البعث والنشور [الميزان]

عبد العزيز بن عبد الله السويدان

عناصر الخطبة

  1. مشهد توزيع الكتب بعد الحساب
  2. الفصل بين الخلائق بعد الصراط وانتهاء الظلم
  3. وزن الأعمال وصعوبة لحظة انتظار نتيجة الوزن
  4. وصف الميزان
  5. وقفات مع حديث البطاقة
  6. الخصلتان اللتان لا يحصيهما مسلم إلا دخل الجنة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102]. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1]. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾ [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

بعد مشهد الحساب يؤتى العباد كتبهم، يقول -سبحانه-: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ(29)﴾ [الحاقة:19-29].

قال القرطبي -رحمه الله-: "إذا بعث العباد من قبورهم إلى الموقف وقاموا فيه ما شاء الله حفاة عراة وجاء وقت الحساب الذي يريد الله أن يحاسبهم فيه، أمر بالكتب التي كتبها الملائكة الكرام الكاتبون، وذكر أعمال الناس، فمنهم من يؤتى كتابه بيمينه، فأولئك هم السعداء الذين ما إن يعطَوا كتبهم إلا انقلبوا إلى أهلهم مسرورين رافعين أصواتهم، يقول: ﴿هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ﴾، ومنهم من يؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره، وهم الأشقياء الذين يدعون بالويل والثبور، فعند ذلك يقرأ كل فريق كتابه، فالسعداء إلى الجنة، والأشقياء إلى النار".

وفي مشهد الحساب عرض ونقاش يقضى فيه بين الناس في الحقوق، ففي صحيح مسلم من حديث ابن مسعود، قال -صلى الله عليه وسلم-: "أول ما يقضى"، وفي لفظ: "يحكم بين الناس في الدماء"، ولا يعارض هذا حديث أبي هريرة: "إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته"؛ لأن الأول محمول على ما يتعلق بمعاملات الخلق، والثاني فيما يتعلق بعبادة الخالق، وقد جمع النسائي في روايته في حديث بين الأمرين، ولفظه: "أول ما يحاسب العبد: صلاته، وأول ما يقضى بين الناس: في الدماء".

وفي صحيح البخاري عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: "أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ"، وقال قيس بن عباد: "وفيه أنزلت: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا﴾، هم الذين تبارزوا يوم بدر، وهم: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث والوليد وعتبة وشيبة".

وفي صحيح الترغيب أن سائلاً سأل ابن عباس، قال: يا ابن عباس، هل للقاتل من توبة؟ قال ابن عباس كالمعجب من شأنه: "ماذا تقول؟"، فأعاد عليه مسألته، فقال "ماذا تقول؟"، قالها مرتين أو ثلاثاً، قال ابن عباس: "سمعت نبيكم -صلى الله عليه وسلم- يقول: يأتي المقتول متعلقا رأسه بإحدى يديه، متلببا قاتله باليد الأخرى، تشخب أوداجه دما، حتى يأتي به العرش، فيقول المقتول لرب العالمين: هذا قتلني. فيقول الله -عز وجل- للقاتل: تعِسْتَ! ويذهب به إلى النار".

وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذا المشهد الحاسم، ففي صحيح مسلم، قال -صلى الله عليه وسلم-: " لَتُؤَدّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ".

ففي يوم القيامة رأس مال الإنسان حسناته، لا مال ينفعه ولا ولد، فإذا كانت عليه مظالم للعباد فإنهم يأخذون من حسناته بقدر ما ظلمهم، فإن لم يكن له حسنات أو فنيت حسناته فإنه يؤخذ من سيئاتهم فتطرح عليه.

وعلى كل حال؛ فإن اقتصاص المؤمنين بعضهم من بعض يكون بعد مجاوزة الصراط لا قبله، ففي الصحيح، من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا خلص المؤمنون من النار"، يعني انتهوا من عبور الصراط، "حُبسوا بقنطرة بين الجنة والنار فيقتصون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا نقّوا وهذِّبوا أذن لهم بدخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده! لأحدهم بمسكنه في الجنة أدلّ بمسكنه كان في الدنيا"، أي أنه يعلم مكانه في الجنة أكثر مما كان يعلم منزله في الدنيا.

معاشر المسلمين: لا مكان للظلم يوم الحساب، ولا للجبارين الظالمين، ما لهم من سلطان، بل لهم الذل والهوان؛ ولذلك في الحديث أن الله -تعالى- "يطوي السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك؛ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ فلا يجيبه أحد".

قال -تعالى-: ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(17)﴾ [غافر:15-17].

لا ظلم اليوم، توقّف الظلم وأصبح شيئاً من الماضي، انتهى شيء اسمه ظلم، لا مكان له اليوم ولا بعد اليوم، حتى بين البهائم يعاد الحق إلى كل بهيمة، حتى إنه ليقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء، فالبهائم تحشر يوم القيامة، والقصاص بينها ليس قصاص تكليف بل قصاص مقابلة، حتى يتحقق العدل كاملا، ثم تكون ترابا.

فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقسم بأن الحقوق ستؤدى إلى أهلها يوم القيامة، ولن يضيع لأحد حق، الحق الذي لك إن لم تستوفه في الدنيا استوفيته في الآخرة ولا بد.

وإذا كانت البهائم تأخذ حقوقها من الإنسان؛ فكيف بالحقوق فيما بين الناس أنفسهم؟! يقول ابن حجر الهيثمي في تعليقه على حديث أبي هريرة في صحيح الترغيب بسند صحيح عنه -صلى الله عليه وسلم-: " يقْتَصُّ الْخَلْقُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، حَتَّى الْجَمَّاءُ مِنْ الْقَرْنَاءِ، وَحَتَّى الذَّرَّةُ مِنْ الذَّرَّةِ".

قال: "فهذا من الدليل على القصاص بين البهائم وبينها وبين بني آدم، حتى الإنسان لو ضرب دابة بغير حق أو جوعها أو عطّشها أو كلفها فوق طاقتها فإنها تقتص منه يوم القيامة بنظير ما ظلمها وجوعها".

قال: "ويدل على ذلك حديث الهرة"، ففي حديث أسماء في صحيح البخاري أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ودنت مني النار"، يعني وهو في صلاته، "حتى قلتُ: أي وأنا معهم؟"، خشي أن يكون يناله منه عذاب أرسل على الأمة، "فإذا امرأة تخدشها هرة، قلت: ما شأن هذه؟ قال: حبستها حتى ماتت جوعاً، لا هي أطعمتها، ولا أرسلتها تأكل من خشاش الأرض".

لا ظلم اليوم، تؤدي الحقوق كلها.

أيها المسلمون: ويأتي دور الميزان، ففي الجامع الصحيح بسند صحيح أن عائشة -رضي الله عنها- ذكرت النار فبكت، فقال -صلى الله عليه وسلم- "ما يبكيك يا عائشة؟" قالت: ذكرت النار؛ فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة يا رسول الله؟ قال: "والَّذي نفسي بيدِهِ في ثلاثِ مَواطنَ فإنَّ أحدًا لا يذكرُ إلَّا نفسَهُ: إذا وُضِعَت المَوازينُ ووُزِنَت الأعمالُ حتَّى ينظرَ ابنُ آدمَ أيخِفُّ ميزانُهُ أم يثقُلُ، وعندَ الصُحفِ حتَّى ينظرَ أبيمينِهِ يأخذُ كتابَهُ أمْ بشمالِهِ، وعندَ الصِّراطِ".

ولحظة انتظار نتيجة وزن الأعمال لحظة مرعبة يفقد فيها الإنسان الإحساس بأي إنسان آخر سوى نفسه، قال القرطبي: "فإذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال، لأن الوزن للجزاء فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقدير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها، ليكون الجزاء بحسبها".

قد دلت النصوص الشرعية على أن الميزان ميزان حقيقي له كفتان توزن به أعمال العباد، وهو ميزان عظيم لا يقدر قدره إلا الله -تعالى-، وقد اختلف أهل العلم: هل هو ميزان واحد توزن به أعمال العباد، أم أن الموازين متعددة ولكل شخص ميزانه الخاص؟.

فمن قال بالتعدد استدلوا بصيغة الجمع في قوله -تعالى-: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء:47].

ومن قال بأن الميزان واحد استدلوا بمثل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وُزِن فيه السماوات والأرض لوسعته، وتقول الملائكة: يا رب، لمن يزن هذا؟ فيقول الله -تعالى-: لمن شئت من خلقي، فيقولون: سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك". صح ذلك في الترغيب من حديث سلمان.

وحملوا الآية التي ورد فيها الميزان بصيغة الجمع على تعدد الموزونات، ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ﴾، على تعدد الموزونات من الأعمال والأقوال والصحف والأشخاص، فقالوا: إنه جمع الأشياء التي توزن فيه كالأقوالِ، فهي توزن، ويدل على ذلك حديث أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده".

والأعمال توزن، ويدل على ذلك حديث أبي الدرداء في سنن الترمذي بسند صحيح عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة".

فما أكثر ما يفرط الناس في عبادات عظيمة الوزن عند الله، ثقيلة في الميزان يوم القيامة، كحسن الخلق، والتسبيح! عبادتان خصتا بفضل عظيم!.

ومما يدل على وزن صحائف الأعمال حديث البطاقة في سنن الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ -أي: سيختار سبحانه- رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُؤوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلَ مَدِّ الْبَصَرِ –أي: كل كتاب منها طوله وعرضه مقدار ما يمتد إليه بصر الإنسان- ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ! فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ قَالَ: لَا يَا رَبِّ! فَيَقُولُ: بَلَى؛ إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، وَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ، فَتُخْرَجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ –أي: وزن عملك حتى يتبين لك العدل وانتفاء الظلم- فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟ فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ، قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ، وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ؛ فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ".

ونقف أيها الأخوة عند حديث البطاقة قليلا لأهميته.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه.

أما بعد: فيقول شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في حديث البطاقة: "وليس كل من تكلم بالشهادتين كان بهذه المنزلة، لأن هذا العبد صاحب البطاقة كان في قلبه من التوحيد واليقين والإخلاص ما أوجب عظم قدره، حتى صار راجحا على تلك السيئات، ومن أجل ذلك صار المد -مقدار الكفين- من الصحابة -رضي الله عنهم- أفضل من مثل جبل أُحُدٍ ذَهَبَاً من غيرهم".

ومن ذلك أيضا حديث البغيّ التي سقت كلبا فغفر لها، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة عنه -صلى الله عليه وسلم-: "إن امرأة بغياً من بغايا بني إسرائيل رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له موقَهَا فسقته به؛ فغفر لها".

فلا يُقَالُ في كُلِّ بَغِيٍّ سقت كلبا "غفر لها"؛ لأن هذه البغي قد حصل لها من الصدق والإخلاص والرحمة بخلق الله ما عادل إثم البغاء، وزاد عليه ما أوجب المغفرة، والمغفرة تحصل بما يحصل في القلب من الإيمان الذي لا يعلمه إلا الله وحده، يعلم مقداره وصفته.

قال: "وكذلك هذا الذي نحّى غصن الشوك عن الطريق، فعله إذ ذاك بإيمان خالص، وإخلاص قائم بقلبه، فغفر له بذلك".

ففي الصحيحين، عن أبي هريرة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينما رجل يمشي في طريقٍ وجَدَ غصن شوكٍ على الطريق فأخّره؛ فشكر الله له فغفر له".

فالأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص، وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدا وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، فتكون صورة العملين واحدة وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض، وليس كل من نحَّى غصن شوك على الطريق يغفر له.

قال: وفي الأثر: "إن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدا وبين صلاتيهما ما بين المشرق والمغرب"؛ فإذا عُرفَ أن الأعمالَ الظاهرة يَعظُمُ قدرُها ويصغرُ قدرُها بما في القلوب, وما في القلوب يتفاضلُ, ولا يعرف مقاديرَ ما في القلوب من الإيمان إلا الله؛ عَرَفَ الإنسانُ أن ما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم- كلُّه حق ولم يضرب بعضه ببعض.

وقد قال -تعالى-: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون:60]، وفي الترمذي وغيره عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله، أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف؟ فقال: "لا يا بنت الصديق، بل هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق، ويخاف أن لا يتقبل منه".

ثم قال: "وإلّا؛ فلو كان كل من نطق بهذه الكلمة تُكَفَّر خطاياه، لم يدخل من أهل الكبائر من المؤمنين النار"، كلهم لا يدخلون النار، بل والمنافقون لا يدخلها أحد منهم لأنهم يقولون لا إله إلا الله، وهذا خلاف ما تواترت به الآيات والسنن، وقد يقترن بالسيئة من الاستخفاف والإصرار ما يعظمها؛ ولهذا وجب التوقف في المعين، يعني التوقف على من تعين في حديث خص به دون أن نعمم، فلا يقطع بجنة ولا نار إلا ببيان من الله؛ لكن يرجى للمحسن ويخاف على المسيء.

قال في مقام آخر: "وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مدّ البصر، تثقل البطاقة وتطيش السجلات، فلا يعذب؛ ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه، ولكن السر الذي ثقل بطاقة ذلك الرجل وطاشت من أجله السجلات أنه لم يحصل لغيره من أرباب البطاقات أحوال إيمانية كالتي حصلت له فطاشت بطاقته بالثقل والرزانة".

وقال: "فلا يمكننا أن نعين حسنة يكفر بها الكبائر كلها غير التوبة، التوبة تكفر جميع الكبائر، فمَن أتى بكبيرة ولم يتب منها، ولكن أتى معها بحسنات أخرى، فهذا يتوقف أمره على الموازنة: (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) [القارعة:6-9].

الحاصل -أيها الإخوة- أن الأعمال توزن بالموازين، يبين بها رجحان الحسنات على السيئات أو العكس، وأما كيفية تلك الموازين فهي من الغيب، والغيب كله معلوم، ولكن كيفه مجهول.

معاشر الإخوة: صح في سنن ابن ماجة من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "خصلتان لا يحصيهما رجل مسلم إلا دخل الجنة، وهما يسير، ومن يعمل بهما قليل: يسبح الله في دبر كل صلاة عشرا، ويكبر عشرا، ويحمد عشرا".

يقول الراوي عبد الله بن عمرو: فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعقدها بيده، "فذلك خمسون ومائة باللسان، وألف وخمسمائة في الميزان؛ وإذا أوى إلى فراشه سبح وحمد وكبر مائة، فتلك مائة باللسان، وألف في الميزان؛ فأيكم يعمل في اليوم ألفين وخمسمائة سيئة؟".

قالوا: وكيف لا يحصيهما؟ قال: "يأتي أحدكم الشيطان وهو في الصلاة فيقول: اذكر كذا وكذا حتى ينفك العبد لا يعقل، ويأتيه وهو في مضجعه فلا يزال ينوّمه حتى ينام"، يعني قبل أن يسبح ويحمد الله… من يفعل ذلك؟!.

فلنستدبر أيامنا وليالينا لتثقيل موازين حسناتنا؛ فإننا في أمس الحاجة لذلك، والله المستعان…

ويبقى -أيها الإخوة- الصراط، لعلنا نصفه فيما نستقبل إن شاء الله -تعالى-.

اللهم أكرمنا برضاك عنا…


تم تحميل المحتوى من موقع