الإيمان بالقدر

خالد بن عبد الله بن عبد العزيز القاسم

عناصر الخطبة

  1. مراتب الإيمان بالقدر
  2. كيفية إقامة الحجة على العباد
  3. الإيمان بالأقدار يكسب المؤمن راحة وطمأنينة

الحمد لله رب العالمين…

عباد الله: نتحدَّث في هذه الخطبة عن ركنٍ من أركان الإيمان وأساس من أسس العقيدة؛ إنه الإيمان بالقدر، وما أدراك ما الإيمان بالقدر، جاء في الصحيح عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-… ثم قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره". قال: صدقت… ثم قال: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمور دينكم". الحديث. رواه مسلم.

إنه من صميم الدين، فما هو الإيمان بالقدر؟! وما هي ثمراته؟!

عباد الله: الإيمان بالقدر يشمل أربعة أمور دلَّ عليها كتاب الله -عز وجل-، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وذكرها عامة أهل العلم:

الأول من مراتب القدر: الإيمان بعلم الله السابق، وأنه علم ما كان وما يكون على وجه التفصيل يقول -سبحانه وتعالى-: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [الأحزاب: 40].

وهذا العلم أزليٌّ؛ أي: ليس له أول، وهو متقدم على جميع المخلوقات، فقد علم سبحانه كل شيء، وهذا من سعة علم الله تعالى، وهو إحدى صفات الله العظيمة التي لا تشابه صفات المخلوقين لا كمًّا ولا كيفاً: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].

فعِلمُهُ سبحانه ليس فيه خطأ أو ظنون، وعلمه سبحانه محيط بكل شيء، وعلمه سبحانه لم يسبقه جهل، بينما جميع علوم البشر مسبوقة بالجهل: ﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: 78].

وعلم الله لا يعقبه نسيان، وأكثر ما يعلمه البشر ينسى، فقد علم الله كل شيء ومنها مصائر العباد، وهذا العلم ليس حجة لأحد، بل هو تمام كمال الخالق العليم.

والمرتبة الثانية: كتابته -سبحانه وتعالى- للمقادير، قال سبحانه عن العلم والكتابة: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المجادلة: 7]، وقال سبحانه: ﴿وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [الأنعام: 59]، ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحـج: 70].

والكتابة القدرية أنواع، أما الأولى وهي أعظمها: ما كان في اللوح المحفوظ، وهو كتاب عظيم، والكتابة السنوية: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ [الدخان: 3]. والكتابة العمرية: "إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكًا فيؤمر بأربعٍ: بكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد" رواه البخاري 6221.

المرتبة الثالثة من مراتب القدر: المشيئة، مشيئة الله تعالى النافذة وإراداته، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهذه السنة الكونية متعلقة بحكمة الله تعالى في مخلوقاته التي قد نعلمها وقد لا نعلمها، وهي واقعة لا محالة: ﴿وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ﴾ [الرعد: 11]، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82]، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء﴾ [فاطر: 8]، وليس في مشيئة الله ظلم للعباد، بل هو العليم الحكيم.

المرتبة الرابعة من مراتب القدر: الخلق: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ [الزمر: 62]، ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ [لقمان: 11]، ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ﴾ [فاطر: 3]، ﴿قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [الرعد: 16].

وهذا التقدير المشتمل للعلم والكتابة والمشيئة والخلق ليس حُجَّة للعباد، وإنما لكمال علم الخالق وقدرته سبحانه، فلا يجوز الاحتجاج به على المعاصي لأنها واقعة بإرادة العاصي، وما وقع من غير إرادة العاصي فلا تسمى معصية، والله -عز وجل- أرحم الراحمين، فلابد من إقامة الحجة على العباد المشتملة على:

أولاً: العلم، وذلك بإرسال الرسل: ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 165].

ثانيًا: كمال العقل بالبلوغ وعدم الجنون، لنفقه قول الرسل ونعلم عاقبة مخالفيهم، يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يبلغ". رواه ابن خزيمة (1003).

ثالثًا: أن يكون مختارًا، فإذا فقد الاختيار بسبب الخطأ أو النسيان أو الإكراه فإنه معذور، وهذا مُسلَّمٌ به عند الفقهاء، وتأملوا حال من أفطر في رمضان؛ فإن كان بنسيان فعليه أن يتم يومه وصومه صحيح؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أفطر في شهر رمضان ناسيًا فليُتمَّ صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه". رواه الدارقطني.

وإن كان بعمد فعليه القضاء والكفارة؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أفطر يومًا من رمضان من غير رخصة ولا مرض لم يقض عنه صوم الدهر كله وإن صامه". رواه الترمذي (723). وكلاهما بقضاء الله.

والله لا يحاسبنا إلا على ما أردنا بعلم وإدراك، ولذلك لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعاصي؛ لأنه نوع من التكذيب: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ [النحل: 35]، فالمُحتجُّ بالقدر أبطل رسالة الرسل؛ بل وحتى جميع شرائع وقوانين الأرض، نعم، يجوز الاحتجاج بالقدر على المصائب التي لا يملكها الإنسان فهي واقعة بغير إرادته، وهذا ما أرشد إليه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلتُ كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل". رواه النسائي.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله مُقدِّر الأقدار، مُكوِّر النهار على الليل، ومُكوِّر الليل على النهار، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد الأحد القهار، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله النبي المختار، وعلى آله وصحبه الطيبين الأطهار.

أما بعد:

عباد الله: فإن الإيمان بالأقدار يكسب المؤمن راحة وطمأنينة وقوة إيمان ويقين بالله من عدة نواحٍ:

الأول: فما أصاب من مصيبة يعلم أنها لا تُردّ وأنها تقع وأنه لا فكاك لها فلا يندم ولا يتحير، ولا يقل: لو أني فعلت وفعلت.

الثاني: إن أصابه خير فلا يتكبر ويزهو؛ بل يرد الأمر إلى الله الذي مكَّنَه منه، وتأمَّلوا قول الحق -تبارك وتعالى-: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ(23)﴾ [الحديد: 22-23]، وقوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [التغابن: 11].

والثالث: أن العبد إذا أصابته المصيبة علِمَ أنها من عند الله تعالى، وأنه مُبتَلَى بها ومُختَبَر بها، أكسبه هذا الصبر عليها والرضا بها، فهو في مصيبته تحت نظر الله تعالى يبتليه، فإن صبر فهو خير له، لقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حين يقول: "أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل". رواه النسائي والبيهقي. ويقول أيضًا: "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة". رواه الترمذي (2399).

تتبدل تلك المحن إلى مِنَح، وتلك الأسقام إلى أفراحٍ في القلب.

الرابع: إذا أصابه الخير فهو شاكر لربه، وتأملوا قول النبي الصالح، والملك العادل سليمان -عليه السلام- لما نظر إلى عرش بلقيس، قال: ﴿قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ [النمل: 40].

فالدنيا دار بلاء بالخير والشر ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء: 35]، ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "عجبًا لأمر المؤمن!! إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له". رواه مسلم (2999). وكثيرٌ من الناس يُفوِّت أجر الصبر.

والمقصود بالمصيبة: كل ما يعرض للإنسان سواء جسميًّا أم معنويًّا مهما صغر أو كبر، وتأمَّلوا قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ما يصيب المسلم من نَصَبٍ، ولا وَصَبٍ، ولا همٍّ، ولا حزنٍ، ولا أذى، ولا غمٍّ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه". رواه البخاري (5318).

ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط". رواه الترمذي (2396). ففي الصبر أجرٌ عظيم: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10].

أقول ما تسمعون، وأصلّي وأسلّم على النبي الكريم، فقد أمرنا ربنا بالصلاة عليه في كتابه الكريم فقال -عزَّ من قائل-: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلِّم وزِدْ وبارِك على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.  


تم تحميل المحتوى من موقع