لا يظن أحد أن الهزيمة والنكسة نهاية، بل قد تكون بداية، فالأمة تحتاج إلى الهزائم والنكبات لتراجع خطأها، ولتعي حالها، وتدرك حجمها، والمطلوب منها، فتعد العدة لنصر آخر، حتى ولو كان معها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. لقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- إذا اشتد القتال، وحمي الوطيس، احتموا برسول الله، فلم...
الحمد لله الذي من علينا بالأمن والأمان والسلام والاطمئنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرحيم الرحمان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المؤيد بالمعجزات والبرهان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والذين اتبعوهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، أيها الإخوة: ما أعذب الوقوف عند سيرة محمد -صلى الله عليه وسلم- والتأمل في أحاديث الجهاد، ومواطن البذل والتضحيات، وقوف يستثير الهمم، وتأمل يزيد الإيمان، وقوف ليس سردا للقصص، لكنه ارتباط بالرسول الأعظم -عليه الصلاة والسلام-.
فما أحوج الأمة وهي تعيش مصابها، ورخص دمائها، وعظيم مصابها، وانتهاك مقدساتها، وإحراق مساجدها، وسلب خيراتها، وتسلط طغاتها، وخيانة منافقيها، والحرب على بلدانها؛ أن ترجع إلى دينها، وإلى سيرة نبيها، وصحبه الكرام.
وقفة على غزوة عظيمة من غزواته صلى الله عليه وسلم نستلهم منها الصبر، ونداوي فيها الجراح، وما أكثرها تلك الجراح.
يا خير من جاء الوجود تحية *** من مرسلين إلى الهدى بك جاؤوا
بك بشر الله السماء فتزينت *** وتضوعت مسكا بك الغبراء
الخيل تأبى غير أحمد حاميا *** وبها إذا ذكر اسمه خيلاء
كم من غزاة للرسول كريمةٍ *** فيها رضاً للحق أو إعلاءُ
في شوال من السنة الثالثة من الهجرة وقعت معركة أحد بين المسلمين الموحدين ومشركي قريش التي أعطت الصحابة دروسا مؤثرة بالغة ترسخ في أذهانهم فلا ينسوها، وتخلد في حياتهم فلا يجهلوها، أدركت عائشة -رضي الله عنها- ذلك، فسألته صلى الله عليه وسلم: "هل مر عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟".
ولا يظن أحد أن الهزيمة والنكسة نهاية، بل قد تكون بداية، فالأمة تحتاج إلى الهزائم والنكبات لتراجع خطأها، ولتعي حالها، وتدرك حجمها، والمطلوب منها، فتعد العدة لنصر آخر، حتى ولو كان معها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
لقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- إذا اشتد القتال، وحمي الوطيس، احتموا برسول الله، فلم يكن أحد أقرب إلى العدو منه صلى الله عليه وسلم.
أنت الذي قاد الجيوش محطماً *** عهد الضلال وأدب السفهاء
سعدت بطلعتك السموات العلى *** والأرض صارت جنة خضراء
اقرؤوا سيرته صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين معه، لتعرفوا ما نالهم من المصائب والمحن، ومنهم أذكى البشرية وأتقاها، وجيلهم خير أجيال المسلمين وأنقاه، كل ذلك ليمتحن المؤمنون، ويعلم الصابرون، ويكشف زيف المنافقين، وتعلم قيمة الثبات على الحق والصبر على الشدائد، حتى يأذن الله بالنصر والفرج، وليميز الله الخبيث من الطيب، ويثبت الله المؤمنين، ويلقي الرعب على الطغاة والكافرين.
خرج الجيش المجاهد بألف مقاتل من المدينة، حتى نزل أحد وذلك؛ لأنه استشار صلى الله عليه وسلم الصحابة وشاورهم في الأمر، ورضي بنتيجة التصويت بأن يقاتلوا خارج المدينة في أحد، فكانت أول الخيانة حين أبى زعيم المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول إلا أن ينسحب بثلث الجيش قائلا: "ما ندري علام نقتل أنفسنا".
بأنه صلى الله عليه وسلم ترك رأيه، وأطاع غيره بالخروج من المدينة، رغم أن الأمر كان بالشورى والتصويت، وهذه مواقف النفاق مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهي مواقف النفاق دائمة لاسيما في الأزمات، وإن تباينت الصور والمواقف، والأزمات والجهات، يطالبون بالتصويت والديمقراطية، فإذا جاءت لغير صالحهم؛ خانوا الأمة في أحلك الظروف.
مواقف حرب على الإسلام وأهله من المنافقين، ومن أشباههم في الكيد للإسلام، وحربه شاءوا أو أبوا، هجوم على الخيرين، والنيل من أعراض الدعاة والعلماء عبر الإعلام والسياسة، بحث عن المعايب، إغفال للحسنات، غمط للحق، وقوف مع الباطل وأهله، ومن يريق الدم، وتجاهل للجهود وتجريد كل الوسائل للحرب، وتشويه السمعة، وقلب النيات والمؤلفات، وتحميل المقاصد ما لا تحتمل.
إنهم طائفة ظهر أثرها يوم أحد، ولا زالت إلى اليوم تمارس خبثها بعداوة للدين وأهلها بمكر وكيد، وإنما تظهر برامجهم ومقالاتهم وإعلامهم أيام الفتن والأزمات، بعد أن أخفوا شرهم قبلها، ولعلها من حكم الأزمات، بعد أن نال المسلمين نصر ببدر دام هذا النصر سنة، قال ابن القيم -رحمه الله-: "أن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر، وطار لهم الصيت: دخل معهم في الإسلام ظاهراً من ليس معهم فيه باطناً، فاقتضت حكمة الله -عز وجل- أن سبّب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق، فأطلع المنافقون رؤوسهم في هذه الغزوة، وتكلموا بما كانوا يكتمونه، وعاد تلويحهم تصريحاً، وانقسم الناس إلى كافر، ومؤمن، ومنافق، انقساماً ظاهراً، وعرف المؤمنون أن لهم عدواً في نفس دورهم، وهم معهم لا يفارقونهم، فاستعدوا لهم، وتحرزوا منهم؛ قال الله -تعالى-: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَلكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [ال عمران: 179].
إنها سورة للنفاق تكرر كل زمان، فبعضهم مع المسلمين اسما، وألسنتهم تنطق بغضا للإسلام، وأقلامهم تكتب لمزا للمؤمنين، ومواقفهم كيد بالإسلام والمسلمين، وحرب على أوطانهم، وتعاون مع المستعمر ضد مصالح الأمة، نراها اليوم كثيرا بإعلام يلبس الحق بالباطل ضد شرعية الولاة، وهجوم على المناهج والأخلاق، طلبا للتغيير والتغريب، وكذلك ترى تطرفا باسم الجهاد: (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [المنافقون :4]
استعد المشركون بأحد بثلاثة ألاف مقاتل، اصطحبوا نساءهم وعبيدهم وجواريهم بعد أن أصبح المسلمون 700 مقاتل وعسكر بالشعب جاعلين ظهورهم إلى الجبل، ووزع النبي -صلى الله عليه وسلم- الرماة على أماكنهم، أمر عليهم عبدالله بن جبير في خطة محكمة رائعة كانوا خمسين رجل قال لهم: "إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ، فَلا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا الْقَوْمَ وَأَوْطَأْنَاهُمْ فَلَا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ" [رواه البخاري].
وظاهر ونفسه بين ذراعيه وتخير من الأقوياء من يكون في مقدمة الجيش أمسك صلى الله عليه وسلم بسيف، ثم قال: "من يأخذ هذا السيف بحقه" فأحجم القوم، قال أبو دجانة: "وما حقه يا رسول الله؟" قال: "أن تضرب به العدو حتى ينحني" قال: "أنا أخذه بحقه" فأعطاه إياه وقاتل فأمعن في الناس، قال الزبير: "فجعل لا يلقى أحد إلا قتله، ورأيته حمل السيف على رأس هند بنت عتبه فعدل عنها، قائلا: أكرم بسيف رسول الله أن أضرب به امرأة "[رواه مسلم].
وبدأت المعركة المشركون بما حملوا من حقد دفين هم ونساءهم بعد بدر والمؤمنون بما سمعوا منه صلى الله عليه وسلم من توجيهات ورفع للمعنويات حتى كان شعارهم يوم أحد: "أمت أمت".
وحميت الحرب وقاتل حمزة بن عبدالمطلب -رضي الله تعال عنه-، حتى قتل منهم الكثير مثل الجمل الأورق لا يلقاه أحد إلا قتله، وكان وحشيا يترصد به من يريد اغتياله؛ لأن بقتله عتقه من العبودية ووزنه ذهبا كما وعدوه، يقول: فلما رأيته صراعا سباع بن عبد العزة هززت حربتي، حتى رضيت عنها، ثم دفعتها إليه، فوقعت في سنته، أي أسفل بطنه، حتى خرجت من بين رجليه، فأقبل نحوي فغلب فوقع وسقط أسد الله وأسد رسوله حمزة بقتله غيلة، بعد أن أسلم وهاجر وعاش حاميا للدعوة ومنافحا عنها، حتى استطاع المسلمون ورسول الله في مكة أن يظهروا الإسلام.
ومع خسارة حمزة فإن الجيش المسلم ظل مسيطرا على الموقف برمته، فحمل اللواء مصعب بن عمير الصحابي الداعية، حتى استشهد، فحمله بعده علي بن أبي طالب، واستبق المهاجرون والأنصار في ميدان الشرف، وبذلت قريش أقصى جهدها لتهزم المسلمين، لكنها أحست بالعجز وانكسرت همتها أمام ثباتهم وخطته صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: "ثم أنزل الله نصره، وصدق وعده، فحسُّوهم بالسيوف، حتى كشفوهم عن المعركة، وكانت الهزيمة لا شك فيها، وممن قتل عمرو بن الجموح الذي كان أعظم أعرج أقسم أن يطأ بعرجته الجنة، فلبى الله قسمه".
وحينما رأى الرماة هذا النصر عصوا أمره صلى الله عليه وسلم، ومالوا إلى العسكر، وخلوا ظهورهم للخيل، فأتوا المسلمون من خلفهم، وزاد المسلمين هما حين صرخ أحد بأن محمد -صلى الله عليه وسلم- قد قتل، فانكشف المسلمون فأصاب فيهم العدو، فكان يوم بلاء وتمحيص، حتى وصل إليه -صلى الله عليه وسلم-، فرمي بالحجارة حتى وقع لشقه فأصيبت رباعيته، وشج في وجهه، وجرحت شفته، ودخلت حلقات المِغْفَر في وجهه صلى الله عليه وسلم، فأكب عليه أبو عبيدة ينزعها بفكيه، فما أخرجهما إلا وقد سقطت سنيته، ونزف الدم بغزارة، وجعل الدم يسيل على وجه النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وجعل يمسح الدم وهو يقول: "كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم" وهو رسول الله المعصوم المنصور من ربه أصابه ذلك، فما بالكم بمصاب المسلمين اليوم؟
ويمر أنس بن النضر بالمسلمين أثناء القتال فيقولون له: يا أنس مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيقول: فما تصنعون بالحياة بعده قاموا فموتوا على ما مات عليه، وأنس بن النضر كان لم يشهد بدر، فكان يقسم والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما بعد ليرين الله ما أصنع، فكان يقول في أحد: "واه لريح الجنة، وإن لأجد ريحها دون أحد" فقاتل حتى قتل وفي جسده بضع وثمانون جرحا، لم يعرفه أحد فنادوا أخته لتعرفه التي لم تعرفه إلا ببنانه.
وفر أكثر المسلمين، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: "من يردهم عنا وله الجنة" فبرزت حين إذاً بطولة الصحابة -رضي الله عنهم-، فاجتمعوا حوله صلى الله عليه وسلم، ينافحون عنه، وكان يناديهم عليه الصلاة والسلام ويقول: "إلي عباد الله... " فترس أبو دجانة نفسه عنه صلى الله عليه وسلم، فأخذ النبل يقع في ظهره وهو منحني عليه حتى كثر فيه النبل، ورمى سعد بن أبي وقاص دونه صلى الله عليه وسلم، قال سعد: فلقد رأيته يناولني النبل، وهو يقول: "ارمي فداك أبي وأمي" وما قالها لأحد غيره.
وروى الحاكم بمستدركه: أن عمرو بن أقيس خرج إلى أحد كان كارها للإسلام فمنعه المسلمون من أن يجاهد معهم، فقال لهم: قد آمنت فقاتل حتى جرح، فجاءهم سعد بن معاذ فسأله عن سبب قتاله حمية أو غضب لله؟ فقال: غضبا لله ورسوله، فمات ودخل الجنة، ولم يصل صلاة واحدة.
ولما عرف المسلمون رسول -صلى الله عليه وسلم- نهضوا به نحو الشعب معه أبوبكر وعمر وعلي والزبير بن العوام والحارث بن الصمة وطلحة بن عبيد الله، طلحة الذي أبلى بلاءاً يوم أحد حتى عرف ذلك اليوم به، فكان يرفع النبي -صلى الله عليه وسلم- نحو الجبل ثم يعود ليقاتل المسلمين، ثم يأتيه فيرفعه نحو الجبل ثم يعود للقتال، حتى سمي طلحة الشهيد الحي.
وقال عنه صلى الله عليه وسلم حين رأى ما صنع: "أوجب طلحة" أي وجبت له الجنة، ولما أسند رسول الله -صلى الله عليه سلم- في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: محمد لا نجوت إذ نجوت، وكان يهدد رسول الله بمكة لأقتلنك يا محمد، فيقول له: "بلى أنا قاتلك -إن شاء الله-"، فقال عليه الصلاة والسلام للقوم: "دعوه"، فلما دنى تناول صلى الله عليه وسلم الحربة فهزها فانتفض الصحابة من حوله، ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة تدحرج منها عن فرسه مراراً.
وبعد نهاية المعركة وقعت هند بنت عتبة والنسوة اللاتي معها يمثلن في القتلة، وبكرت كبد حمزة، ومثل بالصحابة بينما كانت عائشة وأم سليم -رضي الله عنهما- تقومان بسقي الجرحى بعد تراجع المسلمين، وكذلك أم عمارة وبنت جحش؛ كما رواه البخاري والمسلم في دور واضح للمرأة المسلمة في أحد، وهو دور ينبغي أن يتكرر للمرأة لبطولات ومواقف يشهد لها التاريخ.
خرج صلى الله عليه وسلم يلتمس حمزة، فوجده ممثلا به في بطن الوادي، فحزن لذلك شديدا، وأمر به فسجي ببردة، وقال عليه الصلاة والسلام: "لولا أن تحزن صفية وتكون فتنة بعدي لتركته حتى يكون في بطون السباع، وحواصل الطير، ولئن أظهرني الله على قريش لأمثلن بثلاثين رجل منهم".
فنزل قوله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ) [النحل: 126].
فصبر عن المثلة، وقال صلى الله عليه وسلم: "جاءني جبريل فأخبرني أن حمزة مكتوب في السماوات السبع حمزة بن عبدالمطلب أسد الله وأسد رسوله".
وكانوا يأتون بالقتلة ويجمع الرجلان في ثوب واحد وقدم عند الدفن أكثرهم حفظا للقرآن، وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا ولم يصل عليهم على الصحيح، وفي غمرة هذا الحزن العظيم، قال صلى الله عليه وسلم: "من ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع".
فقال زيد بن ثابت: أنا يا رسول الله، فذهب يبحث عن سعد بن الربيع فوجده جريحا في القتلى به رمق، فقال له: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسأل عنك، ويقرئك السلام، ويقول كيف تجدك؟" فقال سعد: " أنا في الأموات فأبلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عني السلام، وقل له إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزى نبيًا عن أمته، وأبلغ قومك عني السلام، وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف" ثم لم يبرح أن مات، فاستغفر له صلى الله عليه وسلم.
وممن شهد له صلى الله عليه وسلم بالقتال في أحد: علي بن أبي طالب، وعاصم بن ثابت، والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف، وقال صلى الله عليه وسلم حين أشرف على القتلى يوم أحد: "أنا شهيد على هؤلاء أنه من جريح يجرح في سبيل الله إلا ويبعثه الله يوم القيامة يدمى جرحه اللون لون دم، والريح ريح مسك" [رواه البخاري].
وناد عليه الصلاة والسلام في الناس ليخرجوا إلى عدوهم، وقال: "لا يخرج معنا إلا من شهد القتال في أحد" فاستجابوا له صلى الله عليه وسلم من بعد ما أصابهم القرح، وذهب صلى الله عليه وسلم والصحابة معه، وعسكروا في حمراء الأسد ثلاثة أيام، إرهابا لقريش، حتى لا تفكر بالعودة إلى المدنية، لكنها رجعت إلى مكة، ثم انصرف صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة بعد أن أمر علي بأن يلحق بالمشركين، وكان صلى الله عليه وسلم مهموما حزينا، وحينما مر ببيوت الأنصار سمع حزن نساءهم فتأثر، وقال: "ولكن حمزة لا بواكي له" فبكت نساء الأنصار يومئذ حمزة عزاء للنبي -صلى الله عليه وسلم-، لكنه نهى عن البكاء، والنياح..
ويمر عليه الصلاة والسلام كما يروي ابن إسحاق في سيرته وعدد من المؤرخين بامرأة من بني دينار اسمها السمراء بنت قيس أثناء رجوعه، فقالوا لها: يا سمراء لقد مات أخوك، فقالت لهم: ما فعل رسول الله؟ فقالوا لها: مات أبوك، فقالت لهم: ما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقالوا لها: مات زوجك، فقالت لهم: ما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا لها: خيرا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أروني حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه، حتى إذا رأته، قالت: "كل مصيبة بعدك جلل يا رسول الله".
إنها صور فارقة قوية للبطولة والتضحية، اصطدم بها الكفر في أول المعركة وأخرها، فما دام أمامها، وسريت من تحت أقدامه الأرض، فما ربح شيئا في بداية القتال، ولا انتفع بما ربح أخرها، وهذا اللون من البطولة مسطر في التاريخ ينتظر من يلقي عليه الضوء لهؤلاء الصحابة الأبرار، هؤلاء الصحابة الذين لا يأخذون الجهاد عاطفة، لا يأخذون الجهاد إثارة للفتن في البلدان، وإزالة للأمن، وقطعا لرؤوس الأبرياء، وقتلا للأنفس بلا ضوابط، بل يعدون العدة اللازمة، ويطيعون الأوامر، ويلتزمون النصائح، ويحافظون على بناء الأمة مجتمعة: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 139-142].
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
أما بعد:
اتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن من دروس غزوة أحد: أن شؤم المعصية من أسباب ضعف الأمة، فإن معصية أمر الله وأمر رسوله ولو كان ذلك من الصحابة سبب لآثار يوم أحد، وشؤم المعصية لا يشمل العصاة، بل قد يشمل غيرهم، ولذلك قال الله: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 165].
كذلك فإن معركة أحد قد تركت آثارا غائرة في نفسه صلى الله عليه وسلم، ظلت تلازمه حتى آخر حياته، فصلى على قتلى أحد بعد ثماني سنوات؛ كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر، فقال: "إني بين أيديكم فرط وأنا شهيد عليكم، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها" قال الراوي: " فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" [متفق عليه].
وقد نزلت في أحد ثماني وخمسون آية في سورة آل عمران من قوله تعالى: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [آل عمران: 121].
ومما نتذكر في مثل هذه المواقف دور صحابته صلى الله عليه وسلم في الدفاع عن الدين، وعن سيد المرسلين، وتضحياتهم العظيمة، فواجب حفظ حقهم رضي الله عنهم، والدفاع عن الصحابة ضد بعض الفرق الضالة التي تريد النيل منهم، وسبهم وشتمهم في كتبهم ومذهبهم الباطل، وأئمة الضلال.
ما نراه منهم من حقد وكيد، وقتال لإخواننا المسلمين لاسيما مصابنا بالشام، وهذا المصاب العظيم الذي لم تمارسه، حتى جيوش اليهود والنصارى، لقد رأينا مع الأسف من جيوشنا العربية شجاعة لم تظهر إلا على شعوبها، وذلك حينما يستخدمون الأسلحة المحرمة، وغير ذلك من التسلط والطغيان: (قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [التوبة: 30].
كما أن على الأمة أن تعلم أن الإيمان بهذا الدين يجب أن يصاحبه يقين تام بنصر الله -جل وعلا- لهذا الدين وتمكينه رغم المصاب: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر: 51].
تحتاج الأمة هذا اليقين في ساعات الشدة وأوقات الكرب على الأمة، يوم تذلهم الخطوب، ويتسلط الأعداء والمنافقون، وهذا ما نراه في عدد من بلدانا اليوم كيف تقلب الحقائق، ويزال الحق، ويتسلط الظالمون على أهله، بالكيد والسجن وإعلام متصهين، حرب على الإسلام والمسلمين بترويج الشائعة والأكاذيب، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وإن الدعاء من أعظم وسائل اللجوء من الأزمات، روى البخاري في الأدب المفرد: لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون، قال صلى الله عليه وسلم للصحابة: "استووا حتى أثني على ربي -عز وجل- فصاروا خلفه صفوفا، ثم قام فدعا الله: "اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، اللَّهُمَّ لاَ قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلاَ بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلاَ هَادِيَ لِمَنْ أَضْلَلْتَ، وَلاَ مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلاَ مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، اللَّهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ، وَرَحْمَتِكَ، وَفَضْلِكَ، وَرِزْقِكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لاَ يَحُولُ وَلاَ يَزُولُ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ يَوْمَ الْعَيْلَةِ، وَالأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ، اللَّهُمَّ إِنِّي عَائِذٌ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرِّ مَا مَنَعْتَنَا، اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الإِيمَانَ وَزِيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ مَفْتُونِينَ، اللَّهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ، اللَّهُمَّ قَاتِلِ الكَفَرَةَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، إِلَهَ الْحَقِّ"
ثم ركب فرسه، ورجع المدينة.
فاتقوا الله -عباد الله- وارجعوا إلى سيرة نبيكم -صلوات ربي وسلامه عليه-، استلهموا منها الصبر لحاضركم، والدروس لواقعكم، وثقوا بنصر الله رغم كل شيء، واسألوا الله من فضله ورحمته.
اللهم إنا نسألك نصرا مؤزرا للإسلام والمسلمين.
اللهم كن للمستضعفين في أرض الشام وأرض مصر...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي