فقد دار الزمان، وأمهلنا الله -تعالى- بمنه ورحمته، حتى جاءت أيام العشر من ذي الحجة بفضلها وبركتها، فالحمد لله الذي خلق الزمان وفضل بعضه على بعض، فخص بعض الشهور والأيام والليالي بمزايا وفضائل يعظم فيها الأجر، ويكثر الفضل، رحمة منه بالعباد، لـ...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فقد دار الزمان، وأمهلنا الله -تعالى- بمنه ورحمته، حتى جاءت أيام العشر من ذي الحجة بفضلها وبركتها، فالحمد لله الذي خلق الزمان وفضل بعضها على بعض، فخص بعض الشهور والأيام والليالي بمزايا وفضائل يعظم فيها الأجر، ويكثر الفضل، رحمة منه بالعباد، ليكون ذلك عونا لهم على الزيادة في العمل الصالح، والرغبة في الطاعة، وتجديد النشاط، وليحظى المسلم بنصيب وافر من الثواب، فيتأهب بالموت قبل قدومه، ويتزود ليوم الميعاد.
إن من فوائد مواسم الطاعة: سد الخلل، واستدراك النقص، وتعويض ما فات، وتحقيق ما لا يمكن تحقيقه من سائر الأيام.
وما من موسم من هذه المواسم الفاضلة إلا ولله -تعالى- فيه وظيفة من وظائف الطاعة، يتقرب بها العباد إليه.
ولله -تعالى- فيه لطيفة من لطائف نفحاته، يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته.
قال ابن رجب: "فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من طاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات".
فعلى المسلم أن يعرف قدر عمره، وقيمة حياته، فيكثر من عبادة ربه، ويواظب على فعل الخيرات إلى الممات.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع بشيء" [أخرجه البخاري].
وعنه رضي الله عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من عمل أزكى عند الله -عز وجل-، ولا أعظم أجراً من خير يعمله في عشر الأضحى" قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله -عز وجل- إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء"[رواه الدارمي وإسناده حسن].
أيها المسلمون: هذه النصوص وغيرها تدلّ على أنّ هذه العشر أفضل من سائر أيام السنة من غير استثناء شيء منها، حتى العشر الأواخر من رمضان، إلا أن ليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل لاشتمالها على ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر.
إن من دلالات عظمة هذه العشر: أن فيها يوم عرفة، وهو يوم لا يتكرر إلا مرة في العام، وهو اليوم المشهود الذي أكمل الله فيه الدّين وصيامه لغير الحاج يكفّر آثام سنتين كاملتين، تصورا مقدار خسارة من يفوته صيام يوم عرفة.
وفي يوم النحر الذي هو أعظم أيام السنّة على الإطلاق، وهو يوم الحجّ الأكبر الذي يجتمع فيه من الطّاعات والعبادات، ما لا يجتمع في غيره.
وقد قضى أن يكون الحج في العشر لبيت الله الحرام، وللمقيم في بلده الأضحية، ولذا ينبغي أن نستشعر أن العشر نعمة عظيمة من نعم الله علينا، يقدرها حق قدرها، من شمر وبادر في اغتنام هذه الفرصة العظيمة، فيخص هذه العشرة بمزيد من العناية، ويجاهد نفسه خلال هذه الفترة على الاكثار من الطاعات، ومن ذلك الصيام.
فللمسلم أن يصوم أن يصوم تسع ذي الحج؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- حث على العمل الصالح في أيام العشر، والصيام من أفضل الأعمال، بل لقد اصطفاه الله -تعالى- لنفسه؛ كما في الحديث القدسي: "قال الله: كل عمل بني آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به" [أخرجه البخاري].
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم تسع ذي الحجة، فعن أبي داود بإسناد صححه الألباني، عن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر، أول اثنين من الشهر وخميسين".
والمسألة في إتمامه فيها خلاف مشهور لحديث عائشة -رضي الله عنها-: "ما رأيته صائما العشر" [صح ذلك في مسلم].
وقد جمع الإمام أحمد بين الروايتين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم بعضه ويفطر بعضه.
ومن الاعمال الصالحة: التكبير والتحميد والتهليل والتسبيح أيام العشر، والجهر بذلك في المساجد والمنازل والطرقات، وكل موضع يجوز فيه ذكر الله، إظهارا للعبادة، وإعلانا وتعظيما لله -تعالى-، يجهر به الرجال ويخفيه النساء، قال تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) [الحـج: 27].
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "الأيام المعلومات أيام العشر".
والتكبير المطلق الذي هو في جميع الأوقات يبدأ من أول دخول شهر ذي الحجة إلى آخر أيام التشريق.
وينضم إليه التكبير المقيد، وهو الذي يكون في أثناء الصلوات المفروضة، يبدأ من صلاة صبح يوم عرفه إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق.
وصفة التكبير: "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد" وهناك صفات أخرى.
ولقد صار التكبير في هذا الزمان من السنن المهجورة، ولاسيما في أول العشر، فلا تكاد تسمعه إلا من القليل، فينبغي الجهر به إحياء للسنة، وتذكيراً للغافلين، وقد ثبت أن ابن عمر وأبا هريرة -رضي الله عنهما-: كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما.
والمراد أن الناس يتذكرون التكبير، فيكبر كل واحد بمفرده، وليس المراد التكبير الجماعي بصوت واحد، فإن هذا غير مشروع.
أيها المسلمون: ينبغي أن نعلم أنه لو أحيينا هذه السنة فهو إحياء ما اندثر من السنن، أو كاد فيه ثواب عظيم، دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها، من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً" [أخرجه الترمذي وهو حديث حسن].
ومن الأعمال الصالحة كما تقدم: أداء الحج والعمرة: إن من أفضل ما يعمل في هذه العشر حج بيت الله الحرم، فمن وفقه الله -تعالى- لحج بيته، وقام بأداء نسكه على الوجه المطلوب، فله نصيب من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" -أسأل الله لي ولكم من فضله-.
ومن الطاعات: الإكثار من الأعمال الصالحة عموما: لأن العمل الصالح محبوب إلى الله -تعالى-، وهذا يستلزم عِظَم ثوابه عند الله -تعالى-.
فمن لم يمكنه الحجّ فعليه أن يعمر هذه الأوقات الفاضلة بطاعة الله -تعالى- من تبكير للصلوات، وقراءة القرآن، والذكر والدعاء، والصدقة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من طرق ،الخير وسبل الطاعة.
أما الأضحية، فهي من أحسن الأعمال الصالحة في هذه العشر، إذ إن التقرب إلى الله -تعالى- بذبح الأضاحي من هدي الأنبياء، قال تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر: 2].
ويأتي الكلام عن الأضحية فيما بعد -إن شاء الله-.
ومما يتأكد في هذا العشر: التوبة إلى الله -تعالى-، والإقلاع عن المعاصي وجميع الذنوب.
وللتوبة في الأزمنة الفاضلة شأن عظيم، فإذا اجتمع للمسلم توبة نصوحا مع أعمال فاضلة، في أزمنة فاضلة، فهذا عنوان الفلاح -إن شاء الله تعالى -، قال تعالى: (فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) [القصص: 67].
فلنحرص جميعا على مواسم الخير فهي سريعة الانقضاء، وفقي الله وإياكم إلى خير الأعمال والأقوال.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين.
وبعد:
فمن الشعائر التي ينبغي للمسلمين أن يحافظوا عليه في هذه الأيام المباركة: ذبح الاضحية تقربا لله -عز وجل-.
وللأضحية أحكامها: فتجزئ الشاة عن الواحد وأهل بيته الأحياء والأموات؛ لقول أبو أيوب الأنصاري: "كان الرجل في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون" [رواه أبو داود والترمذي وصححه].
وتجزئ البدنة والبقرة عن سبعة وذبحها أفضل من الصدقة بثمنها؛ لفعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولأنها شعيرة من شعائر الله.
والسن المعتبرة شرعا ستة أشهر في الضأن والماعز، وسنتان في البقر، وخمس سنوات في الإبل.
ويجب أن تكون الاضحية خالية من العيوب، فإنه لا يجزئ في الأضحية: العوراء البين عورها، وهي التي انخسفت عينها، ولا العجفاء الهزيلة التي لا مخ فيها هزيلة، العرجاء البين عرجها، وهي التي لا تستطيع المشي مع الغنم الصحاح، ولا المريضة البين مرضها، وهي قد بان أثار المرض عليها.
وقد ثبت وصف هذه العيوب في الصحيحين عن البراء بن عازب مرفوعا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فهذه العيوب الأربعة تمنع الإجزاء، ويلحق بها ما كان مثلها أو أشد، فلا يضحى بالعمياء ولا بمقطوعة إحدى اليدين أو الرجلين، ولا بمقطوعة الإيلية إلا ما كان من النوع الذي لا إيلية له من أصلها، مولدة هكذا.
وهناك عيوب لا تمنع الأجزاء ولكنها توجب الكراهة، مثل قطع الأذن وشقها، وكسر القرن، أما سقوط الأسنان فإنه لا يضر، في أصح قولي أهل العلماء.
ولكن كلما كانت الاضحية أكمل في ذاتها وصفتها، وأغلى ثمنا فهي أفضل، والأفضل ذبح الأضحية في البلد حتى تبقى هذه الشعيرة باقية؛ لأن المقصود من الأضحية الصدقة، ولكن التقرب من الله -تعالى- بإهراق الدم استجابة لما شرع واتباعا لسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
ففي حديث أنس قال: "ضحى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكبشين أملحين أقرنيين ذبحهما بيده وسمى وكبر".
وتجزئ الأضحية عن الرجل وأهل بيته، ومن كان في بيت مستقل فيشرع له أن يضحي عنه وعن أهل بيته بأضحية مستقلة، ومن الخطأ أن بعض الناس يضحي عن أمواته، ولا يضحى عن نفسه وأهل بيته.
فإن كان الميت قد ترك مالا وأوصى أن يضحى عنه، فالواجب انفاذ وصيته، وإن لم يكن قد خلف مالا وأراد أحد أهله أن يضحى له تبرعا، فلا مانع على أن لا ينسى الأصل، وهو أن الأضحية عن الحي قبل الميت، والنبي -صلى الله عليه وسلم- إنما ضحى عن أهل بيته، ولم يذكر أنه ضحى عن أمواته، أو أموات الصحابة.
ولا مانع أن يدخل الأموات في قول المضحي : "عني وعن أهل بيتي"، ففضل الله واسع.
وإذا أراد أحد أن يضحي ودخل شهر ذو الحجة، فإنه يحرم عليه أن يأخذ شيئا من شعره، أو أظفاره، أو جلده، حتى يذبح أضحيته، لحديث أم سلمة قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره ".
وفي رواية: "عن جلده" [رواه أحمد ومسلم].
ويجوز لأهل المضحي أن يأخذوا في أيام العشر من شعورهم وأظفارهم، وإذا أخذ من يريد الأضحية شيئا من شعره، أو ظفره، أو بشرته، فعليه أن يتوب إلى الله -تعالى-، ولا يعود، ولا كفارة عليه، ولا يمنعه ذلك عن الأضحية، وإذا أخذ شيئا من ذلك ناسيا، أو جاهلا، أو سقط الشعر بلا قصد، فلا إثم عليه.
وإن احتاج إلى أخذه فله أخذه ولا شيء عليه، مثل أن ينكسر ظفره فيؤذيه فيقصه، أو ينزل الشعر في عينيه فيزيله، أو يحتاج إلى قصه لمداواة جرح، أو نحوه.
أسأل الله -تعالى- أن يتقبل أعمالنا الصالحة، إنه سميع عليم.
أيها الاخوة: إن ما حدث في القصيم قبل يومين من قتل لرجال الأمن ليحزن القلب فعلا، فاستباحة الدماء المسلمة المعصومة ليس في دين الله من شيء، ولكن الجهل يصنع الفتن والخوف أن يستغل المبطلون هذه الأحداث للنيل من التدين والطعن في أهله، واتهام نشاطات الدعوة والخير في التسبب في مثل هذه الأحداث.
فأصحاب هذه الأفعال فئة قليلة معدودة، لا يمثلون إلا أنفسهم، ولكم جنت مثل هذه الأفعال المنحرفة على سمعة أهل الخير.
فنسأل الله الهداية للجميع، كما أسأله -تعالى- أن يرحم موتى المسلمين، وأن يحرص هذه البلاد وسائر بلاد المسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم اهد ضال المسلمين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي