عاش النبي -صلى الله عليه وسلم- ربانياً في كل شيء. ربانياً في تربيته؛ لأن الذي رباه هو الله، وربانياً في النور الذي سطع في قلبه؛ لأن الذي ملأ قلبه بالنور هو الله، وربانياً في التلقي، فما تلقى عن أحد سوى الله شيئاً، إنما تلقى عن الله وحده، وربانياً في سلوكه فما كان يخطو خطوة واحدة، ولا يتكلم بكلمة، إلا إذا عرف أنه يرضي بها ربه. وقد حفظه الله ورعاه من صغره، بل...
نريد اليوم أن نتدارس سوياً جانبا من شخصية الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي يحشر العالم كله على أثره، والذي يقف الأنبياء جمعيهم يوم القيامة تحت لوائه، والذي يدق باب الجنة كأول إنسان يدخلها بأمر ربه، والذي اصطفاه الله على البشرية كلها، وجعله خير خلقه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر وما من نبي يومئذ، فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول شافع، وأول مشفع ولا فخر".
وقال: "أنا أول من يقرع باب الجنة".
وقال: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم".
والجانب الذي نريد أن نتدارسه معاً اليوم من جوانب شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم- هو جانب ربانية محمد -صلى الله عليه وسلم-.
ومعنى الربانية: أن ينسب النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى ربه في التلقي عنه، وينسب إلى ربه في التعلم منه، وينسب إلى ربه في تربيته وتكوينه وتنشئته، وأن ينسب كل خير وصل إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى ربه، الذي تفضل به عليه.
وفعلاً، فقد عاش النبي -صلى الله عليه وسلم- ربانياً في كل شيء.
ربانياً في تربيته؛ لأن الذي رباه هو الله، وربانياً في النور الذي سطع في قلبه؛ لأن الذي ملأ قلبه بالنور هو الله، وربانياً في التلقي، فما تلقى عن أحد سوى الله شيئاً، إنما تلقى عن الله وحده، وربانياً في سلوكه فما كان يخطو خطوة واحدة، ولا يتكلم بكلمة، إلا إذا عرف أنه يرضي بها ربه.
وقد حفظه الله ورعاه من صغره، بل حتى قبل ولادته، فقد رأت أمه قبل ولادته في الرؤيا: أن نوراً خرج منها، فملأ مابين المشرق والمغرب.
ولما أعطته أمه لحليمة السعدية حتى ترضعه؛ لأنه كان من عادة العرب أن يسترضعوا أولادهم في البادية، ليتعلموا فصاحة الكلام، وخشونة الحياة، ويستنشقوا الهواء الصافي، فينشئون أقوياء الأبدان والأجسام.
فلما أعطته أمه لحليمة لترضعه رأت حليمة من الآيات ما أذهلها: فما أن وضعته على صدرها وألقمته ثديها، حتى أقبل ثديها بالحليب مع أنها كانت تشكو من عدم وجود الحليب في ثديها، وكانت تملك ناقة ليس فيها قطرة من حليب، فإذا بها قد تغيرت، وأصبحت تدر الحليب دراً، وكانت أرضهم التي يعيشون عليها جدباء، فإذا بها قد تغيرت وانقلبت إلى أرضٍ خضراء -بإذن الله-، حتى قال زوج حليمة السعدية لها: "تعلمين يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة، فقالت: والله إني لأرجو ذلك".
نعم، إن تدفق الخير والبركة على بيت حليمة وزوجها بعد أيام الجفاف والضر والعسر ليوحي أن مجاعة العالم كله، وجفاف الروح الإنسانية إنما تنتظر مبعث محمد بالإسلام؛ لأن البركات والخيرات لا يمكن أن تنزل على أمة إلا إذا اتقت ربها، وارتبطت بدينها، ومنهج رسولها -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) [الأعراف: 96].
ولما بلغ صلى الله عليه وسلم السنتين أو أكثر بقليل، حدثت له حادثة شق الصدر؛ فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتاه جبريل -عليه السلام- وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه وصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرجه فاستخرج منه علقة سوداء، وقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طستٍ من ذهب بماء زمزم، ثم أعاده إلى مكانه، وحادثة شق الصدر واستخراج العلقة السوداء التي تحوي الغل والحقد والحسد والجبن، وغير ذلك من أمراض القلوب، ثم تطهير القلب، ثم إعادته إلى مكانه، هو نوع من أنواع الإعداد التي أعد الله بها محمداً للنبوة، وعلى كل فقدرة الله لا تحدها شيء، وليس لها حدود، فالعملية الجراحية لم تستغرق سوى بضع دقائق، ثم انتهى كل شيء، وكان الصحابة يعرفون ذلك، قال أنس بن مالك: "كنت أرى أثر المخيط في صدر النبي -صلى الله عليه وسلم-".
ولما أتم صلى الله عليه وسلم السادسة، فقد أمه بعد أن فقد أباه قبل ذلك، فأصبح يتيماً، وكأن الله لا يريد أن يؤثر عليه أبوه أو أمه بنوع من التربية؛ لأنه يريد -عز وجل- أن يتولى تربيته بنفسه وهو يتيم، وليشعر أيضاً بشعور الضعفاء والمساكين والأيتام عندما يتولى قيادة المجتمع، فيرعاهم ويتعهدهم باللطف والرحمة؛ كما قال له: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى) [الضحى: 6].
وهذا ما حدث فعلاً، فقد كان صلى الله عليه وسلم يهتم بالأيتام، بل أنه بشر كافلهم بالجنة، فقال: "أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين" وأشار بالسبابة والوسطى.
ناهيك عن توصيته الدائمة لأمته بالاهتمام بالضعفة والمساكين؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: "أبغوني في ضعفائكم، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم".
ومن اللطيف: أن الله -سبحانه وتعالى- في تربيته لنبيه حماه في صغره من أن يقع في الخطايا والآثام التي يقترفها الشباب، حتى أنه كان معروفا عنه أنه لا يشارك الشباب في اللهو وتضييع الأوقات، ويقول صلى الله عليه وسلم في ذلك: "ما هممت بشيء مما كان الجاهلية يعملونه غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبينه، ثم ما هممت به حتى أكرمني الله برسالته، فقلت ليلة للغلام الذي يرعى معي بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة، وأسمر كما يسمر بها الشباب، فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفا، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: عرس فلان بفلانة، فجلست اسمع، فضرب الله على أذني فنمت، فما أيقظني إلا حر الشمس، فعدت إلى صاحبي فأخبرته، ثم قلت له ليلةً أخرى مثل ذلك، ودخلت مكة فأصابني مثل أول ليلة، ثم ما هممت بعده بسوء".
إذن، كان الله -سبحانه- يحمي نبيه من هذه القاذورات، ومن يرد الله به خيراً يوفقه لهجر المعازف والغناء، فلا يسمع إلا الحلال، ولا ينظر إلا إلى حلال، أما الذي ضرب الله على قلبه فإنه لا يبالي إن استمع إلى الحرام، أو نظر إلى الحرام؛ لأنه أصبح منكوس القلب، لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، وهذا مصداق قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا كما تحمون مريضكم من الطعام والشراب تخافون عليه".
وهكذا كان صلى الله عليه وسلم.
ولما قربت رسالته صلى الله عليه وسلم كان يختلي في غار حراء، يختلي بنفسه ويعبد الله على دين إبراهيم، فقد صانه الله عن شرك الجاهلية وعبادة الأصنام، فكان لا ينزل من الغار إلا ليأخذ زادا، ثم يعود مرة أخرى إلى الغار، بعد أن يكون قد أطعم عدداً من المساكين في طريقه.
وكانت هذه الخلوة ضرورية له من أجل أن تصقل نفسه، وتهذب روحه، وأن يُملأ قلبه بحكمة الله، ويصلح لتلقي رسالة الله، لذلك: من أراد أن يحمل الأمر الخطير فليتزود لذلك بقوة الصلة بالله، والتضرع له والخضوع والخشوع، والصلاة والتعبد والخلوة.
ومر النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا الدور، حتى جاء شهر رمضان وهو في الغار، وعندها نزل جبريل -عليه السلام- يقول له: اقرأ، فيقول: ما أنا بقارئ، أنا لم أتعلم القراءة، فيضمه بشدة، ويقول في الثالثة: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق: 1] الله أكبر أول مرة تقال هذه الكلمة على وجه الأرض في هذه الفترة من البعد عن رسالة الرسل، فقد كان كل شيء على الأرض باسم الصنم، باسم الزعيم، باسم الطاغوت، فنزل جبريل ليقول: لقد سقطت كل هذه الآلهة المزعومة، ومنذ الآن، فكل شيء سيكون باسم الله، وعلى الأمة المسلمة إذا أرادت سبيل الرقي والحضارة والتقدم عليها أن تقرأ وتتعلم كل شيء، وأن تخضع كل شيء لاسم الله -تعالى-؛ لأن الله يقول: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق: 1].
ومضى صلى الله عليه وسلم ينفذ ما طلبه منه ربه، فمضى يدعو إلى ربه لا يلوي على شيء، رغم تعرضه إلى ما لا يمكن وصفه من السخرية والاستهزاء والاضطهاد والأذى، لكن الله -سبحانه وتعالى- لم يتركه لحظه واحدة، فقد كان معه دائماً، وفي الوقت المناسب.
فهذا أبو جهل -لعنه الله- قال لقريش يوماً من الأيام: واللات والعزى لئن رأيت محمداً وهو يسجد لربه، لأطئن على رقبته، ولأعفرن وجهه، فأتى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي، وحاول أن ينفذ ما قال، فإذا به يهرب ويرجع إلى خلفه، فقالوا له: مالك يا أبا الحكم؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار، وهولاً وأجنحة، فقال صلى الله عليه وسلم: "لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً".
لقد كان الله معه دائماً؛ مصداقا لقوله تعالى: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) [الطور: 48] أي بمرأى منا، وتحت حفظنا وكلاءتنا.
هذا الذي عاش ربانياً أراد الكفار أن يسخروا منه عندما جاء رجل وباع جمالاً لأبي جهل.
ولكن أبا جهل لم يعطه الثمن برغم محاولة الرجل المستمرة لأخذ ماله، إلا أن أبا جهل كان يماطل، فأراد المشركون أن يسخروا من النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا للرجل: اذهب إلى المسمى محمد، فاشكوا أمرك إليه، فهو ينصفك عند أبي الحكم، فلما ذهب الرجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج معه إلى أبي جهل، ودق بابه، ولما خرج إليه، قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: هل أخذت من الرجل إبلاً؟ فأحس أبي جهل بحركة، فنظر ورائه فإذا فحل من الإبل ضخم جداً، ما رأى مثله في حياته، واقف في داره وراءه، وفاتح فمه ليبتلعه، فقال أبو جهل: نعم، نعم اشتريت منه، فقال: وهل أعطيته الثمن؟ قال: لا، فقال: إذن أعطه الثمن الآن، فقال: نعم، ودخل وجاء بالمال وأعطاه الرجل.
فسخر الناس من أبي جهل، وكان يريدون أن يسخروا من محمد -صلى الله عليه وسلم-.
هذا الرباني الذي وقف في معركة بدر، وهو يدعو ويتضرع، حتى أشفق عليه أبوبكر الصديق، قائلاً له: كفاك يا رسول الله مناشدتك لربك، فإن الله ناصرك، لكنه ظل يدعو ويدعو، حتى ينظر أخيراً إلى أبي بكر وهو يبتسم، قائلاً له: أبشر يا أبابكر إن الله أنزل ملائكته من السماء لنصرة المؤمنين، ثم يأخذ حفنة من الرمل بأمر الله، ويقول مخاطباً الكفار: شاهت الوجوه، ويرمي بها عليهم، فيتطاير الرمل، حتى يقع في عين كل كافر كان موجوداً في جيش المشركين، حتى تمكن المؤمنون من هزيمتهم، وفي هذا الجو الرباني الرائع، يقول ربنا: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال: 17].
وتستمر الرعاية الربانية الكريمة في غزوة حنين عندما هرب أكثر المسلمين من حول النبي –صلى الله عليه وسلم- وجاء الكفار ينتظرون منه غرة ليقتلونه، لكنه لم يتحرك إلى الخلف خطوة واحدة، بل كان يسوق بغلته إلى الأمام، ويقول:
أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبدالمطلب
يعني أنا نبي من عند الله، متصل به، أنا رباني لا يغلبه أهل الكفر، وهكذا، فالمواقف العصيبة ليست هي التي تصنع الرجال، بل إنها هي التي تكشف عن معادنهم وحقائقهم، وعندما فعل هذا صلى الله عليه وسلم أنزل الله الملائكة ونصر المؤمنين، وقال تعالى في ذلك مسليا للنبي وصحبه: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ) [التوبة: 25-26].
أيها الإخوة المؤمنون: هذا نبينا، وهذه هي بعض رعاية ربنا -سبحانه- له في كل مراحل حياته، فهل نستفيد منها ونتعلم، نرجو ذلك ونتمناه.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
إذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ربانياً مخلصاً لله، فإن علينا أن نكون كذلك لماذا؟
لأننا لن نكون سعداء إلا إذا كنا ربانيين، ولن نكون ربانيين إلا إذا ضحينا بالكثير من الشهوات، وبالكثير من اللذات، واخترنا بدلاً من ذلك: الله ورسوله والدار الآخرة؛ لأن الله يقول: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة: 24].
ثانياً: إننا لكي نكون ربانيين، فلابد أن نسلم القلب لله، إن نسلم العقل لله، وأن نسلم الحياة كلها لله، فإذا كنت مسلماً في صلاتك وصيامك وحجك وزكاتك، فإن هذا ليس كافياً؛ لأنك لابد أن تكون مسلماً في عباداتك ومعاملاتك، وكل حياتك، في داخل المسجد وخارجه.
نعم، إن شعار المسلم الرباني في هذه الحياة هو: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 162].
ثالثا: لا يمكن أن تكون ربانياً في نفسك فقط، ولا تكون ربانياً مع الناس، فلقد كان صلى الله عليه وسلم رباني النفس، لكنه كان أيضاً ربانياً اجتماعياً، همه إدخال السعادة على كل فرد في مجتمعه وأمته، وهكذا يجب أن تكون، فتحب الخير للناس، وتوزع الخير والحب، وتزرع الوفاء، وتزرع الحلم والعطاء والكرم؛ لهذا يقول صلى الله عليه وسلم: "أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً".
رابعاً: لكي تكون ربانياً يجب عليك أن تتفقه في دينك، وأن تتعلم كتاب الله وسنة رسوله، لتعرف كيف ترضي ربك، وكيف تبعد عن غضبه وسخطه، وإذا تعلمت فلا تبخل على الناس، بل احرص على أن تعلمهم مما علمك الله، وحينها ستدخل في قوله تعال: (كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ) [آل عمران: 79].
خامساً: ولكي تكون ربانياً: أكثر من ذكر الله، وحارب الهوى والنفس، ولا تخضع للضغوط الاجتماعية، ولا للتقاليد الفاسدة، ولا للأهواء والشهوات التي تضيع الإنسان وتنسيه ربه، وتهلكه في الدنيا الآخرة؛ لأن الله يقول: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[الحشر: 19].
سادساً: اجعل لله وقتاً تحاسب فيه نفسك، وتصدق في ذلك، وتمسك بالمصحف وتقرأه بتدبر ووعي، فتعرف منه مالك وما عليك؛ لأن الله يقول: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [ص: 29].
سابعاً: حاول أن تصلي في كل ليلة ولو ركعتين من النفل، تحضر فيهما قلبك، وتتضرع فيهما إلى ربك، وتستغفره من ذنبك، وتلقي بكل أحمالك بين يديه سبحانه، وتسأله العون والسداد والهداية، وتقول: ربي أنت العظيم الحليم الكريم، وأنا الضعيف الهزيل الذليل، أسالك وحدك أن تغفر ذنبي، وأن تفرج كربي، وأن تعفو عني وترحمني، وأن تشملني برضاك في الدنيا والآخرة، ربي أهرب إليك من نفسي، وأشكوها إليك، أنت مالكها وأنت مدبر أمرها، فيا مدبر أمر الضعفاء والمساكين، دبر أمري فإني لا أحسن التدبير، ربي لك أسلمت، وبك آمنت، ولكن غلبني الشيطان والهوى، فبك استجرت وبك استعنت، وإليك لجأت، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا أقل منها.
نعم هذه هي السعادة، وهذه هي الربانية، ارتباط بالله وصلة به، وعزة للمؤمن وسعادة لقلبه وراحة لنفسه، فهل يفهم المسلمون ذلك؟ نرجو هذا ونتمناه.
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
اللهم نجنا برحمتك من النار، وعافنا من دار الخزي والبوار، وأدخلنا بفضلك الجنة دار القرار، وعاملنا بكرمك وجودك يا كريم يا غفار، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم كما صنت وجوهنا عن السجود لغيرك، فصن وجوهنا عن المسألة لغيرك.
اللهم من كان على هوىً وهو يظن أنه على الحق فرده إلى الحق، حتى لا يضل من هذه الأمة أحد.
اللهم لا تشغل قلوبنا بما تكفلت لنا به، ولا تجعلنا في رزقك خولاً لغيرك، ولا تمنعنا خير ما عندك بشر ما عندنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي