أيها المسلمون: إنَّ أكل الحرام يعمي البصيرة، ويضعف الدين، ويقسي القلب، ويظلم الفكر، ويقعد الجوارح عن الطاعات، ويوقع في حبائل الدنيا وغوائلها، ويحجب الدعاء، ولا يتقبل الله إلَّا من المتقين. وإنَّ للمكاسب المحرمة آثار سيئة على الفرد والمجتمع، تنزع البركات، وتفشوا العاهات، و....
الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما، وهدانا صراطا مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم: 34].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدا عبده ورسوله، خير البرية، وأزكى البشرية، دعا إلى الهدى، وحذر من الضلال بعد الهدى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ)[الحديد: 28].
أمَّا بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله في أنفسكم وأهليكم، واتقوا الله في أموالكم وأعمالكم، واتقوا الله فيما تأكلون وتشربون: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) [البقرة: 168].
أيها المسلمون: إنَّ كسب الرزق وطلب العيش مأمور به شرعاً، والنفوس مندفعة إليه طبعاً، فالله -تعالى- جعل النهار معاشاً، وجعل للنَّاس فيه سبحاً طويلاً، وأمرهم بالمشي في مناكب الأرض ليأكلوا من رزقه، وقرن في كتابه المبين بين المجاهدين في سبيله وبين الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)[المزمل: 20].
وأخبر عليه الصلاة والسلام أنه: "ما أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا من أَنْ يَأْكُلَ من عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ -عليه السلام- كان يَأْكُلُ من عَمَلِ يَدِهِ"[رواه البخاري عن المقدام (1966)].
وقد روي: " إنَّ من الذنوب ذنوباً لا يكفرها إلا الهم في طلب المعيشة".
وفي أخبار عيسى -عليه السلام-: أنَّه لقي رجلاً يتعبد فسأله ما تصنع؟ فقال: أتعبد، قال: ومن يعولك؟ قال: أخي، قال: وأين أخوك؟ قال: في مزرعة له، فقال عيسى: أخوك أعبد لله منك.
وعندنا نحن المسلمين: ليست العبادة أن تصف قدميك وغيرك يسعى في رزقك وقوتك، ولكن ابدأ برغيفيك فأحرزهما ثم تعبد؛ قال صلى الله عليه سلم لسعد بن أبي وقاص: "إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بها وَجْهَ اللَّهِ إلا أُجِرْتَ عليها حتى ما تَجْعَلُ في في امْرَأَتِكَ"[البخاري (56) ومسلم (1628)].
إنَّ الاستغناء عن النَّاس بالكسب الحلال شرف عال، وعزٌّ منيف؛ حتى قال عمر -رضي الله عنه-: "ما من موضع يأتيني الموت فيه أحب إليَّ من موطن أتسوق فيه لأهلي أبيع وأشتري"[إحياء علوم الدين(ج2ص 62)].
ومن مأثور حكم لقمان أنَّه قال: "لابنه يا بني استغن بالكسب الحلال عن الفقر، فإنَّه ما افتقر أحد قط إلَّا أصابه ثلاث خصال: رقَّةٌ في دينه، وضعفٌ في عقله، وذهابُ مروءته".
إنَّ في طيب المكاسب، وصلاح الأموال، سلامة الدين، وصون العرض، وجمال الوجه، ومقام العز.
ومن المعلوم: أنَّ المقصود من كلِّ ذلك الكسب الطيب، فالله طيب لا يقبل إلَّا طيبا، وقد أمر الله المؤمنين بالكسب الطيب كما أمر المرسلين؛ فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون: 51]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة: 172].
ومن أعظم ثمار الإيمان: طيبُ القلب، ونزاهةُ اليد، وسلامةُ اللسان: (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ)[النــور: 26].
ومن أسمى غايات رسالات محمد -صلى الله عليه وسلم-: أنَّه يحل لأمته الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، وفي الآخرة يكون حسن العاقبة للطيبين: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل: 32].
عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قال: قال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "من أَكَلَ طَيِّبًا وَعَمِلَ في سُنَّةٍ، وَأَمِنَ الناس بَوَائِقَهُ دخل الْجَنَّةَ" [سنن الترمذي (2520) وصححه الحاكم (7073)].
وعن عبد اللَّهِ بن عَمْرٍو: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَرْبَعٌ إذا كُنَّ فِيكَ فَلاَ عَلَيْكَ ما فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا: حِفْظُ أَمَانَةٍ، وَصَدْقُ حَدِيثٍ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ، وَعِفَّةٌ في طُعْمَةٍ" [رواه أحمد(6652) وغيره بأسانيد حسنة].
أيها المسلمون: إنَّ طلب الحلال وتحريه أمر واجب، وحتم لازم، فلا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن ماله من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟
إنَّ حقاً على كل مسلم ومسلمة أن يتحرى الطيب من الكسب والنزيه من العمل؛ ليأكل حلالاً، وينفق في حلال.
وتأملوا -رحمكم الله- في حال الصديق -رضي الله عنه-؛ فعن عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قالت: كان لِأَبِي بَكْرٍ غُلَامٌ يُخْرِجُ له الْخَرَاجَ، وكان أبو بَكْرٍ يَأْكُلُ من خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ منه أبو بَكْرٍ، فقال له الْغُلَامُ: تدري ما هذا؟ فقال أبو بَكْرٍ: وما هو؟ قال: كنت تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ في الْجَاهِلِيَّةِ، وما أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ إلا أَنِّي خَدَعْتُهُ فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الذي أَكَلْتَ منه، فَأَدْخَلَ أبو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ في بَطْنِهِ. [البخاري (3629)].
وفي رواية قال: إن كدت أن تهلكني فأدخل يده في حلقه فجعل يتقيأ، وجعلت لا تخرج، فقيل له: إن هذه لا تخرج إلا بالماء، فدعا بطست من ماء فجعل يشرب ويتقيأ، حتى رمى بها، فقيل له: يرحمك الله أكلَّ هذا من أجل هذه اللقمة؟ قال: لو لم تخرج إلَّا مع نفسي لأخرجتها سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به" فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة"[حلية الأولياء (ج1 ص31)].
وشرب عمر لبنا فأعجبه، فقال الذي سقاه: من أين لك هذا؟ فقال: مررت بإبل الصدقة وهم على ماء فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده فاستقاء.
وتوصي بعض الصالحات زوجها، فتقول: "يا هذا اتقي الله في رزقنا، فإنَّنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار".
أولئك هم الصالحون يخرجون الحرام، والمشتبه من أجوافهم، وقد دخل عليهم من غير علمهم، ثمَّ خلفت من بعدهم خلوف يعمدون إلى الحرام ليملئوا به بطونهم، وبطون أهليهم وأولادهم، لا يبالون بما أخذوا من الحرام.
أيها المسلمون: أرأيتم ذلك الرجل الذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال عنه: "يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّمَاءِ: يا رَبِّ يا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ" [مسلم (1015)].
لقد استجمع هذا الرجل من صفات الذلة والمسكنة، والحاجة والفاقة، ما يدعوا إلى رثاء حاله، ويؤكد شدة افتقاره، ويؤهله لاستجابة دعوته، فقد تقطعت به السبل، وطال عليه السفر، وتغربت به الديار، وتربت يداه، وأشعثَّ رأسه، واغبرَّت قدماه، ولكنَّه قطع صلته بالله، وحرم نفسه من مدد خالقه ومولاه، فحيل بين دعائه وبين القبول؛ لأنَّه أكل الحرام، وشرب الحرام، واكتسى من الحرام، ونبت لحمه من الحرام، فردت يداه خائبتين، وأيُّ لحم نبت من سحت -أي حرام- فالنار أولى به.
أيها المسلمون: قولوا لي بربكم: ماذا يبقى للعبد إذا انقطعت صلته بربه، وحجب دعائه، وحيل بينه وبين القبول والرحمة؟
لمثل هذا قال وهيب بن الورد: "لو قمت في العبادة قيام هذه السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك حلال أم حرام" [حلية الأولياء ج 8 ص154].
إنَّ العجب كلَّ العجب ممن يحتمي من الحلال مخافة المرض لنصح طبيب، ولا يحتمي من الحرام مخافة النار، وقد نصحه أرحم الراحمين، ونصحه بعده أصدق الخلق أجمعين.
أيها المسلمون: إنَّ أكل الحرام يعمي البصيرة، ويضعف الدين، ويقسي القلب، ويظلم الفكر، ويقعد الجوارح عن الطاعات، ويوقع في حبائل الدنيا وغوائلها، ويحجب الدعاء، ولا يتقبل الله إلَّا من المتقين.
وإنَّ للمكاسب المحرمة آثار سيئة على الفرد والمجتمع، تنزع البركات، وتفشوا العاهات، وتحل الكوارث -أزمات مالية مستحكمة، وبطالة متفشية، وتظالم وشحناء، إذا كان الكسب من حرام- فويل ثمَّ ويل للذين يأكلون الحرام، ويتغذَّون بالحرام، ويربُّون أولادهم وأهليهم على الحرام، إنَّهم كالشارب من ما البحر كلما ازدادوا شرباً ازدادوا عطشا: (فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) [الواقعة: 55].
لا يقنعون بقليل، ولا يغنيهم كثير، يستمرئون الحرام، ويسلكون المسالك المعوجة، من ربا وقمار، وغصب وسرقة، وغش واحتيال، تطفيفٌ في الكيل والوزن، وكتمُ للعيوب، سحرٌ وتنجيم وشعوذة، وأكلٌ لأموال اليتامى والقصار، وانتهابٌ لأموال العمال بغير حق، أيمانٌ فاجرة، ولهو وملاهي، مكرٌ وخديعة، زورٌ وخيانة، رشوةٌ وتزوير، وطرقٌ مظلمة كثيرة؛ عن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَأْتِي على الناس زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ ما أَخَذَ منه أَمِنَ الْحَلَالِ أَمْ من الْحَرَامِ" [البخاري (1954)].
أيُّها العمال والموظفون، أيُّها التجار والصناع والمقاولون، أيُّها الأساتذة والمعلمون، أيُّها المسلمون جميعا: يجب عليكم تحري الحلال، والبعد عن الحرام والمشتبه لتسلم لكم أديانكم وأعراضكم، احفظوا حقوق الناس، وأنجزوا أعمالهم، وأوفوا بالعقود والعهود، واجتنبوا الغش والتدليس والمماطلة والتأخير، اتقوا الله جميعاً فالحلال هنيء مريء، ينير القلوب، وتنشط به الجوارح، وتصح به الأجسام، وتصلح به الأحوال، ويستجاب مع الدعاء.
فاللهم أكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك، اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وارزقنا رزقا حلالاً واسعاً يكفينا؛ يا أرحم الراحمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مبارك فيه كما يحب ربنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الآخرة والأولى، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أحل لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث، وتركنا على محجَّة بيضاء لا يزيغ عنها إلَّا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأصفياء، وصحابته الأوفياء، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -أيها المسلمون- حق التقوى، واعلموا أنَّ خير سبيل للبعد عن الحرام، هو ترك المشتبه، وسلوك مسلك الورع عند التردد؛ عن عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ -رضي الله عنه- قال: قال رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حتى يَدَعَ ما لا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ" [ابن ماجة(4215) وصححه الحاكم (7899)] "فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ في الشُّبُهَاتِ وَقَعَ في الْحَرَامِ؛ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فيه، ألا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ" [البخاري(52) ومسلم(1599)].
وفي رواية: "فَمَنْ تَرَكَهَا اسْتِبْرَاءً لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ فَقَدْ سَلِمَ"[الترمذي(1205)].
ولقد قال الحسن البصري -رحمه الله-: "ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال مخافة الحرام".
وقال أبو الدرداء –رضي الله عنه-: "تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة حين يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما يكون حجابا بينه وبين الحرام".
وقال ميمون بن مهران قال: "لا يسلم للرجل الحلال حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال".
فاتقوا الله -أيها المسلمون-، وأطيبوا مطاعمكم ومشاربكم، واتقوا: (نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ) [التحريم: 6].
وصلوا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي