الله -عز وجل- صنفًا من الناس يؤمن بهذا الكتاب ويعمل به، فقال الله -سبحانه وتعالى- عنهم: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [البقرة: 121].
ومنهم من يغتر بالصيام، فتراه ممتنعًا عن الطعام والشراب لكنه يظلم العباد، يقتطع الأموال ظلمًا وعدوانًا، يأكل أموال اليتامى، لا يفتر لسانه عن القيل والقال في عباد الله عن الغيبة والنميمة، لا تفتر عيناه عن النظر إلى ما حرم الله، لا تفتر يده عن البطش، لا يفتر سمعه عن سماع ما حرم الله من الأغاني والمجون وغير ذلك والله -تعالى- يقول عن الأغاني: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا)[لقمان: 6].
ويقسم الصحابي على ذلك فيقول: "والله الذي لا إله إلا هو الغناء".
فسمعه لا يفتر عن الغناء وعما حرم الله، فهذا من الغرور؛ يقول: "كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش".
ومنهم من يتصدق ولكنه يُمن على من يتصدق عليه ويظن أنه يفعل خيرًا، ويُشهر اسمه في كل مكان بأنه قدم وأنفق والله -عز وجل- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)[البقرة: 264].
ومن الغرور الذي هو شائع بين كثير من الناس: أنهم إذا سمعوا المواعظ المبكية المؤثرة من الجنة والنار ومن الحشر ومن المعاد، وعذاب القبر، يكتفي أحدهم بأن يقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون"، ويهز رأسه ذات اليمين وذات الشمال، وكأنه عمل بهذه الموعظة ويخرج من باب المسجد ويرجع إلى ما كان عليه من المعاصي، هل هذا من الاتعاظ؟ هذا من الغرور، لا يكفي أن يهز أحدنا رأسه يمينًا وشمالاً، أو أن تدمع عيناه ثم يعود بعد ذلك إلى ما كان عليه، إنما المواعظ والخطب للعمل، إنما هذا العلم الذي نتلقاه كل جمعة إنما هو للعمل وأنت موقوف أمام الله -عز وجل- ومحاسب على علمك ما عملت به، عن هذا العلم الذي تتلقاه في كل جمعه أنفذته أم ألقيته وراء ظهرك.
احذروا -عباد الله تعالى- من الغرور، وعليكم بتقوى الله -عز وجل- في السر والعلانية، واعلموا بأنكم موقوفون أمام الله -تعالى- ومحاسبون على الصغيرة والكبيرة، ونحن في عشر كان رسولنا –صلى الله عليه وسلم- يخصه من القيام، ومن الذكر ومن العبادة ما لا يخص به العشرون المنصرفة: "كان إذا دخل العشر شد مئزره، وأيقظ أهله"، ما أخذ أهله إلى الأسواق أيامًا متتالية يلعبون ويمرحون، وإنما أيقظ أهله للصلاة ولتلاوة القرآن، أيقظ أهله وأحيا ليله، وهو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وفي هذه العشر ليلة هي خير من ألف شهر، هذه الليلة من حُرم خيرها فقد حُرم الخير كله، ومن أصاب خيرها فقد أصاب الخير كله، هذه الليلة هي ليلة القدر، ومن أحيا الأوتار من هذه العشر فهو على خير في إصابة هذه الليلة إن شاء الله، ومن أحيا هذه العشر فهو من الذين ينالون هذه الليلة إن شاء الله يقول: "من صلى مع إمامه حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة".
من انتظر مع الإمام حتى ينصرف من صلاته صابرًا محتسبًا طول القيام فإنه يكون من الذين قاموا الليل كله، هكذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وهناك آداب يفعلها المرء إذا أراد القيام إذا قام من منامه يذكر الله -تعالى- ليطرد عنه الشيطان، ولئلا يكسل عن القيام: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور".
ويستاك كما كان الرسول –صلى الله عليه وسلم- يستاك ويتوضأ وضوءه للصلاة، ويأتي إلى المسجد، ولو استطاع أن يقرأ: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ)[آل عمران: 190] إلى نهاية السورة لكان خيرًا.
ثم يدخل مع الإمام وينصت للتلاوة ويتدبر آيات الجنة وآيات النار، فهو من المخاطبين بهذه الآيات، ولا يكن ساهيًا لاهيًا، لا يكن بجسده في المسجد وقلبه في السوق وفي البيت، يتدبر كتاب الله ويتأمل فيه ويبكي ويتباكى، ويتذكر الموت الذي هو لاحق به،ويتذكر رحمة الله به إذ أمهله، حتى بلّغه مقام التوبة، يتذكر ذنوبه ولطف الله -عز وجل- به إذ لم يحاسبه ولم يعاقبه حينما كان مرتكبًا لتلك الآثام، ويركع ويعظم الرب في الركوع ويقول: "سبوح قدوس رب الملائكة والروح".
فإذا رفع قال: ربنا لك الحمد، وإذا كان في السجود أكثر من الدعاء؛ فهذا هو موطن السجود.
وبعض الناس لا يعرف الخشوع والبكاء إلا في دعاء القنوت، ويترك آيات الله التي فيها الجنة والنار، وهذا من الغرور، وهذا من الجهل وقلة التدبر في آيات الله -عز وجل-، فإذا انتهى من الصلاة فإنه يقول: سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدوس "ثلاثًا" يمد صوته ويمد أكثر في الثالثة، يفعل هذه الأمور في القيام، ثم يقرأ القرآن إن كان هناك متسع بعد ذلك في الوقت يفعل ذلك.
ويخص الليالي التي أخبر الرسول –صلى الله عليه وسلم- فيها بميعاد ليلة القدر ظنًا أكيدًا.
ومن هذه الليالي التي قالها أكثر العلماء وجاءت الأحاديث بها كثيرة: ليلة السابع والعشرين، هذه الليلة جاء عن النبي –صلى الله عليه وسلم- في بعض الأحاديث أنها ليلة القدر، ماذا نفعل في هذه الليلة؟ نقوم هذه الليلة؛ لأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قال: "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه".
وبعض الناس يخص هذه الليلة بالعمرة، بل أعرف بعضهم يأخذ العمرة في ليلة السابع والعشرين، ويطوف بالبيت ويعتمر والناس يصلون القيام، ولو ذهب مستريحًا مجمعًا لقواه، حتى يكون هناك في بيت الله في الحرم لكان خيرًا له؛ الرسول ما خص ليلة السابع والعشرين بعمرة وإنما قال: "عمرة في رمضان تعدل حجة معي".
تأتي بالعمرة أي وقت من الأوقات وتفرغ في العشر الأواخر للقيام الذي ندب الرسول إليه، فنكثر من تلاوة القرآن، ومن قول: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني".
وإنما الأعمال بالخواتيم بعض الناس تراه مقبلاً نشيطًا في أوائل رمضان ثم تراه يفتر في الأيام الأخيرة ينشغل بتجارته، ويكسل وينام في البيت، وهذا من عدم التوفيق للعبادة؛ لأن الأعمال بالخواتيم كما قال، فأروا الله من أنفسكم خيرًا في خواتيم هذا الشهر لعل الله -عز وجل- أن يصفح عنا، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله حمدًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقائد الغُرّ المحجلين، محمد صلوات الله وسلامه عليه.
أما بعد:
اعلموا -إخوة الإيمان- بأن الله -عز وجل- قد فرض لنا عبادات في نهاية هذا الشهر، هي عبادات جليلة عظيمة يختم الإنسان بها هذا الشهر الذي ربما فرط فيه وخَلّط، ومن رحمته عز وجل لعلمه سبحانه وتعالى بضعف عباده، فإنه قد شرع لنا زكاة الفطر "صدقة الفطر"، حتى نتخلص ونتطهر بها من الآثام والمعاصي التي خلطناها بالصيام، هي طهرة للصائم من اللغو والرفث من بعض الكلمات التي لا يلقى لها حسابًا ربما خرجت منه وكتبت عليه، فإذا أخرج هذه الصدقة وأراد بها وجه الله -عز وجل- فإن الله يكفر بها عنه الآثام والخطايا التي اقترفها من غير شعور.
هذه عبادة جليلة وأكدها النبي فيجب على كل إنسان منّا إخراجها عن نفسه، وكذلك عمن تلزمه مؤونته من زوجة أو قريب، وإذا لم يستطيعوا إخراجها عن أنفسهم، فإن استطاعوا فالأولى أن يخرجوها عن أنفسهم؛ لأنهم المخاطبون بها أصلاً، ولا تجب إلا عمن وجدها فاضلة زائدة عما يحتاجه من نفقة يوم العيد وليلته، فإن لم يجد إلا أقل من صاع أخرجه؛ لقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)[التغابن: 16].
وقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "فرض رسول الله –صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات"[رواه أبو داود وابن ماجة].
وما هي الشيء الذي يخرجه في صدقة الفطر يخرج من جنس الواجب في الفطرة فهو طعام الآدميين يخرج طعامًا من تمر، أو بُر، أو زبيب، أو أقِط، أو غيرهما من طعام الآدميين؛ ففي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: "فرض زكاة الفطر من رمضان صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير".
وكان الشعير يوم ذاك من طعامهم؛ كما قال أبو سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه-: "كنا نخرج في يوم الفطر في عهد النبي –صلى الله عليه وسلم- صاعًا من طعام، وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقِطّ والتمر" [رواه البخاري].
على هذا لا يجوز للإنسان أن يُخرج من الثياب ومن الفُرش والأواني والأمتعة وغير ذلك مما سوى طعام الآدميين؛ لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- فرضها من الطعام فلا تتعدى ما عينه الرسول –صلى الله عليه وسلم- ولا يجزأ إخراج قيمة الطعام يعني المال- يعني الفلوس-؛ لأن ذلك خلاف ما أمر به الرسول-صلى الله عليه وسلم-، وقد ثبت عنه أنه قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَد".
ولأن إخراج القيمة مخالف لعمل الصحابة -رضي الله عنهم- حيث كانوا يخرجونها صاعًا من طعام، وكان بين أيديهم الدراهم والذهب، وكانت هذه المعادن لها قيمة عندهم، ومع ذلك ما أخرجوها نقودًا، ولأن النبي –صلى الله عليه وسلم- عينها من أجناس مختلفة، وأقيامها مختلفة غالبًا، فلو كانت القيمة معتبرة لكان الواجب صاعًا من جنس وما يقابل قيمته من الأجناس، ولأن إخراج القيمة يخرج الفطرة عن كونها شعيرة ظاهرة إلى كونها صدقة خفية، ويجب أن يخرج مقدارها، ومقدار الفطرة صاع بصاع النبي –صلى الله عليه وسلم- الذي يبلغ وزنه بالمثاقيل 480 مثقالاً من البُر الجيد، وبالغرامات الكيلو يساوي كيلوين وخمس عشر كيلو من البُر الجيد؛ لأن وزنه بالمثقال أربعة جرامات وربع، فيكون مبلغ أربع مائة وثمانين مثقالاً ألفي جرام وأربعين غرامًا، فيخرج كيلوين وأربعين غرامًا، ولو زاد على ذلك فلا بأس فليزن كيلوين وأربعين غرامًا من البر ويضعها في إناء بمقدارها بحيث يملأه ثم يكيل به.
متى يخرج زكاة الفطر؟
يجب إخراج الفطرة وقت خروج رمضان، وهو غروب الشمس ليلة العيد فمن كان من أهل الوجوب حينذاك وجبت عليه وإلا فلا، وعلى هذا إذا مات قبل الغروب ولو بدقائق لم يجب الفطرة، وإن مات بعدها ولو بدقائق وجبت عليه، ولو ولد شخص بعد الغروب ولو بدقائق لم تجب فطرته لكن يُسن إخراجها عنه، ويجب إخراجها عن المسلم وعمن تلزمه مؤونته، وأما الإخراج عن الجنين فلم يرد فيه شيء عن النبي.
والواجب أن تصل الزكاة لمن يستحقها، وبعض الناس يفرط فيشتري من هنا ويعطي من هنا من غير أن يتحرى حاجة الآخذ، والواجب عليه أن يبحث عن الفقراء والمساكين الذين يحتاجون هذه الصدقة فإن لم يجد يذهب إلى الذين يعرفون الفقراء من أئمة المساجد ومن الإخوة الفضلاء، فيعطيهم هذه الصدقة، وهذه وكالة في الصدقة، تجوز، ولا بأس أن يوكل من أول الشهر أو من أول العشر، يجوز أن يوكل قبل الوقت ويجب على الوكيل أن يخرجها في وقتها قبل الصلاة فإن نواها الشخص ولم يصادف ولا وكيله وقت الإخراج فإنه يدفعها إلى مستحق آخر ولا يؤخرها عن وقتها، لو قال لوكيله: اعط هذه الصدقة لآل فلان للبيت الفُلاني فذهب وفي وقت الإخراج فلم يجد أحدًا في البيت فإنه يعطيها لغير هؤلاء ولا يؤخرها عن وقتها ولا يلقيها عند الباب هكذا، بل يبحث عمن يحتاجها من غير هؤلاء، وأما مكان الدفع تدفع إلى فقراء المكان الذي هو فيه وقت الإخراج سواءًا كان محل إقامته أو غيره من بلاد المسلمين لو كان هو من أهل مصر وهو هنا في هذه البلاد يخرج زكاة الفطر في هذه البلاد، لو كان من أهل السودان وهو هنا في جده فإنه يعطي زكاة الفطر لفقراء أهل جده، وهكذا فإنه يعطي زكاة الفطر لفقراء البلد الذي هو فيه، فإذا لم يعرف الفقراء الذين في البلد الذي هو فيه فإنه يدفعها إلى من يعرف الفقراء في بلد آخر.
والمستحقون لزكاة الفطر هم: الفقراء ومن عليهم ديون لا يستطيعون وفائها، فيعطون منها بقدر حاجتهم، ويجوز توزيع الفطرة على أكثر من فقير ويجوز دفع عدد من الفِطّر إلى مسكين واحد، وذلك أن تدفع نصيب أهل بيتك لمسكين واحد، هذا جائز ومثله أن توزع نصيبك على أكثر من واحد، هذا جائز؛ لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- قَدَّر الواجب ولم يُقَدر من تدفع إليه، وعلى هذا فلو جمع جماعة فطرهم في وعاء واحد بعد كيلها فصاروا يدفعون منه بلا كيل ثانٍ أجزأهم ذلك، ولا أنسى أن أنبه في نهاية هذه الخطبة إلى مسألة العيد، إلى صلاة العيد، فبعض الناس يقصر في هذه الصلاة التي هي واجبة أوجبها الرسول- صلى الله عليه وسلم- لا على الرجال فحسب، وإنما حتى على النساء، وإنما حتى على الحُيّض والعواتق، وهن النساء الكبيرات في السن اللاتي جلسن في بيوتهن، وكان من هديه أن يصلي هذه الصلاة في المصلى، ما كان هديه أن يصليها في المسجد كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة -يعني صلاة العيد- لا يصلي تحية المسجد[رواه البخاري].
وفي الصحيحين: أمرنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن نخرجهن -يعني النساء- في الفطر والأضحى والعواتق والحُيّض وذوات الخدور، فأما الحُيّض فيعتزلن الصلاة، الحائض تجلس في المصلى ولا تصلي، تعتزل المصلى -مكان صلاة النساء- ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله: إحدانا لا يكون لها جلباب، ما يكون لها ما تستر به نفسها حين الخروج، قال: "لتُلبسها أختها في جلبابها".
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: "وفيه الخروج إلى المصلى، ولا يكون في المسجد إلا عند الضرورة" عندما يكون المطر شديدًا وعندما تكون البلد جبال، ولا مكان فيه ولا ساحة في البلد؛ كمكة مثلاً لمشقة الخروج إلى الساحات خارج مكة.
يجوز الصلاة في المسجد، أما في الأماكن التي فيها ساحات، البلاد التي فيها ساحات، فيجب الصلاة في المصلى وحتى لا يحرم الحيض دعوة المسلمين، فكيف تدخل الحائض المسجد؛ لذلك شرع لنا لحكم جليلة أن نصلي صلاة العيد في المصلى.
والتكبير إنما يكون بعد صلاة الفجر، يخرج المرء منا من بيته مكبرًا بعد أن يأكل تمرات ويجعلها وترًا، هذه هي السنة ويخرج من بيته مكبرًا، وهو وأولاده وأهل بيته.
والنساء لا يرفعن أصواتهن، حتى يأتوا المصلى فلا يكبروا على صوت واحد جماعة، وإنما التكبير فُرادى، فليس هناك ذكر جماعي لا في العمرة في التلبية ولا في تكبيرة العيد، كلٌ يكبر لوحده فإذا جاءوا المصلى جلسوا وكبروا، حتى يأتي الإمام ويصلون مع الإمام، ويستحب لهم أن يحضروا خطبة الإمام ليستفيدوا من العلم والموعظة.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي