موعظة في شرح حديث

حفيظ بن عجب الدوسري
عناصر الخطبة
  1. روايات حديث ما ذئبان جائعان .
  2. خطر الحرص على المال وجمعه .
  3. الحرص على طاعة الله .
  4. مفاسد جمع المال عن طرق غير شرعية .
  5. خطر الحرص على الرئاسة والولاية .
  6. مفاسد الحرص على الشرف والعلو في الدنيا .
  7. خطر طلب المدح من الخلق .
  8. الحرص على الآخرة .
  9. الحذر من الافتتان بالملوك والرؤساء .

اقتباس

احرصوا على طاعة الله، فهو الحرص النافع، واحذروا من الحرص على الدنيا، فهو الحرص الفاجع، فحرص المرء على الدنيا، وهو مشغول معذب لا يسر، ولا يلذ بجمعه، ولا يلتذ لشغله، فلا يفرغ من محبة الدنيا لأخرته.
لا تغبطن أخا حرصٍ على سعةٍ *** وانظر إليه بعين الماقتِ القالي
إن الحريص لمشغولٌ بشقوته *** عن السرور بما يحوي من المال

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، لا إله إلا الله وحده الحق المبين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد:

أيها المسلمون الأحباب: مر علينا حديث ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد روي في مسند الإمام أحمد وعند النسائي والترمذي وابن حبان، قال صلى الله عليه وسلم من حديث كعب بن مالك الأنصاري، قال: "‏مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ".

أيها المسلمون: لقد ورد الحديث بروايات متعددة، وقد شرحه الإمام الحافظ بن رجب الحنبلي -رحمه الله-، ولكن بعض الإخوة طلب أن نتحدث عنه، ونحن لا نساوي شيئا عند أولئك العلماء الصالحين الصادقين، الذي سبقونا -نسأل الله الإخلاص-.

ورد الحديث بروايات متعددة؛ منها: قوله: "ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لهما من: حرص المرء على المال، والشرف لدينه".

وما أهلك الأمة في هذا الزمان إلا هذا البلاء.

أيها المسلمون: إن فساد دين المسلم بحرصه على المال والشرف في الدنيا، وإن فساد الدين بذلك ليس بدون فساد الغنم بذئبين جائعين ضارين يأتين في الغنم، وقد غاب عنها من يرعاها ليلا، فهما يأكلان في الغنم، ويفترسان فيها، ومعلوم أنه لا ينجو من الغنم من إفساد الذئبين المذكورين إلا قليل.

أيها المسلمون: إن حرص المرء على المال والشرف إفساد لدينه، ليس بأقل من إفساد هذين الذئبين لهذه الغنم.

احذروا من أن تكون هذه حالكم، لا يسلم من دين المسلم مع حرصه على المال والشرف في الدنيا إلا القليل؛ كما أنه لا يسلم من الغنم من إفساد الذئبين إلا قليل.

أيها المسلمون: الحرص على المال شدة محبة المال، مع شدة طلبه من وجوهه المباحة، والمبالغة في طلبه، والجد في تحصيله واكتسابه من وجوه مع الجهد والمشقة، هذا ليس للمسلم أبداً، قال ابن رجب عليه -رحمه الله-: "ولو لم يكن في الحرص على المال إلا تضييع العمر الشريف الذي لا قيمة له، وقد كان يمكن لصاحبه اكتساب الدرجات العلى، والنعيم المقيم، فضيعه بالحرص في طلب رزق مضمون مقسوم، لا يأتي منه إلا ما قدر وقسم".

أيها المسلمون: لا تضيعوا الزمان في الحرص على الدنيا، ولا تخاطروا بأنفسكم شغفا وراء الدنيا وتحصيلها، إنما هي دار مقيل.

ومن ينفق الأيام في جمع ماله *** مخافة فقر فالذي فعل الفقر

ولا تحسبن الفقر من فقد الغنى *** ولكن فقد الدين من أعظم الفقر

نسأل الله ثباتا على الدين.

أيها المسلمون: قيل لبعض الحكماء: إن فلانا من الناس جمع مالا، فقال: "فهل جمع أياما ينفقه فيها".

أيها المسلمون: الرزق مقصوم، والحريص محروم، إذا أفنيت عمرك في طلب الدنيا، فمتى تطلب الآخرة؟

إذا كنت في الدنيا عن الخير عاجزا *** فما أنت يوم القيامة صانع

لقد كان ابن مسعود -رحمه الله- يقول: "اليقين أن لا ترضي الناس بسخط الله، ولا تحسد أحدا على رزق الله، ولا تلوم أحد على ما لم يأتك الله، فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص، ولا يرده كراهة كاره، فإن الله بقسطه جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط، إذا كان القدر حقا فالحرص باطل، وإذا كان الغدر في الناس طباعا فالثقة بكل أحد عجز، وإذا كان الموت لكل أحد راصد، فالطمأنينة إلى الدنيا حمق" هكذا قال السلف.

أيها الإخوة المؤمنون: الحرص على الدنيا والسعي وراءها يهلك العبد: "لحرص المرء على الدنيا أخوف عند الله من أعدى أعدائه له" هكذا قال بعض السلف.

احرصوا على طاعة الله، فهو الحرص النافع، واحذروا من الحرص على الدنيا، فهو الحرص الفاجع، فحرص المرء على الدنيا، وهو مشغول معذب لا يسر، ولا يلذ بجمعه، ولا يلتذ لشغله، فلا يفرغ من محبة الدنيا لأخرته.

لا تغبطن أخا حرصٍ على سعةٍ *** وانظر إليه بعين الماقتِ القالي

إن الحريص لمشغولٌ بشقوته *** عن السرور بما يحوي من المال

أيها المسلمون: احرصوا على طاعة الله أكثر من حرصكم على تحصيل الدنيا، واعلموا أنها دار مرض، ودار غرور، ودار آفات، ودار علل، وأن العبد يجب عليه أن يكون في فيها زاهدا، وليعلم أنه ميت.

أيها المسلمون: الإنسان طالب ومطلوب، يطلبك من لا تفوته، وتطلب من قد كفيته؛ كأنك -يا أخي المسلم- لم تر حريصا محروما، وزاهدا مرزوقا.

احرصوا على طاعة الله، واحذروا من هذه الدنيا، فكم ألهت من عبد؟ وكم أزلت من صالح؟ وكم زاغت بأناس؟

احرصوا على الآخرة، ولا تحرصوا على الدنيا، فإن الحرص على الآخرة هو الذي ينجي صاحبه، الحرص مفسدة للدين والمروءة.

هب الدنيا تصير إليك عفوا *** أليس مصير ذاك إلى الزوال

نعم، والله.

حرص الحريص جنون *** والصبر حصن حصين

إن قدر الله شيئا *** فإنه سيكون

لماذا تتعب وأنت تعلم أنه إن قدر الله شيئا فإنه سيكون؟

حتى متى أنت في حل وترحال *** وطول سمع وإدبار وإقبال

ونازح الدار لا ينفك مغتربا *** عن الأحبة لا يدرون بالحال

بمشرق الأرض طورا ثم مغربها *** لا يخطر الموت من حرص على بال

ولو قنعت أتاني الرزق في دعة *** إن القنوع الغنى لا كثرة المال

فاقنعوا بما أعطاكم الله، ولا تلهثوا وراء الدنيا، واعلموا أنها دار بلغة زائلة.

أيها المتعب جهدا نفسه *** يطلب الدنيا حريصا جاهدا

لا لك الدنيا ولا أنت لَها *** فاجعل الهمّين هَما واحدا

أيها الإخوة المسلمون: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9].

إن الحرص على المال يزيد العبد تحركا إلى الدنيا، حتى يطلب المال من الوجوه المحرمة، وحتى يمنع الحقوق، حتى يكون من أهل الشح المذموم: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9].

أيها المسلمون: ألم يرد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث: "اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم؛ أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالفجور ففجروا " -نسأل الله العافية والسلامة-.

وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دمائهم، واستحلوا محارمهم".

فاتقوا الله -يا عباد الله- واعلموا ان الحرص الشديد الذي يحمل صاحبه على أن يأخذ الأشياء من غير حلها، ويمنع حقوقها؛ هو الشح الذي حذر الله منه، وحذر منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلا تتشوق نفوسكم إلى ما حرم الله، ومنع منه، ولا تقنعوا إلا بما أحل الله، واحذروا أن تكونوا مما حرم الله، أو تطلبوا المال من حرام، أو تأخذوه من غير وجهه، واعلموا أن هذا يدخل في الشح الذي حذركم الله، وحذركم رسوله -صلى الله عليه وسلم- منه.

أيها المسلمون: الشح يأمر بالقطيعة والفجور والبخل، البخل إمساك ما في يده، والشح تناول ما ليس له ظلما وعدوانا؛ من مال وغيره، فاحذروا -يا عباد الله- واعلموا أن هذا أمر خطير، فاحذروا منه، في المسند: "لا يجتمع الشح والإيمان في مؤمن".

أيها المسلمون: أفضل الإيمان الصبر والسماحة، فكونوا من أهل الصبر والسماحة، واحذروا من هذه الدنيا، إذا وصل الحرص على المال إلى درجة أن يأخذ من طرق المحرمة، فإنه –والله- يهلك صاحبه، ويودي به إلى النار.

أيها المسلمون: ليست الدنيا هي الدار، فلا تحرصوا على تحصيلها، وكسبها بحرص زائل، ويكفيكم منها البلغة، إنها ظل، ومقيل زائل، وحرص المرء على الشرف أشد هلاكا من الحرص على المال، فإن طلب شرف الدنيا والرفعة فيها، والرئاسة على الناس، والعلو في الأرض أضر على العبد من طلب المال، وضرره أعظم، والزهد فيه أصعب، فإن المال يبذل في طلب الرئاسة والشرف.

أيها المسلمون: لا تطلبوا شرف الولاية والسلطان، وهو في الغالب يمنع خير الآخرة، وشرفها وكرامتها، قال الله -تعالى-: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص: 83].

من هم؟

(لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا)[القصص: 83]..

ومن طلب الدنيا، وسعى على شرفها، وإلى سلطانها، ليولى فيها، وليكون عاليا في الأرض، فإنه لا يوفق، بل إنه يوكل إلى نفسه.

قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في البخاري: "يا عبد الرحمن، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة، وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها".

أيها المسلمون: لا يحرص رجل على ولاية غالبا فيعدل، وفي زماننا تنافس الناس على أن يكونوا قضاة، وأن يكونوا حكاما، وأن يرئسوا الناس، وأن يتولوا أمورهم، وذلك –والله- من حب المال والشرف، وهذا –والله- يضيع دين العبد، ويفسده عليه، فاتقوا الله، واحذروا.

ألم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما روى أبو هريرة: "إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة" -لا حول ولا قوة إلا بالله-.

أيها المسلمون: احذروا من هذه الدنيا، واحذروا من طلب الشرف، واعلموا أن العز والشرف في الآخرة أعظم؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنا لا نؤتي أمرنا هذا من سأله، ولا من حرص عليه".

أيها المسلمون: الحرص على الشرف يستلزم حرصا عظيما قبل وقوعه، في السعي في أسبابه، وقد يفعل الإنسان ظلما وحراما، وتكبرا وضررا، ويرتكب ما حرم الله، ليصل إلى هذا الذي يريد، فيهلك، -نسأل الله العافية والسلامة-.

أيها المسلمون: إن فتنة حب الثناء والشرف، والمنزلة عند أهل الدنيا، يتجمل بالعلم كما يتجمل بالحلة الحسناء للدنيا، ولا يجمل علمه بالعمل به، وأولئك فئة من العلماء سعوا إلى تحصيل الدنيا، وطلب العلم للشرف والمكانة، وإن كان في كل زمان لا يخلو من عباد لله يطلبون العلم لوجه الله، ويأتيهم الشرف، وتأتيهم الرئاسة، في الدنيا قبل الآخرة، وهم لا يريدونها.

أيها المسلمون: ليست من صفات المؤمنين الصالحين أن يكونوا من أهل الحرص على الدنيا، وتحصيلها، أو على الشرف والرئاسة، فاحذروا منها، ولا تكونوا من أهلها: "اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع".

أيها المسلمون: ولم يزل الفساد متزايدا أضعافا مضاعفة؛ بسبب هذا؛ وحب الشرف، وطلب الولايات، والحرص على القيادة، باب غامض لا يعرفه إلا العلماء بالله، العارفون به، المحبون له، الذين يعادون بسببه؛ من جهال خلقه، الذين يزاحمون ربوبية الله، ويسعون إلى تحصيل شرف ليس لهم.

ألم يقل الحسن البصري: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، إن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه".

فلا تحرصوا على الشرف وعلى النفوذ، واعلموا أن ما عند الله أبقى، واحذروا من التعاظم على الخلق، واحذروا من التكبر على الخلق، واحذروا من منازعة الله -سبحانه وتعالى-، أظهروا افتقاركم إلى الله، ولا تفسدوا دينكم بحرصكم على الدنيا والشرف: (وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ)[الأنعام: 42].

وقال الله: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ)[الأعراف: 94].

فاحضروا على التضرع والإخبات والاستصغار لله -سبحانه وتعالى-، واعلموا أنه في الحديث الصحيح، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله -تعالى- الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني فيه عذبته".

فاتقوا الله -يا عباد الله-، اتقوا الله، واحذروا من الدنيا، فإنها مهلكة، واحذروا من حب الشرف والولاية، والقيادة والرئاسة، واعلموا أن أغلبهم يهلك في الدنيا، وإن حصل ما رأى الناس أنه حصل، فإنه هالك إلا من رحم الله.

ربما أظهر العبد أمرا حسنا في الظاهر، وأحب المدح عليه، وقصد به في الباطن شرا، قصد التمويه، وترويج نفسه على الخلق، قال الله -تعالى-: (لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [آل عمران: 188].

أيها المسلمون: احذروا من طلب المدح من الخلق، واحذروا من طلب محبتهم، واعلموا أن محبة الله تلزم الخلق أن يحبوك، لا يصلح إلا أن تحب الله، وأن تفرده بالعبادة وحده، وأن تخلص في عملك لله وحده لا شريك له.

احرصوا على طاعة الله، واحذروا من الدنيا، ولا تحرصوا عليها، ولا على شرفها، فإنها أهلكت من كان قبلكم، فاحذروا أن تهلككم.

لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، إنما أنا عبدا فقولوا عبد الله ورسوله" وهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فما بالك بالذين يعظمون أنفسهم وينزلونها ما لا تستحق من المنازل؟

أيها المسلمون: لا تخافوا في الله لومة لائم، واحرصوا على الآخرة، ولا تطلبوا الشرف والعلو، طلب الشرف والعلو على الناس، حتى ولو كان بالعلم والعمل والزهد، هذا قبيح، وهو أقبح من غيره.

أجد الملامة في هواك لذيذة *** حباً لذكرك فليلمني اللوم

وقف الهوى بي حيث أنت *** فليس لي متأخر عنكم ولا متقدم

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة: 54] -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم-.

ايها المسلمون: احرصوا على الآخرة، ولا تتعلموا العلم للدنيا: "من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرض الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة".

فاحرصوا على الآخرة، واحذروا من الدنيا: "أشد الناس عذابا في الآخرة عالم لم ينفعه الله بعلمه".

وعالم بعلمه لم يعملن *** معذب من قبل عباد الوثن

فكيف بمن جعل العلم مطية للحرص على الدنيا.

اطلبوا العلم للآخرة، واطلبوا ما يرضي الله –سبحانه وتعالى-، وازهدوا في الرئاسة على الخلق، ولا تكونوا من أهل التعاظم عليهم، وانقادوا لله، وائتمروا بأمره، وانتهوا عن نهيه.

واحرصوا أنتم يا طلبة العلم على طلب العلم لله وحده، ولتحصيل الأجر والمثوبة، ودخول الجنة: "من طلب العلم ليماري به السفهاء، أو يجاري به العلماء، أو يصرف وجوه الناس إليه أدخله الله النار".

فاتقوا النار -يا عباد الله-، واتقوه أنتم يا طلبة العلم بالذات.

لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا لتخيروا به المجالس؛ فمن فعل ذلك فالنار النار.

فاتقوا الله -يا عباد الله-، تعلموه لوجه الله -تعالى-، واحرصوا على طاعة الله، واخلصوا نياتكم لله -سبحانه وتعالى-، وليحضر عندكم -أيها العلماء ويا طلبة العلم- حديث النبي –صلى الله عليه وسلم- في مسلم أن أبا هريرة روى عنه: "إن أول الخلق تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة" منهم: "العالم الذي قرأ القرآن ليقال: قارئ، وتعلم العلم ليقال: عالم، وإنه يقال له، وقد قيل ذلك، وأمر به فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار" -نسأل الله العافية والسلامة ونسأله إخلاص النية-.

يا حملة العلم يا طلبة العلم: عليكم بطاعة الله، وعليكم بالإخلاص، واحذروا من التعالي والتعاظم: "لا يكن حظ أحدكم من علمه أن يقال: عالم "؛ كما يقول الحسن.

كيف يكون من أهل العلم من يطلب العلم ليحدث به، ولا يطلبه ليُعمل ويعمل به قبل ذلك، فاحرصوا على ذلك، أجرأكم على الفتيا أقلكم علما، والذي يحاول أن يصدر نفسه دون أن يكون من أهل العلم على خطر عظيم.

أيها المسلمون: لقد كان السلف يتواضعون، وقد كان علماؤهم يتدافعون الفتوى، فلا يفتون حتى يبتلوا، فلا يوجد في المكان غيرهم، فيبلغون العلم خشية التأثم.

تسابقوا إلى الإخلاص، واحرصوا عليه، واحذروا من فتنة الدنيا، ولا تكونوا من أهلها، وكونوا من أهل الآخرة، فإنها منقضية.

احذروا -أيها العلماء ويا طلبة العلم- من الدخول على الملوك، والدنو منهم، وهو باب يدخل منه على علماء الدين لينالوا الشرف والرفعة والمكانة، ولكنهم يخسرون شيئا عظيما، وقد كان السلف: لا يدخلون عليهم إلا ليأمروهم بالمعروف، أو ينكروا عليهم، فينهونهم عن المنكر، أو لا يدخلون عليهم.

لقد كان السلف يقولون: من أعظم ما يخشى على من يدخل على الملوك الظلمة: أن يصدقهم بكذبهم، ويعينهم على ظلمهم، ولو بالسكوت عن الإنكار عليهم، فإن من يريد بدخوله عليهم الشرف والرئاسة، هو حريص عليها، لا يقدم على الإنكار عليهم، بل ربما حسن لهم بعض أفعالهم القبيحة، تقربا إليهم، ليحسن موقفه عندهم، ويساعدوه على غرضه.

فاحذروا من الدنيا، واحذروا من أن تفتنوا بهؤلاء الرؤساء والملوك، والأمراء والعظماء، وكونوا في الدنيا لا في الآخرة، وكونوا من أهل الصلاح، مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، ولا تخافوا في الله لومة لائم.

أيها المسلمون: احذروا من أن تكون الدنيا همكم، وأن تكون الرئاسة والشرف مطلبكم، واطلبوا الآخرة، وإياكم أن تكونوا من أهل الدنيا الذين يقتربون منها، ويحاولون أن تكون لهم، ويتناسون الآخرة، فاحذروا احذروا، وانتبهوا، يا طلبة العلم.

أيها المسلمون: يا طلاب العلم: عليكم أن تظهروا الصلاح والتقوى وتبطنوه، وأن تظهروا الزهد وتتقنوه، وأن تقولوا الخير، فتعملوا به سرا وظاهرا، ومروا أنفسكم بالمعروف، وانهوها عن المنكر، واحذروا أن تفسدوا دنياكم، وأن تفسدوا دينكم، وماذا لو فسدت الدنيا إذا بقي الدين؟!

إذا صح منك الود فالكل هين *** وكل الذي تحت التراب تراب

أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا وإياكم ممن لا يحبون الدنيا للدنيا، ولا الرئاسة، وأن يجعلنا من أهل الآخرة، وأن يجعلنا من أهل الحرص على الجنة، وأن يجعلنا من أهل الفوز.

احذروا -يا عباد الله-، وليحضر عنكم قول الله -تعالى-: (فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[النازعات: 37-41].

واحذروا من هذه الدنيا، والحرص عليها، وطلب الشرف فيها: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ)[الحاقة: 25-29].

أيها المسلمون: إذا رأيت الدنيا فقل إني راحل عنك، فإذا رأيت ما يقربك إلى الآخرة فقل: إني قادم إليك، وفي ذلك فليتنافس المنافسون.

قال الحسن: "إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة".

وكان وهيب بن الورد يقول: "إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد، فافعل".

احرصوا على الآخرة، واعلموا أنكم سائرون إليها، وأنها هي دار المقر، وهي دار القرار، فكونوا من أهل الآخرة، واجعلوا الدنيا مطيتكم إليها.

أيها المسلمون: قال إبراهيم بن أدهم: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف".

من رزقه الله الإخلاص والعلم اشتغل عن طلب الشرف الزائل، والرئاسة الفانية؛ يقول الله -تعالى-: (وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ)[الأعراف: 26]. (مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا)[فاطر: 10].

عليكم بالآخرة من الدنيا: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)[النحل: 97].

ألا إنما التقوى هي العز والكرم *** وحبكَ للدنيَا هو الذلُّ والعدمْ

وليس على عبد تقي نقيصة *** إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم

نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل، وأن يجعلنا من أهل الآخرة، وأن يرزقنا الإخلاص، وأن يقبلنا عنده، وأن يجعلنا من عباده الصالحين: (ِإنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) [مريم: 96].

"إن الله إذا أحب عبدًا دعا جبريل، فقال: يا جبريل، إني أحب فلانًا فأحبه، قال: فيحبه جبريل"، قال: "ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا" قال: "فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض" -نسال الله من فضله-.

أيها المسلمون: من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى، واحرصوا على الآخرة، واعلموا أنها هذا الدنيا دار مفترق.

أمران مفترقان لست تراهما *** يتشوفان لخلطة وتلاقي

 طلب المعاد مع الرئاسة والعلى *** فدع الذي يفنى لما هو باقي

اللهم إنا نسألك الإخلاص في القول والعمل، ونسألك القبول.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي