أيها المؤمنون: حديثي إليكم في هذا اليوم عن مرض اجتماعي خطير، انتشر في أوساط الناس، وخصوصاً في اجتماعاتهم، ومناسباتهم، ومنتدياتهم، هذا المرض –وللأسف- يحبط الطاعات، ويزرع الأحقاد، ويدمّر المجتمعات، هو سمٌ ناقع، وداءٌ خبيث، وهو جريمة أخلاقية، يقول عنها عدي...
الحمد لله الذي خلقنا فسوانا، ومنّ علينا فهدانا، وأطعمنا وسقانا، ومن كل ما سألناه أعطانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، قوله حكمة، وفعله رحمة، صلى الله وسلم عليه ما ذكره الذاكرون، وصلى الله وسلم عليه ما غفل عن ذكره الغافلون، وعلى آله وأصحابه ومن سار على منهاجه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -تعالى- ففيها النجاح والسعادة والفلاح: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71].
أيها المؤمنون: حديثي إليكم في هذا اليوم عن مرض اجتماعي خطير، انتشر في أوساط الناس، وخصوصاً في اجتماعاتهم، ومناسباتهم، ومنتدياتهم، هذا المرض –وللأسف- يحبط الطاعات، ويزرع الأحقاد، ويدمّر المجتمعات، هو سمٌ ناقع، وداءٌ خبيث، وهو جريمة أخلاقية، يقول عنها عدي بن حاتم -رضي الله عنه- "هي مائدة ومرعى اللئام" لعلكم عرفتموها؛ إنها: "الغيبة وما أدراك ما الغيبة".
وبعض الناس يغتاب، ولا يعلم ما هي الغيبة، هذا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- يقول من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أتدرون ما الغيبة؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "ذكرك أخاك بما يكره" قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته".
والبهتان: ذكرك أخاك بصفات ليست فيه، أما الغيبة، فهي: ذكرك أخاك بصفات هي فيه فعلا، يقول الله -تعالى-: (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ)[الحجرات: 12].
قال ابن كثير –رحمه الله- كلام جميل حول هذه الآية: "فكما تكرهون هذا طبعاً فاكرهوا ذاك شرعاً، روى أبو داود في سننه، والإمام أحمد في مسنده، وصححه الألباني -رحمه الله- من حديث أبي برزه الأسلمي -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في بيته".
وفي رواية: "في جوف بيته" فربما أن هناك عمل بينك وبين أهلك، لا تريد أن يطلع عليه أحد من الناس، ولكن عند وقوعك في الغيبة، يزيل الله هذا الستار، ويظهر هذا العمل للناس، وهذه من عقوبات الغيبة في الحياة الدنيا.
وعندما أتى الصحابي ماعز -رضي الله عنه- إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقال: "أنا زنيت يا رسول الله فطهرني" فأقام عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحد فرُجم، فسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجل يقول لصاحبه: "ألم ترى إلى هذا الذي ستره الله فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب" فلمّا مرّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- على جيفة حمار -أكرمكم الله-، فقال رسول الله -صلى لله عليه وسلم-: "أين فلان وفلان؟" فأقبلا إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فقال لهما: "أنزلا فكلا من جيفة هذا الحمار" فقالا: يغفر الله لك يا رسول الله أيؤكل هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أكلكما آنفاً من لحم أخيكما أشد من أكلكما من جيفة هذا الحمار، والذي نفسي بيده، إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها".
وأقبل أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- على الرسول -صلى الله عليه وسلم- مستنصحاً، فقال: يا رسول الله، أيّ المسلمين أفضل؟ وفي رواية: "أيّ المسلمين خير؟" فقال صلى الله عليه وسلم: "خير المسلمين من سلم المسلمون من لسانه ويده".
يقول الإمام النووي -رحمه الله- في كتابه الأذكار: "الغيبة هي: ذكر المرء بما يكره سواءٌ في دينه أو بدنه، أو خلقه، أو ماله، أو ولده، أو زوجه، أو حركته، أو طلاقته، سواءٌ كان ذلك باللفظ، أو بالرمز، أو بالإشارة".
وأجمع العلماء: أن الغيبة كبيرة من كبائر الذنوب تستوجب التوبة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه".
عباد الله: هناك مداخل شيطانية يلبّس الشيطان على الناس حتى يقعوا في الغيبة، ومنها:
فيقول بعض الناس: إن ما ذكرناه في فلان هي صفات موجودة فيه فعلا.
نقول لهؤلاء: هذا حرام، ولا يجوز؛ لحديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كانت العرب يخدم بعضها بعضاً في الأسفار، وكان مع أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- رجل يخدمهما، فاستيقظا، ولم يهيئ لهما الخادم طعام، فقال أحدهما للآخر: "إن هذا ليوائم نوم بيتكم" أي يوافق نوم البيت، وهذه صفة متحققة في هذا الخادم، فعابوه بكثرة النوم، فأيقظاه، فقالا له: "اذهب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-ن فقل له: إن أبا بكر وعمر يُقرءانك السلام، وهما يستأدمانك" فقال صلى الله عليه وسلم: "قد إئتدما" فجاءا إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فقالا له: يا رسول الله بأي شيءٍ إئتدمنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: "بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه من أنيابكما".
وفي رواية: "ثناياكما" قالا: يا رسول الله، فاستغفر لنا، قال صلى الله عليه وسلم: "هو فليستغفر لكما".
ويقول بعضهم: أنا أتكلم في فلان من أجل مصلحته ومنفعته.
نقول لهؤلاء: هذا حرام ولا يجوز، ومتى كانت مصلحة الفرد والمجتمع تتحقق من نشر أسرارهم وغيبتهم وفضحهم، وكان الأولى مناصحتهم بالصدق والحكمة والموعظة الحسنه، بعيداً عن التشهير بهم، وفضحهم، ونشر أسرارهم.
ومن هذه المداخل الشيطانية: التشفي في أعراض المسلمين كلما هاج وزاد غيظه فسرعان ما يلوك في أعراض الناس، ويتشفى فيهم، يقول صلى الله عليه وسلم: "من كظم غيظاً وهو قادرٌ على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة، حتى يخيّره من الحور العين ما شاء".
فمن اغتاب الناس تشفياً، فإنه لم يكتم ولم يكظم غيظه.
ومن هذه المداخل: موافقة الأقران، ومجاملة الجلساء، فيساعدهم، ويرى ذلك من حسن المعاشرة، يقول صلى الله عليه وسلم: "من التمس رضى الناس بسخط الله وكَلَه الله إلى الناس".
وفي رواية: "سخط الله عليه وأسخط عليه الناس".
ومنها: اللعب والهزل بما يُضحك به الناس على سبيل المحاكاة، وعلى هذا وأمثاله أن يتذكر حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ويلٌ للذي يحدّث بالحديث ليُضحك به القوم فيكذب ويلٌ له ويلٌ له".
وويل: وادٍ في جهنم تستعيذ منه جهنم في اليوم سبعين مرة.
ومنها: الحسد، فلا يجد الحاسد سبيلٌ على المحسود إلا أن يقع في عرضه ويغتابه، حتى يفقده مكانته ومنزلته عند الناس.
ومنها: الفراغ والملل والسأم فلا يجد ما يشغل نفسه به سوى الوقوع في أعراض المسلمين، وذكر ما يكرهون.
ومنها: العُجْب وعدم التفكّر في عيوب النفس والاشتغال بعيوب الآخرين، وكأنه لا يوجد له عيب ومطهّر من العيوب؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت يا رسول الله: "حسبك من صفية كذا وكذا" قال الرواة: تعني أنها قصيرة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد قلتي كلمة لو مُزجت بماء البحر لمزجته" أيّ: غيرته.
"لا إله إلا الله"، هذه كلمة، وهذا أثرها، فماذا نقول عن الكلمات والمجالس، وما هو أثرها في أعمالنا القليلة، والله المستعان.
عباد الله: أما عقوبات الغيبة، فلها عقوبات في الدنيا، وفي القبر ويوم القيامة:
أما في الدنيا: فعقابه الفضيحة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "يفضحه ولو في جوف بيته"؛ كما في حديث أبي برزة السابق.
أما في القبر: مرّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقبرين يعذبان، فقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، فأما أحدهما: فكان لا يستبرء من بوله، وأما الآخر: فكان يغتاب الناس".
وفي رواية: "يمشي بالنميمة بين الناس".
أما في الآخرة: المغتابون لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، يقول صلى الله عليه وسلم لمّا عرج به إلى السماء: "مررت بقوام لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم" فقلت: "يا جبريل من هؤلاء؟" فقال: "هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم"[حديث صحيح].
ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر رواه أبو هريرة: "من أكل لحم أخيه في الدنيا قُرب إليه يوم القيامة، فيُقال له: كله ميتاً كما أكلته حيّاً فيأكله ويكلح ويصيح"[حسنه ابن حجر في الفتح].
أخوة الإيمان: من الأمور التي يجب التنبيه عليها: أن المستمع للغيبة، ولم ينكر على من يغتاب الناس، فهو على خطر عظيم، والواجب عليه الذب عن عرض أخيه، ونيل موعود الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "من نصر أخاه بظهر الغيب نصره الله في الدنيا والآخرة".
وقال: "من ردّ عن عرض أخيه ردّ الله عن وجهه النار يوم القيامة".
وفي رواية: "كان حقاً على الله أن يعتقه من النار".
"لا اله إلا الله"، ما أعظم هذا الثواب مقابل عمل سهل، وهو الذب عن أعراض المسلمين إذا أُنتهكت في مجالس الناس.
عباد الله: إن المغتاب والذي يقع في أعراض المسلمين يتصف بصفات، ومنها:
1- أنه ضعيف الشخصية: فلو كان شجاعاً لواجه أخيه بما فيه بالحسنى.
2- أنه ناقص الإيمان: حديث: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
3- أنه يعطل شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فلو كان مخلصاً صادقاً لأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وناصح إخوانه بالتي هي أحسن.
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين.
أما بعد:
عباد الله: تُباح الغيبة في بعض المواطن بشرط اقترانها بالنية الصادقة والخالصة والصحيحة بعيداً عن التشفي والتشهير؛ لأنه -تعالى- يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور، ومنها:
1- التظلّم: لدى السلطان أو القاضي: والدليل أن هند بنت عتبة قالت للرسول -صلى الله عليه وسلم- أن أبا سفيان رجل شحيح، أي بخيل.
2- الاستفتاء: كان يقول: ظلمني أخي، أو فلان، ونحو ذلك.
3- تحذير المسلمين ونصحهم من أصحاب الشر، وممن يضر بالمسلمين، ويدخل في ذلك الجرح والتعديل، وأهل الزور، وبائع المخدرات، ونحوهم.
4- المشاورة في أمور الزواج: كما قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: "أما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك -أي فقير- لا مال له"[رواه مسلم].
5- ذكر المجاهر بالذنب وصاحب البدعة، مثل شارب الخمر، ونحوه، يقول عمر بن الخطاب: "ليس لفاسق حرمة".
6- التعريف: إذا كان فلان من الناس معروف بلقب معين؛ كالأعرج، والأصم، والأعمى، ونحو ذلك، ولا يجوز إطلاقه على وجه التحقير والتنقيص، والأفضل تعريفه باسمه الحقيقي.
للتوبة من هذا المرض، وهذا العمل يجب على المغتاب، ما يلي:
1- الاقلاع عن الغيبة.
2- الندم على فعلها: "الندم توبة".
3- العزم على عدم العودة لها مرة أخرى.
4- أن يستحل أخاه من الغيبة، ويطلب منه الاستغفار، فإن خشي مفسدة أعظم؛ كما قال ابن عثيمين -رحمه الله-، فيكتفي بالدعاء له، وطلب المغفرة له، وذكر محاسنه في مجالس المسلمين.
أخيراً -عباد الله-: ما من شخص إلا وقد وقع في الغيبة، أو اغتابوه الآخرين، فنقول جميعاً من هذا المقام، ولعلها ساعة إجابة .. اللهم يا واحد يا أحد يا فرد يا صمد، اللهم اغفر لكل من اغتبناه في هذا الساعة، وتجاوز عنا وعنهم، اللهم إني في هذه الساعة أسامح كل من اغتابني فسامحه، وتجاوز عنه واعف عنه، يا خير من تجاوز وعفا..
عباد الله: نسأل الله أن يجنبنا وإياكم الوقوع في هذا المرض، وغيبة الناس، كما نسأله أن يطهر ألسنتنا من الكذب والغيبة، وانتقاص الناس.
أيها المسلمون: صلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن سار على منهاجه، واقتفى أثره، واستن بسنته إلى يوم الدين.
اللهم انصر الاسلام والمسلمين في كل مكان..
اللهم كن لإخواننا في سوريا، اللهم وحد صفهم، واجمع كلمتهم، وثبت أقدامهم، وانصرهم على القوم الظالمين.
اللهم كن لإخواننا في مصر، اللهم ولّ عليهم خيارهم، واكفهم شرارهم، اللهم عليك بالخونة والأشرار، اللهم رد كيدهم في نحورهم، واجعل تدميرهم في تدبيرهم، يا قوي يا عزيز.
عباد الله: أذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت: 45].
وأقم الصلاة: (إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا) [النساء: 103].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي