بحسهم المرهف، وفهمهم الراقي، فهموا أنها كلمات مودع، فتفاعلوا وبكوا، وعاهدوا فوفوا، في هذه الأجواء العظيمة التي اجتمعت شرف الزمان وشرف المكان، وشرف العبادة، وشرف القائد، وبأسلوب مؤثر وحزين؛ ألقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطبته العظيمة المشهورة بخطبة الوداع التي جمع فيها خلاصة ما استملت عليه دعوته، من توحيد الله وطاعته، وبيان ما للناس على...
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أن أنفسهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة، حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وزكاه روحًا وجسمًا، وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
معاشر الصالحين: إنكم في أيام فضل الله زمانها، وعظم على الأيام شانها، فقد جادت بفضلها الأخبار، وبين فضل الأعمال الصالحة فيها نبيكم المختار، ولاسيما يوم عرفة، فإن فضله مشهور وصيامه يكفر السنة الماضية والقابلة؛ كما في الحديث المأثور.
فتوجهوا -رحمكم الله- بالتوبة إلى مولاكم، وأقبلوا على طاعته فما أحقكم بها وأولاكم، واعلموا أن إخوانكم في هذه الأيام قد عقدوا الإحرام، وقصدوا البيت الحرام، ورفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير، والتحميد والإعظام، وأنتم وإن بعدتم عن ذلك المقام، فارغبوا في التضرع إلى الملك العلام، فإنه موصوف بالفضل، معروف بالإنعام.
أيها الأحباب الكرام: في مثل هذه الأيام من السنة العاشرة للهجرة النبوية، قاد الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- قوافل الحجيج، الذين قدموا من كل مكان؛ ليفوزوا بحجة مع نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، وليتمتعوا برفقته، والاهتداء بهديه، وكانت كل المؤشرات والدلائل في هذه الحجة تشير إلى قرب أجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ منها: نزول قول الله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)[المائدة: 3] حيث نزلت هذه الآية في يوم عرفة، ويروى أن سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما سمعها بكى، وقال: "ليس بعد التمام إلا النقصان".
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد كرر أكثر من مرة في تلك الحجة كلمات تدل على توديعه الأمة، ووصيته لهم، ويشهدهم على أنه بلغهم الدين، وأقام عليهم الحجة فيسألهم: "ألا هل بلغت؟" فيقولون جميعا: "اللهم نعم" فيقول: "اللهم فاشهد".
وبحسهم المرهف، وفهمهم الراقي، فهموا أنها كلمات مودع، فتفاعلوا وبكوا، وعاهدوا فوفوا، في هذه الأجواء العظيمة التي اجتمعت شرف الزمان وشرف المكان، وشرف العبادة، وشرف القائد، وبأسلوب مؤثر وحزين؛ ألقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطبته العظيمة المشهورة بخطبة الوداع التي جمع فيها خلاصة ما استملت عليه دعوته، من توحيد الله وطاعته، وبيان ما للناس على بعضهم البعض من الحقوق، فيما يمكن وصفه بأنه دستور حكم، ونظام حياة.
هذه الخطبة العظيمة التي ما زال صداها يرن في عمق التاريخ، والتي لو تمثلتها الأمة اليوم لما كانت ما هي عليه من انحطاط وانفرط، لقد أدهشت هذه الخطبة دعاة حقوق الإنسان من غير المسلمين؛ لأنهم وجدوا فيها سبقا إسلاميا إلى تقرير مبادئ حقوق الإنسان قبل قرون طويلة من التفاتهم إليه ودعوتهم لها.
كما أن تميزها ليس بالسبق فقط، وإنما بكونها ربانية المصدر، تعتمد على إيقاظ الضمائر المؤمنة في نفوس المؤمنين، ليمتثلوا هذه الأحكام بقناعة، وخوف من الله، ورجاء للثواب منه، جل في علاه.
وقبل أن نقف مع هذه الخطبة بعض الوقفات، نقرأ نصها مستحضرين الجلال، وجمال الموقف، فقد وقف سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جموع الحجيج، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"أَيُّهَا النَّاسُ: اسْمَعُوا قَوْلِي فَإِنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا بِهَذَا الْمَوْقِفِ أَبَدًا، أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إِلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، وَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ وَقَدْ بَلَّغْتُ. فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ؛ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا، وَإِنَّ كُلَّ رِبًا مَوْضُوعٌ وَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ، قَضَى اللَّهُ أَنَّهُ لا رِبًا وَإِنَّ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، وَإِنَّ كُلَّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي لَيْثٍ فَقَتَلَتْهُ بَنُو هُذَيْلٍ، فَهُوَ أَوَّلُ مَا أَبْدَأُ بِهِ مِنْ دِمَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ.
أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ أَبَدًا، وَلَكِنَّهُ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا تُحَقِّرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَاحْذَرُوهُ عَلَى دِينِكُمْ.
أَيُّهَا النَّاسُ: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَيُحَرِّمُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ) [سورة التوبة: 37].
وَإِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، وَإِنَّ (عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)[التوبة: 36] ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَةٌ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ حَقًّا؛ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، وَعَلَيْهِنَّ أَلا يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَتَضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِنِ انْتَهَيْنَ؛ فَلَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا؛ فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٍ لا يَمْلِكْنَ لأَنْفُسِهِنَّ شَيْئًا، وَإِنَّكُمْ إِنَّمَا أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، فَاعْقِلُوا أَيُّهَا النَّاسُ وَاسْمَعُوا قَوْلِي؛ فَإِنِّي قَدْ بَلَّغْتُ، وَتَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ.
أَيُّهَا النَّاسُ: اسْمَعُوا قَوْلِي، فَإِنِّي قَدْ بَلَّغْتُ وَاعْقِلُوهُ؛ تَعْلَمُنَّ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ أَخُو الْمُسْلِمِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ إِخْوَةٌ، فَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ مِنْ أَخِيهِ إِلا مَا أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، فَلا تَظْلِمُوا أَنْفُسَكُمُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟" قَالَ: فَذُكِرَ أَنَّهُمْ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "اللَّهُمَّ اشْهَدْ".
من المبادئ العظيمة التي قررها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذه الخطبة العظيمة؛ مبدأ المساواة، المساواة التي تقوم على إلغاء أي أساس للتفريق بين الناس لاعتبارات اللغة، أو لقبيلة، أو العرق، أو المال، أو الجاه، وأن أساس التفاضل المعتبر في الإسلام هو بمقدار الإيمان بالله وتقواه، وقد أكد صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ بقوله وفعله.
أما قوله؛ فحين قال: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ: أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى".
وأما فعله؛ فحين كان واقفا هذا الموقف أمام قبائل العرب، ومعه اثنان من الموالي أحدهم آخذ بخطام ناقته، وهو بلال الحبشي، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر، وهو أسامة بن زيد؛ ليكون من أقرب الناس إليه في هذا المقام الشريف، ومن حوله سادات العرب.
من المبادئ كذلك التي قررها -صلى الله عليه وسلم- في هذه الخطبة: تعظيم الحرمات الثلاث، أساسية الإنسان والزمان والمكان، فقد أكد صلى الله عليه وسلم حرمة الأشهر الحرم، وعظمتها عند الله، وأعلن أن حرمتها تعتبر من أمور الجاهلية التي أقرها الإسلام، وحماها واحترمها، وهذا يدل -أيها الأحباب- على آثم وجريمة المعتدين الذين يقتلون الناس اليوم في بلاد الشام، ولا يرقبون فيها إلا ولا ذمة، فهؤلاء أسوأ من أهل الجاهلية الذين كانوا يرعون حرمة هذه الأشهر، ويعظمونها ويكفون عن القتال فيها.
كما أكد صلى الله عليه وسلم حرمة المكان، وهو البلد الحرام الذي لا يختلى خلاه، ولا ينفر صيده، ولا يحل فيه الظلم، ولا الاعتداء ولو بمجرد الهم: (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)[الحج: 25].
ثم قرر صلى الله عليه وسلم أن حرمة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم فيما بينهم؛ كحرمة الأيام الحرام في البلد الحرام؛ ليؤكد بذلك حرمة المسلم عند الله، وأن الاعتداء على دم المسلم أو عرضه أو ماله من أعظم الذنوب، وأكبر الكبائر، التي لا يغفرها الله -سبحانه-، إلا برد المظالم، والتحلل منها.
وهذا المبدأ يغفل عنه الكثير من المسلمين اليوم، فيجترئون على دماء المسلمين بالقتل، أو الجرح، أو أعراضهم بالغيبة، أو السب، أو التشهير، أو القذف، أو أموالهم بالسلب، أو السرقة، أو الغش، أو التحايل، أو البيوع المعاملات المحرمة، ولا يدرون أنهم بذلك يرتكبون أعظم الإثم، وأكبر الأوزار، التي تحبط ما عملوه من أعمال صالحة، وإن كانت كالجبال، وهذا المبدأ العظيم كافي وحده لإسعاد حياة الناس، وحماية حقوقهم، من الاعتداء والظلم، والقضاء على الخصومات والمنازعات، التي أصقلت كاهل الجهات القضائية والأمنية، وملئت حياة المسلمين بالتشاحن والبغضاء.
فمتى يدرك المسلمين هذا الأمر، ويعلمون خطورته؟ متى يكف الناس ألسنتهم عن إخوانهم؟ متى يدرك المسلمون أن ألسنتهم إن لم يقضوها وإن لم يراقبوها قادتهم إلى العذاب وإلى النكال؟ متى يتورع المسلمون عن اتهام الآخرين والتشهير بهم والحكم على نياتهم ومقاصدهم والنبش في أعراضهم؟ متى يدرك المسلمون أن حرمة المسلم عند الله أعظم من حرمة الكعبة فيكفوا عن بعضهم البعض الأذى؟ متى يعرف المسلم أن الاعتداء على عرض المسلم كالاعتداء على نفسه وكذلك الاعتداء على ماله؟ متى تزول هذه الصور المظلمة التي تقدح في صدق الانتساب وتغلق الباب، باب الاقتراب والدنو من رب الأرباب؟.
إن الناظر في أغلب معاملات المسلمين فيما بينهم اليوم، ليبكي حزنا على ما آلت إليه الأمور من طعن وغش وغيبة، وأخذ للأموال بغير حق، وفي ذلك أكبر الدليل على عدم تشرب معاني الدين.
جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمه سرا وجهرا، آمين، آمين، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله الذي بين الطريق، وأوضح المحجة، وأرسل رسله مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة، وجعل لكل شهر خصوصية تخصه، وخص بالوقوع الحج ذا الحجة، أحمده وأشكره، وأشهد أنه الله لا إله إلا هو، وأن محمدا عبده ورسوله الذي كساه من حلل النبوة مهابة وبهجة، اللهم صل عليه وعلى أله وصحبه وتبعه.
معاشر الصالحين: من المبادئ كذلك التي قررتها خطبة الوداع: مبدأ الأمانة، ويشمل ذلك عموم معنى الأمانة؛ لأن هذا اللفظ من الألفاظ العظيمة التي لا يمكن الإحاطة بها في عبارات موجزة، فالأمانة عموما تشمل معنيين: الأمانة بين العبد وربه، والأمانة بينه وبين الناس، فأمانة العبد مع ربه تعني عبادته سبحانه وحده لا شريك له، قال الله -تعالى-: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)[الأعراف: 172].
ويشمل ذلك التقيد التام بما شرع الله، وفرض من أحكام، أما الأمانة بين الناس فهي أن يقوم الإنسان بما عليه من حقوق للخلق؛ سواء كانت هذه الحقوق واجبة عليه بحكم الشرع، أو كانت واجبة عليه بالتزامه به لغيره بموجب عقود، أو وعود، أو معاهدات، سواء كانت مالية؛ كالنفقة، أو الزكاة، وغيرها، أو كانت غير مالية كبر الوالدين، أو صلة الأرحام، أو حسن الجوار، أو حق الترضية للأولاد، أو حق العشرة بين الزوجين.
وإن من أعظم الحقوق الواجبة بين الناس وأشدها خطرا، الحقوق الواجبة بين الراعي ورعيته، وهو حق ولي الأمر المسلم على رعيته في طاعاته للمعروف، وتحريم وتجريم الخروج عليه، وكذلك حق الرعية على ولي أمرهم من واجب النصح لهم، ورعاية مصلحتهم، وإقامة شرع الله بينهم، والتصرف فيهم بما تقتضيه مصلحتهم، فلا يولي عليهم إلا من علمه قويا أمينا القوة الدينية والدنيوية.
ولعظمة هذا الحق، فإن علماء المسلمين -رحمهم الله- كانوا يتكلمون عنه في كتب العقيدة والتوحيد، مع أنه من مسائل الفقه، والحلال والحرام، وفي هذا لفتة واضحة إلى تعظيم الشرع لهذا الأمر، والعناية به.
ومن صور أداء الأمانة: أنه لا يجوز لأي موظف، أو مسئول، أن يتخذ من وظيفته وسيلة للإثراء والتكسب، أو أن يبتز الناس بالرشوة، أو يستغل وظيفته لتحقيق مصالحه الشخصية، فلو قام الناس بأداء أمانتهم؛ لصلحت حياتهم، وطابت معايشهم، وتحقق لهم الأمن والأمان، والعدل والسلام، والصلاح والنجاح والفلاح.
من المبادئ التي قررتها كذلك هذه الخطبة العظيمة: إبطال وإلغاء الأعراف والتقاليد المخالفة للشرع، فالكتاب والسنة هما الميزان الذي يعرف به الحق، ويتوصل به إلى العدل، وكل ما يخالف الشريعة الإسلامية من أعراف القبائل، أو عادات التجار، أو عمل أهل العصر، كل ذلك باطل لا يجوز أن يكون له اعتبار، أو أن تعارض به أحكام الإسلام.
من المبادئ العظيمة كذلك التي قررتها خطبة الوداع: تحريم الربا، هذه المصيبة والطامة التي ابتلي به المسلمين، واختلطت بدمائها، واستهلوها واستمرؤوها، واستعملوها في كل ميادين حياتهم، وامتد شرها وشرارها؛ ليشمل كل جوانب الحياة من مساكن ومراكب، ومآكل ومشارب، وتطبيب وزواج، وغير ذلك، بل امتد حتى ليشمل أضحية العيد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهذا المبدأ الحقوقي في جانب المال والاقتصاد والتجارة من أعظم مبادئ الإسلام التي شدد الله حكمها، وأعلنها في كتابه، وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-، بينها أشد البيان، وأن صاحب الربا موعود بالحرب من الله ورسوله، وهذه مسألة معلومة لكل مسلم لا يماري فيها إلا معاند مكابر، وهي مما أجمع عليه المسلمون قديما وحديثا، وقد رأينا جميعا الأزمات التي تعصف بدول العالم بسبب اعتمادها على النظام الربوي، حتى أعلنت كثير من رجال الاقتصاد العالمي أن النظام المالي الإسلامي هو الحل والمخرج من هذه الأزمات.
وكما حرم الله الربا فقد أبدل المسلمين خيرا، وأبرك منه، وهو البيع الحلال المضمون المبني على الصدق، وعدم الغش، وشرع الله من الحلول ما يغني عن الربا، من قرض حسن، وإنظار للمدين المعسر، وتكافل وصدقة بين المسلمين.
من المبادئ العظيمة كذلك التي أسست لها خطبة الوداع: التساوي بين الناس أمام حكم الشرع والقانون، فلا يجوز محاباة أحد في تطبيق أحكام الشرع، أو القانون، ولا يجوز استثناء القوي من القانون، وتطبيقه على الضعيف، وقد أكد صلى الله عليه وسلم ذلك في خطبته الشريفة، حين بدأ بقرابته، وأهل بيته، في تطبيق ما يأمر به من أحكام.
ففي تحريم الربا ووضع دم الجاهلية، قال: "وإن أول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب".
وفي وضع دماء الجاهلية، قال: "وأول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب".
وهذه قيمة أساسية، ومبدأ جليل من مبادئ الإسلام، تجعل الناس يطمئنون بهذا الدين، ويثقون بأنه من عند الله حقا وصدقا؛ لأن الله -سبحانه- ليس بينه وبين أحد نسب؛ إلا بالتقوى والإيمان، وليس أحد معصوم، أو مستثنى من حكم الله وعقوبته إن عصاه، وذلك بخلاف الأنظمة الوضعية اليوم التي أحاطت بعض الفئات بأنواع من الحصانة، تميزهم عن غيرهم، وتجعلهم في منأى عن المسائلة والمحاسبة.
أما في الإسلام فأكرم الخلق صلى الله عليه وسلم مكن من القصاص من نفسه، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
من المبادئ العظيمة كذلك التي قررتها خطبة الوداع: تأكيد حق المرأة في الحياة الكريمة، واستقلال شخصيتها، ورعاية حقها، وهذا المبدأ مما لا يحتاج كثير بيان حيث تضافرت على تأكيده نصوص الشريعة الإسلامية، فأعطت للمرأة الحق الكامل في مساواتها بالرجل في التكاليف والواجبات، إلا ما اقتضت خصوصية فطرتها أن تنفرد به من أحكام، تبعا لفطرتها، وأن الإسلام قد ضمن للمرأة الحياة الكريمة، والاستقلال في الشخصية، بحيث فرض لها الميراث والنفقة، وأعطاها حق الملكية والتصرف من بيع، أو شراء، أو تجارة، بل أوصى الرجل بها خيرا، وأوجب لها حقوقا عليه؛ كما أوجب لها حقوقا عليها.
وفي تشريع هذه الأحكام أيضا تأكيدا لعناية الإسلام بتكوين الأسرة، وأنها المحضر الطبيعي للإنسان، والعنصر الأساس لكل مجتمع ودولة ونظام حياة، وإن المتتبع لهذا الأمر، أي العناية بالمرأة في كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما أعطيت من الحقوق، وما عملت به من التكريم، وما ورد على لسان أعلام الأمة من الصحابة فمن بعدهم من إشادة بالمرأة، المتتبع لهذا يعلم أن الذين يصيحون اليوم في كل ناد بحقوق المرأة، ويدعون إلى حرياتها والمساواة، لا يريدون كرامتها، ولكن يريدون أشياء أخرى.
ونختم بشهادة من كاتب بريطاني عن خطبة الوداع، إذ قال: "حج محمد -صلى الله عليه وسلم-هو لم يقل صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع من المدينة إلى مكة قبل وفاته بعام، وعند ذلك ألقى على شعبه موعظة عظيمة، إنّ أول فقرة فيها تجرف أمامها كل ما بين المسلمين من نهب وسلب، ومن ثارات ودماء، وتجعل الفقرة الأخيرة منها الزنجي المؤمن -يعني الأسود العبد - عدلاً للخليفة -يعني مثله مثل الخليفة -، إنها أسست في العالم تقاليد عظيمة للتعامل العادل الكريم، وإنها لتنفخ في الناس روح الكرم والسماحة، كما أنها إنسانية السمة ممكنة التنفيذ، فإنها خلقت جماعة إنسانية يقل ما فيها مما يغمر الدنيا من قسوة وظلم اجتماعي، عما في أي جماعة أخرى سبقتها".
معاشر الأحباب: لقد دخلت العشر الأوائل من ذي الحجة، وهي عظيمة القدر لمن عرفها، وأدرك سرها، وقد أشاد بها سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما من أيام العمل الصالح فيهن من هذه الأيام العشر" قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء".
فاغتنموها بصالح العمل، وتوبوا من فرطات الزلل، وصوموا يوم عرفة، فإن صيامه كفارة للسنة الماضية والقابلة؛ كما ورد في الأخبار، وتعرضوا لنفحات ربكم من تضرع واستغفار، واستكمال ذكره بالعشي والإبكار، لعلكم تشملكم بركة القبول مع الواقفين، وتعود عليكم الرحمة مع الطآئفين والعاكفين، وتفقدوا إخوانكم الفقراء، أكرموهم وأعينيهم على الأضحية، أدخلوا عليهم الفرح، وعلى أطفالهم، فإن ذلك من أفضل أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، فما عاش من عاش لنفسه، وما وصل من غفل عن غيره.
اللهم أصلح أحوالنا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي