والإنسان عند الضرورة ووقت الشدة تهديه فطرته إلى أن يعود إلى الله معترفًا بربوبيته، موقنًا بقوته وقدرته، فيستجيب الله له ويعطيه الفرصة تلو الأخرى للاستقامة والتوبة، حتى إذا أقام عليه الحجة أخذه أخذ عزيز مقتدر، ووكله إلى نفسه، فتزيد حسرته وتسوء أحواله قال تعالى: (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ? وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) [لقمان:32].
الحمد لله ذي العز المجيد، والبطش الشديد، المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، المنتقم ممن عصاه بالنار بعد الإنذار بها والوعيد، المكرم لمن خافه واتقاه بدار لهم فيها من كل خير مزيد، فسبحان من قسّم خلقه قسمين وجعلهم فريقين فمنهم شقي وسعيد، من عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد.
أحمده وهو أهل للحمد والثناء والتمجيد، وأشكره ونعمه بالشكر تدوم وتزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا كفو ولا ضد ولا نديد:
أصبحت ضيف الله في دار الرضا *** وعلى الكريم كرامة الضيفان
تعفو الملوك عن النزيل بسـاحهم *** كيف النزول بساحة الرحمن
يا من إذا وقـف المسـيء ببابه *** ستر القبيح وجاد بالإحسان
وأنا المسيء وقد دعوتك سيدي *** تعفـو وتصفح للعبيد الجاني
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى التوحيد، الساعي بالنصح للقريب والبعيد، المحذر للعصاة من نار تلظى بدوام الوقيد، المبشر للمؤمنين بدار لا ينفد نعيمها ولا يبيد. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
عباد الله: يحتاج المسلم في مسيرة حياته لما فيها من عقبات وابتلاءات وشدائد ومتطلبات إلى قوة يتعلق بها ويسعد بقربها ويستمد منها العون والتأييد، وقد فطرت النفس الإنسانية على التعلق بالله والاستعانة به في كل الأحوال والظروف؛ لأنه هو الخالق -سبحانه وتعالى-، وهو الرب وهو الملك وهو الرازق والمحيي والمميت، وهو الذي بيده كل شيء ولا يعجزه شيء؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ? هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ? لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ? فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) [فاطر:3]، وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الروم: 40].
وظل الإنسان على هذه الفطرة يعبد الله ويرجوه ويطلب منه ويستعين به، حتى إذا ضعف إيمانه وقل يقينه بسبب كثرة ذنوبه ومعاصيه واتباعه للشيطان وشبهاته واغتراره بالدنيا وشهواتها وتعلقه بالماديات من حوله وبالأشخاص والذوات، واعتقاده بقدرتهم على النفع والضر، حتى أشرك بالله ما لم ينزل به سلطانًا، وفي صحيح مسلم، عن عياض -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقول اللَّـه تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرَّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمَرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا".
والإنسان عند الضرورة ووقت الشدة تهديه فطرته إلى أن يعود إلى الله معترفًا بربوبيته، موقنًا بقوته وقدرته، فيستجيب الله له ويعطيه الفرصة تلو الأخرى للاستقامة والتوبة، حتى إذا أقام عليه الحجة أخذه أخذ عزيز مقتدر، ووكله إلى نفسه، فتزيد حسرته وتسوء أحواله قال تعالى: (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ? وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) [لقمان:32].
وكلما زاد الإيمان في قلب المسلم وحافظ عليه وقام بما فرض الله عليه من الطاعات والعبادات؛ زاد يقينه واطمأنت نفسه وتعلق بخالقه سبحانه واستشعر عظمته وقوته ورحمته، عند ذلك تهون كل الصعاب. ورد في السير أنه لما عــاد -صلى الله عليه وسلم- من الطائف وقد رجم بالحجارة من قبل السفهاء والمجانين، وسدّت في وجهة طرق البلاغ لدين الله وحاربه قومه وقتل أصحابه؛ توجه إلى القوة التي لا تهزم، والسند والمعين الذي لا يضعف قائلاً: "اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟! إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري؟! إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل عليّ غضبك، أو ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك". فلم يلجأ إلا إلى الله، ولم يطلب غيره ولم يتعلق إلا به ولا يطلب إلا رضاه.
أيها المؤمنون عباد الله: اليوم كثير من الأفراد والمجتمعات والدول والجماعات والأحزاب يعلقون آمالهم على غيرهم من البشر، طلباً للرزق ودفعاً للضر وجلباً للنصر وتحقيقاً للطموحات وتلبية للرغبات، ويبذلون من أجل طلب رضاهم وموافقتهم واتباع هواهم الكثير من الأعمال، حتى ولو كانت على حساب الدين والقيم والأخلاق والأوطان، ومع ذلك لم يجدوا شيئاً وإن ظهرت بعض الدلائل على تحقيق المطلوب فإنما هو من باب استدراج المولى -سبحانه وتعالى- مع ظلمة تصيب القلوب وضنك في العيش وفساد في الأحوال؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "من التمس رضا الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله،سخط الله عليه وأسخط عليه الناس". رواه ابن حبان في صحيحه. وصححه الألباني في صحيح الجامع 6010.
وقف الشاعر ابن هانئ الأندلسي أمام المعز الفاطمي يمدحه ويطلب رضاه فقال:
ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ *** فاحكُمْ فأنتَ الواحد القهّارُ
هذا الذي ترجى النجاة ُ بحبِّهِ *** وبـه يحطُّ الإصـرُ والأوزار
لقد جعله بوصفه هذا إلهًا من دون الله، فهل نفعه هذا؟! كلا، فقد سخط عليه المعز بعد زمن وحبسه في السجن، وابتلي بمرض فكان يعوي كالكلب ويردد أبياتًا من الشعر يندب حاله يقول فيها:
أبعين مفتقرٍ إليك نظرتني *** فأهنتني وقذفتني من حالقِ
لست الملوم أنا الملوم لأنني *** علقت آمالي بغير الخالق
قال تعالى: (وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) [الحج: 18]، قال ابن القيم: "من تعلق بغير الله وكله الله إلى ما تعلق به، وخذله من جهة ما تعلق به، وفاته تحصيل مقصوده من الله -عز وجل- بتعلقه بغيره، والتفاته إلى سواه. فلا على نصيبه من الله حصل، ولا إلى ما أمله ممن تعلق به وصل؛ قال الله تعالى: (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً . كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً) [مريم:82،81]، وقال تعالى: (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ * لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ) [يس:75،74]. فأعظم الناس خذلانًا من تعلق بغير الله...". طريق الهجرتين ص70.
عباد الله: إذا كانت مقادير كل شيء بيده سبحانه، ومصير العباد إليه، وآجالهم وأرزاقهم عنده، بل سعادتهم وشقاؤهم في الدنيا والآخرة لا يملكها أحد سواه؛ وجب أن تتعلق القلوب به وحده، وأن لا تذل إلا له، ولا تعتز إلا به، ولا تتوكل إلا عليه، ولا تركن إلا إليه: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ) [التوبة:51]، فالنفع والضر بيده سبحانه، ولا يملكهما غيره، ولا يقعان إلا بقدره: (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ الله إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً) [الأحزاب:17].
قال الإمام أحمد: حدثنا من سمع عطاء الخراساني قال: لقيت وهب بن منبه وهو يطوف بالبيت، فقلت: حدثني حديثًا أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز، قال: نعم، أوحى الله -تبارك وتعالى- إلى نبيه داوُد -عليه السلام-: "يا داوُد: أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم بي عبدٌ من عبادي دون خلقي، أعرف ذلك من نيته، فتكيده السماوات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن، إلا جعلتُ له من بينهن مخرجاً، أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم عبدٌ من عبادي بمخلوقٍ دوني، أعرف ذلك من نيته، إلا قطعتُ أسباب السماء من يده، وأسخت الأرض من تحت قدمه، ثم لا أبالي بأي أوديتها هلك".
وانظروا إلى التاريخ والأحداث واقرؤوا القرآن، كيف نصر الله أولياءه وعصم أصفياءه وحفظ عباده وأسبغ عليهم نعمه عندما تعلقت قلوبهم به رغم ضعفهم وقلة عددهم وتعرضهم للبلاء، وكيف هزم عدوهم وخذل الجبابرة وقصم الظلمة وأذل المتكبرين، فما نفعتهم أموالهم ولا جيوشهم ولا حصونهم؛ قال تعالى: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ? أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ? وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) [فصلت:15]، ومهما علا الباطل وتجبر وتعلق الناس به وانبهروا بقوته فإنه إلى زوال؛ قال تعالى: (إنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) [القصص:8]، فثقوا بربكم وتوكلوا عليه، وعلقوا آمالكم به، ولا تذلوا نفوسكم لغيره، ولا تركنوا إلى مخلوق مثلكم لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فما بالكم لغيره؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى الله وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فَاطِر: 15].
فقيرًا جئت بابك يا إلهي *** ولست إلى عبادك بالفقـير
غني عنهــم بيقين قلبي *** وأطمع منك في الفضل الكبير
إلهي ما سألت سواك عونًا *** فحسبي العون من رب قدير
إلهي ما سألت سواك عفوًا *** فحسبي العفو من رب غفور
إلهي ما سألت سواك هديًا *** فحسبي الهدي من رب بصير
إذا لم أستعن بك يـا إلهي *** فمن عوني سواك ومن مجيري
أسأل الله أن يملأ قلوبنا تعلقاً به، وأن يغنينا عن عباده وأن يوفقنا لطاعته.
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
عباد الله: عند الشدائد والمحن ينبهر الناس بالأمور المادية، وتتعلق قلوبهم بها، ويعتقدون أن تحقيق الآمال مرتبط بها، وتغيير الأحوال متوقف عليها، ويوم حنين خير شاهد، نظر المسلمون إلى عددهم وعدتهم فأيقنوا بالنصر وتعلقوا بهذا، ونسوا أن النصر من عند الله يأذن به متى شاء، فكانت الحادثة درسًا للأمة المسلمة إلى قيام الساعة؛ قال تعالى: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) [التوبة:25].
وفي عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- اغتر اليهود بحصونهم وسلاحهم وعددهم وتعلقوا بها، وظنوا أنهم في مأمن من عذاب الله تعالى، فأخزاهم، وجعل تدبرهم تدميرًا عليهم؛ يقول -جل وعز-: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ) [الحشر:2].
عباد الله: إننا اليوم بحاجة إلى تعمير قلوبنا بالإيمان والعمل بهذا الدين، والتعلق بالله لتستقيم حياتنا وتتبدل أوضاعنا ونخرج من الإحباط الذي تعيشه أمتنا أفرادًا وجماعات.
ولتعلم -أيها المسلم- أنه قد يتحول كل شي ضدك ويبقى الله معك، فكن مع الله يكن كل شي معك، ومن عرف الله بالرخاء يعرفه بالشدة.
فاللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً.
هذا؛ وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56]. اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي