آيات من كتاب الله شخصت هذا الواقع، وحددت معالمه، وبينت لنا منهج التعامل معه، ولا نستطيع الإحاطة بكل هذه الآيات.. تأمل جليا، تأمل مليا في هذا التوصيف الرباني، لأناس اليوم في عالم السياسات المختلفة، في مواقع شتى خطيرة، في بلدان كثيرة من بلادنا العربية والإسلامية، وغيرها، هل ترى هذه الآيات غادرت كلمة، أو غادرت حالة، أو ثمة شيء يوصف، وبكل الدقة، إنها...
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله -تعالى- من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله ربه رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين.
أما بعد:
عباد الله: يعيش العالم اليوم حالة من الإفك، نعيش في عالم الإفك، في عالم الكذب، في عالم التضليل، والتزوير في الحقائق، قلب الحقائق رأسا على عقب.
في خضم هذه الفتن التي عنوانها اليوم "الإفك" والتي تمور وتموج موج البحر، لن يكون لك عاصم -أيها المسلم- إلا أن تتفقه في كتاب الله.
واجبنا في هذه الأحوال: كيف نحمي أسماعنا، وكيف نحفظ ألسنتنا، وكيف نسدد مواقفنا، وكيف ننقي قلوبنا، وكيف ننتصر للحق، وكيف نتبرأ من الباطل، وكيف لا نكون ألعوبة بأيدي أهل الباطل.
آيات من كتاب الله شخصت هذا الواقع، وحددت معالمه، وبينت لنا منهج التعامل معه، ولا نستطيع الإحاطة بكل هذه الآيات، ولنا أن نتخير بعضها: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) [البقرة: 204].
تأمل جليا، تأمل مليا في هذا التوصيف الرباني، لأناس اليوم في عالم السياسات المختلفة، في مواقع شتى خطيرة، في بلدان كثيرة من بلادنا العربية والإسلامية، وغيرها، هل ترى هذه الآيات غادرت كلمة، أو غادرت حالة، أو ثمة شيء يوصف، وبكل الدقة، إنها كلام رب العالمين: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ) تتأثر به، تخدع به تظنه الخير كله: (وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ) يكثر من حلف الأيمان، ويكثر من إشهاد الله على أنه صادق، وأنه يريد الخير: (وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) شديد العداوة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولكل من أراد إصلاحا فاجرا في خصومته، هنالك من يخاصم لكنه ليس فاجرا في خصومته: (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ).
(وَإِذَا تَوَلَّى) ولاية أو مسئولية: (سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ)[البقرة: 205-206].
لتأتي آية أخرى تؤكد هذه المعاني: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)[المنافقون: 4].
هؤلاء يعيشون حالة الإفك، الإفك الصرف عن الحق إلى الباطل، ومن ثم سمي الكذب إفكا؛ لأنه من أشد أنواع الكذب؛ لأنه يقلب الحق باطلا، ومنه البهتان؛ لأنه من شدة كذبه يجعلك في دهشة وحيرة، فيسمعك كلاما أنت في حالة بهت، يبهتك بهذا الكلام، أي يدهشك ويحيرك، وما هو إلا الكذب والبهتان والافتراء.
لذلك جاءت آيات عظام في كتاب الله تبين لنا منهج التعاون مع هذا الإفك منهج متكامل، وإن كانت نزلت بسبب قضية خاصة لكنه كما بين العلماء، وكما هو سياق الآيات، ونظمها في كتاب الله يؤكد أن: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص قضية ما، فإن القرآن لم يأتِ فقط ليعالج حادثة حصلت وانتهت، ولكن ليبنِ فينا منهجا متكاملا.
(إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ) نعم ومن داخلنا: (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ...) هناك من يتولى كبر الإفك، وهناك من يساير الإفك، وهنالك من يسير بالإفك: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) سائر أو يسير به: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[النور: 11].
إذا كان خصوص السبب نزلت آيات عظاما في كتاب الله، تبين خطورة الإفك، أين إفك كان؟ إذا كان متعلق بعرض امرأة طيبة طاهرة زوج نبينا -عليه الصلاة والسلام- كان هذا التشديد وهذا الوعيد، وهذا المنهج الذي سنقف عليه، وإذا كان الأمر متعلق أيضا بعرض أي مسلم، أو مسلمة كان هذا المنهج، وكان هذا التشديد، وهذا الوعيد الخطير، وكانت هذه الآيات العظام التي نقف على بعض معانيها إذا كان الأمر متعلق بحالة واحدة، يكون هذا البيان الإلهي العظيم، فكيف بنا وبكم إذا كان الأمر متعلق بالأمة كلها، الأمة تعيش حالة من الإفك أي الصرف عن الحق إلى الباطل، منهج من البهتان ممنهجا مبرمجا، كيف إذا كان الأمر متعلقا بانتهاك ليس عرض مسلم، بل بانتهاك حرمات الأمة ومقدساتها، وأعراضها وسياستها، واغتيال الحق فيها معنويا وماديا، واغتيال أهل الخير فيها ماديا ومعنويا إذا كان الأمر متعلق بالأمة كلها، فكيف سيكون هذا الإفك، وحالنا مع هذا الإفك؟ وكيف نتعامل مع هذا الإفك؟ وما خطورة هذا الإفك؟
إذاً هي آيات ترسم منهجا متكاملا في ذلك، لنلاحظ في صدد هذا البيان كيف بين لنا إذا أردنا السلامة والتقوى، والنجاة عند الله -تعالى-، كيف لا نقع في هذا الإفك، ولا نتأثر به، فضلا عن أن نساير، أو أن نسير، أو أن نكون جزءا منه.
بينت آيات القواعد التعامل مع هذا الإفك، أي إفك كان؛ القاعدة الأولى: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ)[النور: 12].
ابدأ بنفسك أنت، لو كنت محل هذا الرجل الصالح، لو كنت محل هذا المصلي القائم، لو كنت محل داعية الإصلاح هذا أكنت تفعل هذا الإفك الذي تراه عليه؟ أكنت تكون قاتلا؟ أكنت تكون مجرما؟ (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا).
فإذا كنت أنت لا تفعل ذلك فكيف تفترض صفحة هذا الإفك الذي يرمى به خيرة من الناس، أو خيرة من الدعاة، أو خيرة من المصلحين، أو ناس يريدون خيرا بأمة أخطئوا، أو أصابوا في أمور يخطأ البشر فيها على سبيل المثال.
(ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا) أي خروج عن المنهج التي ترسمه الآيات القرآنية في التعامل على الإفك صاحبه واقع في الإفك، وصاحبه مساير، أو سائر به، وهو جزء منه، والأدهى والأمر أن يكون الكبيرة فيه.
والقاعدة الثانية: (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) [النور: 16].
فمرة يسميه إفك لأنه يصرف الحق إلى الباطل، أو عن الحق إلى الباطل، ومرة يسميه بهتان؛ لأنه لشدة الكبد فيه يجعلك في حالة من الحيرة والدهشة والاستغراب: (قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا).
أن تسكت عن إشاعة هذا الإفك، أن لا تسير بهذا الإفك، أن لا تردد هذا الإفك، هذا الافتراء، أن لا تكون جزء منه بأي حال من الأحوال، اليوم بعض الناس يجلس في مجلسه يقولك: على ذمة القائل ويشير بثوبه هكذا، يقولون فلان فعل كذا وكذا على ذمة القائل... هذا الذي يفعل ذلك هو يشيع الفاحشة.
(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النور: 19].
ما يكون لنا أن نتكلم بهذا، الآية الأولى: لا تعتقد وجود هذا الإفك، وتحسن الظن بالمؤمن، كما تحسن الظن بنفسك، والثاني: لا تشارك فيه بأي مشاركة: (سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)[النور: 16].
ثم تأتي قاعدة أخرى في سورة النساء: تبين الذي يجب على كل مؤمن أن يتعامل من خلاله مع أي إفك كان: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ)[النساء: 83].
حال المنافقين إذا كانت هناك قضايا تتعلق بسلم، أو بحرب، أو بشدة، أو بأس، أو قتال، إلى غير ذلك: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ) أي تحدثوا به ونشروه.
(وَلَوْ رَدُّوهُ) ما هو واجبنا في الواقع؟
لأن أهل النفاق هم الذين يشيعون هذه الأكاذيب، وهذا الافتراء، وهذا البهتان، وهذا الاغتيال الرخيص للحق، ولأهل الحق، ماديا ومعنويا، واجبنا ما هو؟
(وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ)[النساء: 83].
إذاً عندما تعرض لك أي قضية من قضايا الإفك هذه، لابد أن ترد إلى أهل الاختصاص بحق، الذين يعلمونه بحق، ويستنبطونه بحق، ويفهمونه فهم الحق، لا أن تكون منساقا -لا سمح الله- أو أن يساق الإنسان ينعق بمثل هذا الإفك دون أن يتدبر ما فيه.
خطورة هذا الإفك بينتها سورة النور، ولو أردنا أن نخرج أيضا في آيات أوسع لكان الأمر طويلا، ولكن وباختصار شديد: الله يصفهم أنهم الكاذبون عندما يقول الله تعالى: (لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ)[النور: 13].
كما قلت إذا كانت القضية متعلقة بانتهاك عرض امرأة مسلمة واحدة، فكيف إذا كانت القضية متعلقة بانتهاك أعراض الأمة كلها، بانتهاك حرمات الأمة ومقدساتها ودينها ورجالها، كيف سيكون حال أولئك عند الله؟ (فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) [النــور: 13].
أتدري ما يعني أن يكون أحدهم عند الله هو الكاذب، الله -تعالى- يقول: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ)[النحل: 105].
فعندما يمارس الإنسان الكذب، ويتعاطى الكذب، ويستروح مع الكذب، ويتأثر بالكذب، ولا يحاول أن يمحص ويحقق: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ)[النحل: 105].
نحن لا نصدر أحكاما على أحد، يقرر آيات القرآن العظيم كما جاءت، ثم كل إنسان يحاكم نفسه إلى هذه الآيات القرآنية، ليجد نفسه أين هو منها جميعا؟
ولذلك: "إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا".
ماذا يقابل مقام الصديقية؟
إذاً عندما لا يكون الإنسان صادقا في نفسه ويتحرى الصدق، يتحرى الصدق فيما يقول، ويتحرى الصدق فيما يسمع، حتى يكتب عند الله صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب، يبحث عن الكذب يتبع الكذب، حتى يكتب عند الله كذابا.
ومن ثم كان أخص خصائص المنافقين: "إذا حدث كذب" وكان من أكبر الكبائر بعد الإشراك بالله وعقوق الوالدين: "شهادة الزور".
الآيات تبين إذاً خطورة التعاطي مع الإفك أنهم هم الكاذبون: (فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ)[النــور: 13].
عند الناس لا قيمة لهذا الحكم، عند الناس يعلوهم شرفاء رفعوا من قدرهم، لا قيمة لهذا: (فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ)[النــور: 13].
والأمر الثاني: التهديد الوعيد الشديد عندما يبين سبحانه وتعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[النور: 14].
لو أراد الله -سبحانه- أن يعجل عقوبة لشيء خطير جلل لكان عجل عقوبة أصحاب الإفك، لكن ما زال بنا سبحانه رحيما رءوفا، لعلنا نتوب، لعلنا نراجع أنفسنا، لعلنا نرجع إلى الحق، لعل ولعل..
ولكن لكل امرئ منهم ما كان من الإفك؛ كما بين في الآيات الكريمة سابقا، ثم أيضا تحسبونه هينا نحن نتعاطى مع الإفك، وكأن شيء لا يكون، نسير بالدجل وتزوير الحقائق ونكررها كأننا لم نفعل شيئا.
حذرنا القرآن أشد التحذير من هذه الحالة عندما يقول: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ).
التلقي يكون بالسمع بالآذان، ليمر على الفكر والعقل والدماغ، لينطلق بعد ذلك عبر الحنجرة إلى اللسان، لكن هؤلاء من شدة مسايراتهم واندفاعهم بالإفك، وعدم التحقيق، وعدم التدقيق، وعدم اللامبالاة بهذا الأمر، وشدة التأثر به، لا يمر بهذه المرحلة ولو مر بهذه المرحلة لما خرج: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم) إنما أوتي به هذا اللفظ الأفواه ليبين أنه لا يستند على شيء.
(وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا) بعد كل هذا تحسبونه هينا: (وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) [النور: 15].
خطورة الإفك هذا، إذا كان كما قلت تعلق بشخص، فكيف إذا كان متعلق بالأمة لذلك يأتي الحديث الشريف الصحيح: "لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى رجال أموال قوما ودماءهم، لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر".
النبي -صلى الله عليه وسلم- يحذر من هذا الكبر، ويحذر من هذا الإدعاء، وهذا الإفك، وأن مصير الإدعاء، والإفك والافتراء أن تستباح الأموال، أن تستباح الأعراض، أن تستباح الأنفس، أن تستباح الدماء.
"لو يعطى الناس بدعواهم" يعني لو كل واحد ادعى دعوة قلنا له: نعم، سيترتب على ذلك أن هذا بهذه الدعوة سيستبيح الدم، ويستبح العرض، ويستبيح المال، ويستبيح النفس، فكيف يمكن أن يكون لأذن المسلم مجال أن تسمع مثله هذا الإفك.
لذلك بينت آيات عظام واجبنا الشرعي تجاه ذلك: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)[الإسراء: 36].
مسئول عن سمعك كما أنت مسئول عن لسانك، كما أنت تسمع، هل سيستقر في قلبك، هل ستساير هذا الإفك: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)[الإسراء: 36].
(مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[ق: 18].
ما دام إن السمع والبصر والفؤاد كل ذلك كان عنه مسئولا، وما دام أن ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، ما دام ستكتب شهادتهم ويسألون كيف لا يكون التحقق والتثبت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[الحجرات: 6].
كيف لا يكون التثبت؟ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)[الحجرات: 12].
لأن بعض الظن قد يكون إثم، فيجب أن نجتنب كثيرا من الظن، ولا نتبع منه إلا ما قد تحققنا من صحته يقينا، بحيث لو سألنا أمام الله -سبحانه- لكان لنا برهان الصدق في ذلك.
هذا الإفك صوره خطيرة وكثيرة، ضاعت فلسطين بالإفك، قالوا: محرقة، وقالوا: هيكل، وقالوا: أرض بلا شعب، وشعب بلا أرض، ألا ترون أنه كله إفك، ضاعت فلسطين بالإفك، وصدق من صدق هذا الإفك، وشرع من شرع في الأمم المتحدة بهذا الإفك، ورضي من رضي بهذا الإفك، وما زال التضييع بهذا الإفك شعارات كاذبة، خادعة تدغدغ بها العواطف، إفك بعد إفك، حتى ندرك خطورة الإفك لما نتكلم عن الإفك، أو يتكلم القرآن عن الإفك.
دمر العراق بهذا الإفك، وأنتم تعرفون الصورة واضحة، دمرت أفغانستان بهذا الإفك، تدمر سوريا اليوم ومصر بهذا الإفك والبهتان.
ترى لو انتقلنا إلى الواقع الاجتماعي كم من أسر دمرت؟ كم من زوجة طلقت؟ كم من فتاة بريئة قتلت بهذا الإفك؟ كله في ميزان الله إفك في هذه النهاية.
الأخطر أن نعيش حالة من الإفك الممنهج المبرمج المدروس المخطط، وفق أخطر نظريات التعامل النفسي والإعلامي مع الآخر؟ كيف يشيطن الآخر؟ كيف يشوهه؟ كيف يقوم الظالم بقتل المظلومين الأبرياء، ثم يقوم بلبس الجريمة للمظلوم الضحية والأبرياء؟ كيف يقوم بحرق دور العبادات ثم يلبسها للآخرين؟ كيف يقوم بأعمال تدعوك أن تظن أن الأمن قد انفلت وأن هيبة الدولة قد سقطت فيأتي بعد ذلك ليقول لك، أقول: تفويض لحماية الأمن والدولة، وإنما هو الذي يقوم بهذه الأعمال.
ألوان من الإفك، هي ليست بجديدة القرآن بينها، وحذرنا منها، وهي منهج الفراعنة من قبل: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى) يريد تفويض في هذا الأمر: (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ)[غافر: 26].
لا عذر لنا بالتأثر بهذا الإفك أبداً، مهما جاء إنسان وقال: إفك كبير، وبالتالي لم أستطع أن أتبين الحقيقة، لماذا حدثنا النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الدجال الأكبر، وخطره العظيم، ومع ذلك لم يعذر إنسان أبدا أن يكون من أتباع الدجال الأكبر، مهما كان إفكه وبهتانه خطيرا؛ لأن واجبك أن تبحث عن الحقيقة وتتحرى الحقيقة؟
حذرنا القرآن: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا)[الأنعام: 112].
لنحم أسماعنا وأبصارنا، لنحفظ ألسنتنا، لنسدد مواقفنا، لنحفظ قلوبنا، لنتق ربنا، لننق هذه القلوب نكون مع الحق: (اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119].
هذا الواجب الشرعي الخطير الذي يجب أن تتحقق به الأمة، مستذكرين مرة أخرى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم)[النور:11].
سبحان الله ما هذه البشارة من عند الله -سبحانه-، نعم تمييز الحق من الباطل، وفضح أهل الباطل ورفعة أهل الحق، واصطفاء الشهداء، ومعرفة الحق بتجلياته المختلفة، إلى غير ذلك.
(إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[النور:11].
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وأصلح أحوالنا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي