وهو في العمل: اعتدال لا يعرف الإفراط والتفريط، فالذين يكلفون أنفسهم ما لا يطيقون من الأعمال، ليسوا على الصراط المستقيم، والذين يتحللون من جميع الواجبات ليسوا على الصراط المستقيم، والذين يحرمون على أنفسهم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، ليسوا على الصراط المستقيم، والذين يستبيحون لأنفسهم جميع الفواحش ما ظهر منها وما...
الحمد لله سلك بأهل الاستقامة سبيل السلامة، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، بوأ المتقين عنده مقعد صدق في دار المقامة، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أدخرها ليوم القيامة، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، فاز من جعله إمامه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله أصحابه أهل الفضل والكرامة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم -عبادَ الله وإيَّايَ- بتقوى الله، وأحثكم على طاعته وطاعة رسوله، وأستفتح بالذي هو خير.
ثم اعلموا: أن "الاستقامة" من حيث أصلها، مأخوذة من القيام، وهو "الاعتدال"، وعدم الاعوجاج.
يقال: قام الأمر، أي اعتدل، فهي إذاً: سلوك الطريق القويم، الذي لا عِوَجَ فيه ولا انحراف، وهو ما ليس بإفراط ولا تفريط، وهي إذا أطلقت كما في قوله تعالى، في أواخر سورة هود: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير)[هود: 112].
و "الاستقامة" -بعد ذلك- هي التزام المنهج، الذي لا عوج فيه ولا التواء، وقد عبر عنه في القرآن الكريم "بالصراط المستقيم" وهو لفظ شامل لكل ما هو حق وفضيلة؛ يكون في العقيدة، وفي الخلق، وفي العمل.
هو في العقيدة: تسليم وإذعان، ويقين بالله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
وهو في الخلق: وسط بين طرفين: لا جبن ولا تهور، لا إسراف ولا تقتير، لا تسرع ولا تبلد، ولكنْ قوامٌ بين ذلك، تصلح به النفوس، وتستقيم به الأمور.
وهو في العمل: اعتدال لا يعرف الإفراط والتفريط، فالذين يكلفون أنفسهم ما لا يطيقون من الأعمال، ليسوا على الصراط المستقيم، والذين يتحللون من جميع الواجبات ليسوا على الصراط المستقيم، والذين يحرمون على أنفسهم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، ليسوا على الصراط المستقيم، والذين يستبيحون لأنفسهم جميع الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ليسوا على الصراط المستقيم.
وهكذا كان الإسلام في عقائده، وأعماله، وأخلاقه، هو "الصراط المستقيم": (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ)[الأنعام: 161].
(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[الأنعام: 153].
ثم لأمرٍ ما، كان أول ما أرشد الله عباده، أن يدعوه به، في كل صلاة، هو قوله في فاتحـة الكتـاب: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ المسْتَقِمَ)[الفاتحة: 5].
هذه هي الخطوط الأولى للاستقامة، التي عبر عنها القرآن "بالصراط المستقيم" وإذا كانت هذه هي الحقيقة، فليس بعد الحق إلا الضلال، وليس بعد الاستقامة إلا الميل والانحراف؟ وإذا كان الأمر كذلك، فالواجب الديني الذي يقضي به العقل المجرد من الهوى والشهوة، هو: اتباع الصراط المستقيم، وامتثاله، واتخاذه دستور الحياة، وهذا هو قوله تفريعاً على البيان السابق: (فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)[الأنعام: 153].
وهكذا نرى أن الآية الكريمة، لم تقف عند حد الأمر بالصراط المستقيم، والأمر بالاستقامة في آية أخرى، بل أمرت بالاتباع، وحظرت اتباع غيره، وكان بذلك لها أمران بالاتباع: أمر ٌصريح، وهو قوله سبحانه: (فَاتَّبِعُوهُ). وأمر ضِمني، وهو تحذير اتباع غيره، وهو قوله تعالى: (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) ثم لا يقف الأمر عند هذا النهي، وإنما بين آثاره السيئة، من تفرق الكلمة، وتشتت الأمة، وهو قوله سبحانه: (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) وفيه: إشارة إلى أن الحق واحد لا تعدد فيه، والباطل متعدد منابع الشر.
فهذه هي "الاستقامة" التي قال عنها بعض العارفين: "كن صاحب الاستقامة، لا طالب الكرامة، فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطالبك بالاستقامة".
وقال آخر: "أعظم الكرامة لزوم الاستقامة"، "والاستقامة عين الكرامة".
وهذا هو الصراط المستقيم الذي لا يضل سالكه، ولا يهتدي تاركه.
فينبغي للمسلمين، وقد تعددت فرقهم، وتفرقت سبلهم، أن يعتصموا بحبل الله جميعاً، ولا يتفرقوا، ويسلكوا صراطه المستقيم، ويحافظوا على الفرائض والواجبات، ويجتنبوا المعاصي والمنكرات، ويصبروا ويصابروا ويرابطوا ويجاهدوا، وصدق الله العظيم حيث يقول: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[العنكبوت: 96 ].
ويقول: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً)[النساء: 66-68].
أما جزاء أهله الاستقامة؛ قوله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الاحقاف: 13-14].
وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُون * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ)[فصلت: 30-32].
فتنزل عليهم ملائكة الرحمن: (ألا تخافوا ولا تحزنوا) أمن من المخاوف وسلامة من المكاره، لا يأسون على فائت، ولا يشفقون على مستقبل، مسددون موفقون محفوظون بملائكة الله، من أمر الله، بإذن الله: (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة)[فصلت: 31] لهم الأمن في الحال والمآل، والنعيم المقيم: (نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت: 32].
وبعد هذا الجزاء من الله -جل وعلا-، فلماذا لا نستقم -أيها الإخوة المؤمنون- لنكون به من الفائزين، وخاصة بعد أن خرجنا من شهر الطاعة، فلنلتزم طريق الاستقامة.
وقد يتسأل سائل في نفسه ويقول: ماذا يجب علينا بعد رمضان؟ بل وبعد كل موسم من مواسم الطاعة؟
والإجابة: نزل بها الوحي منذ مئات السنين، وأجاب النبي الأمين –صلى الله عليه وسلم- على السائلين الطالبين العلاج الناجع، والدواء النافع، فقال: "قل آمنت بالله ثم استقم".
إذا كان الله قد حباك بشجرة الإيمان، فيلزمك -أيها الموحد- معها وتحت ظلها: أن تستقيم، وأن تعتصم بالسير على الطريق، وأن لا تحيد عنه.
الاستقامة، إنها العلاج، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال أبو بكر: "استقاموا فعلاً كما استقاموا قولاً".
قال عمر بن الخطاب: "لم يروغوا روغان الثعالب"
فيا من رفعت كفيك في رمضان طالبًا الهداية، زاعمًا الرجوع، مدعيا الإقبال، هل صدقت في زعمك، ووفيت مع الله بعد رمضان؟ أم أنك رغت روغان الثعلب، فتعاملت مع الله بذمتين: ذمة رمضانية، وذمة غير رمضانية، ولقيت الله بوجهين، وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم- : "شر الناس ذو الوجهين" فكان حالك قريبًا من حال المنافقين: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)[البقرة: 14 - 15].
أسباب معينة الاستقامة: هي الحل وهي السبيل، وهذه الاستقامة لا تتأتى بالأماني، وإنما لها شرائط وأسباب؛ منها:
أولا: الاستعانة بالله: أن تعلم أن الذي أقامك لعبادته في رمضان هو الله، وهو وحده القادر على أن يعينك على المداومة والاستمرارية فليست الاستقامة قوة منك ولا قدرة فيك، ولا فتوة في جنابك، وإنما هي محض منة الله وفضله أن يوفق عباده للطاعة، ثم يتقبلها منهم، وهذا الاعتراف منك هو بداية الاستقامة.
أما الناظر إلى عمله، المحسن الظن بنفسه، الذي يظن أن عبادته إنما هي بقدرته وقوته؛ فهذا يكله الله إلى نفسه، ومن وكله الله لنفسه هلك، ولذلك كان من دعاء النبي –صلى الله عليه وسلم- : "ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدًا" [رواه أبو داود].
ثانيا: المجاهدة: أن تعلم أن الاستقامة لا تتحصل بالهجوع في المضاجع، ولا بالاستمتاع بكل ما لذَّ وطاب من الشهوات والملذات، بل تتأتى بالمجاهدة والمثابرة والمصابرة.
مجاهدة للنفس، والهوى، والشيطان، ومثابرة على فعل المأمورات والإكثار من الطاعات، ومصابرة عن الشهوات والمنهيات، حتى تأتي بأمر الله على تمامه: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[العنكبوت: 69].
(وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ)[السجدة: 24].
قيل للإمام أحمد: "متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: إذا وضع قدمه في الجنة".
وقال الشافعي: "لا ينبغي للرجل ذي المروءة أن يجد طعم الراحة، فإنما هو في هذه الحياة الدنيا في نَصَبٍ حتى يلقى الله".
إن الله لا يَمُنُّ عليك بالاستقامة ويذيقك لذتها، ويعطيك ثوابها، إلا إذا ثابرت عليها، وعملت لها ودعوت الناس إليها، وجاهدت حتى تصل إليها.
ثالثا: رفقة أهلها: وهذا من أكبر العون عليها، ومن أعظم أسباب الثبات عليها، وقد قال جعفر بن محمد: "كنت إذا أصابتني فترة جئت فنظرت في وجه محمد بن واسع، فأعمل بها أسبوع".
وإنما سهلت الطاعة في رمضان لكثرة الطائعين، ووجود القدوات ييسر الأعمال، وإنما الوحشة في التفرد والغفلة تركب الواحد وهي من الاثنين أبعد، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
ثم اعلم -أخي في الله- أن أصل الاستقامة، استقامة القلب على التوحيد؛ كما فسر أبو بكر -رضي الله عنه- وغيره قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) لم يلتفتوا إلى غيره.
فمتى استقام القلب على معرفة الله، وخشيته، وإجلاله، ومهابته، ومحبته، وإرادته، ورجائه، ودعائه، والتوكل عليه، والإعراض عما سواه؛ استقامت الجوارح كلها على طاعته، فإن القلب هو ملك الأعضاء، و هي جنوده، فإذا استقام الملك استقامت جنوده ورعاياه.
فأعظم ما يراعى استقامته بعد القلب من الجوارح: اللسان، فإنه ترجمان القلب، والمعبر عنه، ولهذا لما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالاستقامة، ووصاه بعد ذلك بحفظ لسانه، فعند الترمذي من حديث سفيان ابن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قلت يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم؟ قال: "قل ربي الله ثم استقم" قلت: يا رسول الله ما أخوف ما تخاف عليه؟ فأخذ بلسان نفسه، ثم قال: "هذا".
وهذا الحديث من بديع جوامع كلمه التي اختصه الله بها، فإنه صلى الله عليه وسلم- جمع لهذا السائل في هاتين الكلمتين جميع معان الإيمان والإسلام، اعتقادا وقولا وعملا، وحاصله: أن الإسلام توحيد وطاعة، فالتوحيد حاصل بالجملة الأولى، والطاعة بجميع أنواعها في ضمن الجملة الثانية، إذ الاستقامة امتثال كل مأمور، واجتناب كل منهي، ومن ثم قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) ما أنزل الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم- في جميع القرآن آية كانت أشد ولا أشق عليه من هذه الآية.
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنا نسألك الهدى والسداد، ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.
أقول هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه كان للأوابين غفورا.
الحمد لله الواحد الأحد، الذي لا يحول ولا يزول، يدبر الأمور بحكمته، ويصرف الأمور بقدرته، جعل مستقر المتقين الصالحين في جنته، وجعل مستقر المعرضين والكافرين نيرانه وغضبه، فله الحمد والشكر على ما تفضل به من عظيم كرمه، وواسع رحمته.
وأشهد أن لا إله إلا الله وعد بالمزيد من يشكر نعمته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى منهاجه وشرعته، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبته.
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون: إن المسلمين الأصحاء حينما يودعون شهراً كرمضان، ويستقبلون شهراً كشوال يتذكرون حقَّ التذكر: أن رمضان كان موسماً مباركاً للطاعات، والتقرب إلى الله بأنواع العبادات، ولكنهم يتذكرون في الوقت نفسه أَن الله الذي جعل رمضان ميداناً للتنافس في الخيرات، هو الذي هيأ ما تبقى من أجزاء الزمان، لكي يشغلها المسلم بما يرضي رَبَّه، ويصلح أمره في دينه ودنياه، فواجبٌ عليه أن لا ينكص عليه عقبيه بعد رمضان، ليتفلّت من واجب، أو ليهمل في عبادة، بل هو يواصل أعمالَ البر، وخصالَ الخير، مستعيناً بالله، متوكلاً عليه، جاعلاً وصيةَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمام ناظريه، حين قال: "قل آمنتُ بالله ثم أستقم".
متذكراً أنه سيغادر هذه الدنيا إلى الآخرة، وستصيبُه مصيبةُ الموت، عندها: (يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يقول يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)[الفجر: 23-24].
ويقول: يا ليتني عملت بطاعة الله، ولم أفرّط في جنب الله، ويتمنى أن يرجع ليعمل، ولكن هيهات حَضَرَ الأجل، وانقطع العمل: (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون)[يـس: 54].
عباد الله: إن من علامات قبول الطاعةِ: الطاعةُ بعدها، فعلينا مواصلة الطاعات، ومتابعة القربات، ولا يكن آخر العهد بالقرآن ختمة رمضان، ولا بالقيام آخر ليلة من لياليه، ولا بالبر والجود آخر يوم فيه.
وإذا كان رمضان قد انقضى، فإن الصيام والقيام وتلاوة القرآن والعبادة والطاعة لم تنقض.
ومن كان يعبد رمضان فإنه ينقضي ويفوت، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.
وبئس العبد عبد لا يعرف ربه إلا في رمضان.
ولقد حذرنا الله -تعالى- أن نكون مثل بلعام بن باعوراء، عالم بني إسرائيل الذي أذاقة الله حلاوة الإيمان، وآتاه آياته، ثم انقلب على عقبيه، واشترى الضلالة بالهدى، والعذاب بالمغفرة، وانسلخ من آيات الله كما تنسلخ الحية من جلدها: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ)[الأعراف: 175].
وحذَّرنا ربنا -سبحانه- أن نكون مثل: "ريطة بنت سعد" امرأة مجنونة كانت بمكة، كانت تغزل طول يومها غزلاً قويًا محكما، ثم آخر النهار تنقضه أنكاثا، أي: تفسده بعد إحكامه، فقال تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا)[النحل: 92].
وحذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من ترك الطاعة بعد التعود عليها، فقال لعبد الله بن عمرو: " يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل".
وسئلت عائشة -رضي الله عنها- عن عمله، فقالت: "كان عمله ديمة" [متفق عليه].
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل"[رواه مسلم].
وهذه التحذيرات القرآنية تنطبق على من ذاق حلاوة طاعة الله -تعالى- في رمضان، فحافظ فيه على الواجبات، وترك فيه المحرمات، حتى إذا انقضى الشهر المبارك انسلخ من آيات الله، ونقض غزله من بعد قوة أنكاثا؛ على الذين كانوا يحافظون على الصلاة فلما انقضى رمضان أضاعوها واتبعوا الشهوات، على الذين كانوا يجتنبون شرب المحرمات، ومشاهدة المنكرات، وسماع الأغنيات، فلما غاب رمضان عادوا إليها، على الذين كانوا يعمرون المساجد، ويداومون على قراءة القرآن، فلما مضى رمضان هجروا المساجد، وهجروا القرآن.
وقد قال أهل العلم: إن من أعظم علامات الرد وعدم القبول: عودة المرء إلى قبيح الأعمال بمجرد انتهاء زمان الطاعة -نعوذ بالله من الخذلان-.
عبادة حتى الموت، لقد علمنا ديننا أن العبادة لا تنقطع ولا تنقضي بانتهاء مواسمها، فما يكاد ينتهي موسم إلا فتح الله لنا موسما آخر؛ فبمجرد انتهاء آخر ليلة من رمضان بدأت بشائر موسم الحج، وهو الأشهر المعلومات في قوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ)[البقرة: 197].
وأولها باتفاق أهل العلم هو بداية شهر شوال.
وسن لنا رسولنا الكريم -عليه أفضل الصلوات والتسليم- بعد رمضان: صيام ستة أيام من شوال؛ كما جاء في صحيح مسلم عن أبي أيوب قال صلى الله عليه وسلم-: "من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال؛ فذلك صيام الدهر".
فاحرصوا على صيامها -أحبتي- لتفوزوا بأجرها، واعلموا أنه لا يشترط لها التتابع، فأي ستة أيام صمت أجزأتك، كما أن هناك صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وإن كانت الأيام البيض فهو أولى، وصيام الاثنين والخميس، وصيام يوم عرفة، وصيام عاشوراء، وصيام شهر المحرم، وأكثر شهر شعبان، والباب مفتوح لمن أراد التطوع، فمن صام يوما في سبيل الله باعد الله به وجهه عن النار سبعين خريفاً.
اللهم إنا نسألك يا أكرم الأكرمين، كما مننت علينا بالطاعة في رمضان، أن تمن علينا بها بعد رمضان، وكما وفقتنا للقرآن في رمضان أن توفقنا له بعد رمضان، وكما وفقتنا للقيام في رمضان، أن توفقنا له بعد رمضان.
اللهم إنا نسألك أن تصلح قلوبنا، وتنوّرها بنور الإيمان.
اللهم أهدنا ويَسِّرِ الهدى لنا.
هذا، وصلوا وسلموا على النبي المصطفى، والرسول المجتبى؛ كما أمركم ربكم -جل وعلا-، فقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلم تسليم كثيرا.
اللهم وارض عن الصحابة أجمعين وعن الخلفاء الراشدين الأمة المهديين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب نبيك أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم وارض عنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذِلّ الكفر والكافرين، اللهم أذِلّ الكفر والكافرين يا رب العالمين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واحفظ اللهم مقدسات المسلمين يا قوي يا متين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم نوّر على أهل القبور من المسلمين قبورهم، واغفر للأحياء ويسر لهم أمورهم.
اللهم يسر أمر كل مسلم ومسلمة يا رب العالمين إنك على كل قدير.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم احفظ ووفق إمامنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم أعنه على أمور الدين والدنيا، اللهم انصر به دينك واجمع به كلمة المسلمين يا رب العالمين، اللهم وفق بطانته لما فيه الخير للإسلام والمسلمين إنك على كل شيء قدير.
اللهم اجعل بلادنا آمنة مطمئنة رخاءً سخاءً وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم اجعل ولاة المسلمين عملهم خيرا لشعوبهم وأوطانهم إنك على كل شيء قدير.
اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا يا أرحم الراحمين.
(ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 147].
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [النحل: 90- 91].
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي