الإخلاص: معاني وآثار وعلامات ووسائل

سليمان بن حمد العودة

عناصر الخطبة

  1. معاني الإخلاص
  2. ارتهان قبول الأعمال به
  3. قلة عدد المخلصين
  4. أمارات الإخلاص
  5. وسائل تعين على الإخلاص

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين، ورضي الله عن أصحابه أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات:13]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102].

أيها المسلمون: حديثي إليكم عن أمرٍ يهمنا جميعاً، ونقصِّر في شأنه كثيراً، نتحدث به كثيراً ولا نعمل به في حياتنا إلا قليلاً، هو أمر الله: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة:5]، وهو الدين الذي يرضاه الله ويقبله: ﴿أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ [الزمر:3].

إنّنا في زحمة الحياة، وغلبة الشهوات، وطغيان المجاملات نفرِّط في أغلى شيء، وننسى أو نتناسى أنفَس شيء، نلتفت إلى عدد من أعمالنا وممارستنا في الحياة اليومية، فلا نكاد نجدُ الإخلاص لها رائداً.

وحين نصدق مع أنفسنا نعترف بأن الدافع لعدد من تصرفاتنا ومواقفنا حظوظ النفس، وغلبةُ الأهواء، والرغبة في مطامع الدنيا، ومن هنا قلَّت البركة في أعمالنا، وضعف إنتاجنا، وتعبت أجسادنا، ولم تطمئن قلوبنا، وَوُجِدت الخصومات والتنافر بيننا.

إن الحديث عن الإخلاص صعب على النفس، ولولا أمانة الكلمة ومسؤولية البلاغ ما حدثتكم، فأنا أحوج للحديث منكم، ولا تَقِلُّ حاجتي عن الإخلاص عن حاجتكم، لكنني أخاطب نفسي إذ أخاطبكم، وألوم نفسي قبل أن ألومكم، وكلّنا خطَّاء، وخير الخطائين التّوابون، ولنسمع الحديث، وليس منا مبرّأٌ من النقص والخطأ.

حديثي إليكم عن شيءٍ من معاني الإخلاص وآثاره، وعلامات الإخلاص وأمارات المخلصين، ألا ما كان الإخلاص في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه.

إن صلاح النية وإخلاص الفؤاد لرب العالمين يرتفعان بمنزلة العمل الدنيوي البحت، فيجعلانه عبادة متقبلة؛ وإن خُبث الطَّوية، وظهور الرياء يهبطان بالطاعة المحضة، ويقلبانها إلى معاصٍ شائنة لا ينال المرء منها بعد التعب في أدائها إلا الفشل والبوار.

أرأيتم كيف بلغ سقي الكلب الذي يأكل الثرى من العطش بصاحبه إلى مغفرة الرب؟! والرجل يزرع الزرع ويغرس الغرس ليتكسب من وراء ذلك، فإذا رافقته النية الطيبة، واحتساب الأجر لمن أكل منه، لم يأكل منه طيرٌ أو إنسان أو حيوان، إلا كان له به صدقة.

بل إن شهوة المرء التي يتلذذ بفعلها تنقلب إلى عبادة مع حسن النية وعلُوِّ المقصد، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدُنا شهوته ويكون له فيها أجرٌ؟ قال: "نعم، أرأيتم لو وضَعَها في حرامٍ أما يكون عليه وزرٌ؟" قالوا: بلى، قال: "وكذلك إذا وضَعها في حلال"، يعني يكون له بذلك أجر. فكيف إذا صاحب ذلك إصلاح الذرية، وتكثير نسل المسلمين، وإعفاف النفس والآخرين؟!.

إخوة الإسلام: وفي مقابل ذلك قال تعالى عن فئة من المصلين: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ(7)﴾ [الماعون:4-7]، وقال عن فئة من المتصدقين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة:264].

أيها المسلمون: إن توفر الإخلاص واستحضار النية الطيبة تجعل من المعدوم موجوداً، فقد يهمُّ المسلم بعمل الخير، ويرغبُ في أدائه، ولكنه قد لا يستطيعه، أو تعجز وسائله عن إدراكه، فيكتب الله له أجر ذلك العمل، وإن لم يقم به؛ لأن الله علم ما في قلبه.

أرأيت مَن يتطلع إلى جهاد الأعداء، ولكن يقعد به ضعفه عن ذلك، ومن يغبط المتصدقين فيَودُّ لو كان له مال فينفقه في سبيل الله، ومن يتطلع إلى عمل الصالحات، لكن يقعد به المرض؟ كلُّ أولئك وأمثالهم بنواياهم وأجرُهم على الله، وفي الحديث: "إنما الدنيا لأربعة نفر…" درس وعبرة.

وحين تخلَّف نفرٌ من المسلمين عن الغزو مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع شدة رغبتهم في الخروج، لكن حبسهم العذر، حينها نوَّه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بفضلهم، وشملهم بعظيم الأجر من ربهم، وقال عنهم: "إن أقواماً خَلْفنا بالمدينة، ما سَلَكنا شِعباً ولا وادياً إلا وهم معنا، حَبَسَهُمُ العذرُ" رواه البخاري. وهكذا سُجِّل هؤلاء المخلصون مع المجاهدين، لأنهم قعدوا راغمين معذورين.

وفي المقابل استحقَّ نفرٌ ممّن خرجوا مع المسلمين التقريع والفضيحة، بل ووصمة الكفر والإجرام، لأنهم خرجوا نفاقاً، وكان شغلهم -حين خرجوا- الإرجاف والاستهزاء بالمؤمنين: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ(66)﴾ [التوبة:65-66].

عباد الله: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكلِّ امرئ ما نوى" حديث من أحاديث الذي لا ينطق عن الهوى، وهو أصل من أصول الإسلام، كان كثير من العلماء يفتتحون به مؤلفاتهم لأهميته وأثره على الأعمال قبولاً أو رداً؛ فهل نضع هذا الحديث أمام أعيننا في كل حركة نتحركها أو قولٍ نقوله، أو عمل نعمله.

إن الله لا يرضى أن يُشرك معه غيره في العبودية والطاعة: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف:110]، وفي الحديث القدسي يقول الله تبارك وتعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركتُه وشركَه" أخرجه مسلم.

ألا ويح الذينَ يغرون الناس بهيئاتهم أو أقوالهم، والله يعلم ما يكتمون، وهم أبعد ما يكونون عن الإخلاص! أولئك حَريُّون بالفضيحة في الدنيا، أو في الآخرة، أو بهما جميعاً.

وفي الحديث الذي أخرجه الترمذي وحسَّنه غيره، قال -صلى الله عليه وسلم-: "يكون في آخر الزمان رجالٌ يختلون الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضأن من اللِّين، ألسنتُهم أحلى من العسل، وقلوبهم قلوبُ الذئابِ، يقول الله تعالى: أبي يغترُّون، أم عليَّ يجترئون؟! فإني حلفتُ لأبعثن على أولئك منهم فتنةً تَدَعُ الحليمَ حيران" جامع الأصول.

وفرق بين هؤلاء وبين الأخفياء الأتقياء الذين يعملون الصالحات طاعة لله، وإحساناً إلى الخلق- ثم يتوارى أحدهم بعمله ويكره أن يطلع عليه الناس؛ لكن أولئك يرجون لقاء الله وعظيم أجره، و﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [العنكبوت:5].

إن الناس -كلَّ الناس- يلجؤون إلى الله بالإخلاص في حال الشدائد والضراء إذ يشعرون حينها ألاَّ ملجأ من الله إلا إلى الله، وهنا يدعونه تضرُّعاً وخفية، ولكن تلك حالات طارئة لا يقاس بها الإخلاص الحق، وإنما يقاس الإخلاص في أحوال السراء حين تتطلَّعُ النفوسُ إلى أعراض الدنيا من الشهوة والشُّهرة وحب الثناء والتطلع إلى الجاه وبُعد الصيت، فتؤْثر ما عند الله على ما عند خلقه، وتُغلِّبُ نعيم الآخرة على متاع الدنيا الزائل.

إن الإخلاص يستدعي -فيما يستدعي- نفوساً كبيرةً لا يأسرها التفكير باللحظة الحاضرة، بل تتطلع إلى الثمرة المستقبلية للإخلاص، ويستدعي كذلك ضبط النفس عن مزالق الفتن والشهوات، ويستدعي الثبات على الحق في الملمات، حتى وإن نال النفس شيءٌ من المصاعب والمتاعب.

ولقد كان سحرةُ فرعون نموذجاً لهذا حين خالط الإيمان قلوبهم، وانطلقوا من قاعدة الإخلاص واليقين يقولون لفرعون: ﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(73)﴾ [طه:72-73].

الخطبة الثانية:

الحمد لله خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فاوت بين عباده في الهمم، وفاوت بينهم في حسن القصد وصلاح العمل.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أخبر -وهو الصادق الأمين- عن مصير الثلاثة الذين انتهى بهم الأمر إلى أن يُسحَبوا على وجوههم حتى يلقوا في النار؛ لأنهم عملوا من أجل الناس حتى ولو كان الأمر -في ظاهره- جهاداً في سبيل الله، أو تعلُّماً للعلم وتلاوة للقرآن، أو نفقة في وجوه الخير. أخرجه مسلم.

اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.

عباد الله: وإذا كان أمرُ الإخلاص عظيماً عند الله فليس سهلاً على النفوس، إلا من وفَّقه الله، وجاهد نفسه على ترويض النفس على الإخلاص.

قال أحدُ العارفين: ليس على النفس شيءٌ أشقّ من الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب. وقال آخر: أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، وكأنه ينبت فيه على لون آخر.

أيها المسلمون: إن المتأمل في واقعنا يرى كيف يعزُّ الإخلاص ويقلُّ المخلصون! أين إخلاص العامل في عمله، وأين إخلاص المربي في تربيته، هل يخلص رجال الأعمال في أعمالهم؟ وهل تظهر على الطلاب سيما الإخلاص في دراستهم وتحصيلهم؟ وفي مجال الطب والهندسة، أو غيرهما من الوظائف والحرف، ما نَصيبُ الإخلاص لدى المختصين والعاملين فيها؟ في مجال طلب العلم -عموماً- والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي القضاء، بل وفي سائر الولايات الدينية والدنيوية؛ كيف يكون الإخلاص؟ وكم هي نسب المخلصين؟.

عباد الله: ولئن كان الإخلاص من أعمال القلوب، وتلك لا يعلم حقيقتها إلا علاَّم الغيوب، إلا أن للإخلاص أماراتٍ وللمخلصين علامات يمكن أن يُستدل بها عليهم، ومن علامات الإخلاص: الجدية في العمل وحسن الإنتاج، وأن يستوي عند العامل شهود الناس لعمله أو غفلتهم عنه.

ومن علامات المخلصين أنهم لا يرغبون في مدحهم ولو عملوا، بعكس غيرهم ممن يُحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا. المخلصون يخشون الله بالغيب ويراقبونه في حال السرِّ، كما يخشونه في الشهادة، ويراقبونه في حال العلانية، شأن المخلصين وهدفهم رضا الله، وليس هدفهم أن يرضى الناس عنهم ولو سخط الله!.

المخلصون لا يأنفون أو يتضايقون إذا رموا بما ليس فيهم، فقد يكون أحدهم جواداً ويُرمى بالبخل، أو عالماً وداعيةً ويرمى بالجهل والإفساد -وهو ليس كذلك في ظاهره وباطنه-؛ بل ربما أزرى المخلصون بأنفسهم وحمدوا المتَّهمين لهم بما ليس فيهم.

ومن روائع مواقف السلف أن رجلاً زاحم سالم بن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهم- في منىً، فالتفت الرجل إلى سالم -وهو لا يعرفه- فقال له: إنّني لأظنُّك رجل سوءٍ! فأجابه سالمٌ -وهو من خيار التابعين- بقوله: ما عرفني إلا أنت!.

أهلُ الإخلاص تهون عليهم أنفسهم فلا ينتقمون لها، وتعظم في صدورهم حرماتُ الله فيغضبون لانتهاكها، ويقومون بما أوجب الله عليهم حيال المنتهكين لها.

المخلصون يهتمون بإخلاص العمل وموافقته للصواب والسنة وديمومته –وإن قل عملُهم-، وغيرُ المخلصين يهتمون بكثرة العمل، حتى وإن خالطه الرياءُ، وأفسدته الخرافات والبدع.

أيها المسلمون: وهناك أمور تعين المسلم والمسلمة على الإخلاص، ومنها: إدامة النظر في كتاب الله عموماً، والتأمل في آيات الإخلاص، وثواب المخلصين خصوصاً؛ ومن مثل قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً(19)﴾ [الإسراء:18-19].

وألاَّ يعمل المرءُ حين يعمل وغاية أمانيه حظوظ الدنيا ومتاعُها، بل عليه أن يتطلع إلى نعيم الآخرة وثوابها، وفي القرآن الحكيم: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾ [النساء:138].

وألاَّ يجعل رضا الناس غايته، فـــ "من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس".

وتدريب النفس على الإخلاص ومجاهدتُها على التخفي عن أَعْيُنِ الناس فيما لا حاجة بالاطلاع عليه يُعين على الإخلاص، وقد روي عن عبد الله بن المبارك، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن -رحمهم الله- أن الحسن قال: إن كانِ الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لقد فقِه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوار وما يشعرون به، ولقد أدركت أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر، فيكون علانية أبداً، لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يُسمع لهم صوت، إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً﴾ [الأعراف:55].

والنظر في سير الأنبياء -عليهم السلام-، والصالحين المخلصين من بعدهم، ومعرفة عواقب الإخلاص في حياتهم يُعين كذلك على الإخلاص، وليس يخفى أن الإخلاص سبب لصرف السوء والفحشاء عن يوسف عليه السلام، وهذا من حفظ الله له: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ [يوسف:24].

ومما يعين على سلوك الإخلاص أن يتصور المرءُ -وهو بَعْدُ في الدنيا- رقابةَ الله، ودقةَ الحساب يوم القيامة، وما أتعس العامل إذا وفد على الله بأعمال كثيرة، لكنها غير خالصة لله، فطرحت ثم طرح صاحبها في النار! وقيل لهؤلاء المرائين: اذهبوا إلى من كنتم تُراؤون في الدنيا فليشفعوا لكم! وهناك يفرُّ المرء من أخيه، وأُمّه وأبيه، وصاحبته وبنيه، وأنّى له أن يلتفت إلى من كان يرائيه؟!.

هذا فضلاً عن أن المرائي قد ينكشف في الدنيا ويُفضح حيًّا، قبل أن تكون الفضيحةُ الكبرى، فليحذر العقلاءُ من سوء العواقبِ عاجلاً أو آجلاً.

عباد الله: ثمِّنوا الإخلاص في حياتكم، وقدِّروا من تتعاملون معه حقَّ قدره، فهو العالم بسرِّكم وجهركم، واعلموا أن الله لا ينظرُ إلى صوركم وأجسامكم، ولكن ينظرُ إلى قلوبكم، وأنه خلق السماواتِ والأرضَ، والموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسنُ عملاً.

ومع الاجتهاد في كل وسيلة تبلغكم الإخلاص فعليكم بالدعاء، ولا تنسوا أن تقولوا: اللهم إني أعوذ بك من أن أشرك بك شيئاً أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه، واسألوا ربكم قبول الأعمال، فإنما يتقبل الله من المتقين.

جعلني الله وإياكم والمسلمين من الأتقياء، الأنقياء، الأخفياء؛ ومن عباد الله المخلصين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

 


تم تحميل المحتوى من موقع