تجديد التوبة باستمرار

خالد بن عبدالله الشايع

عناصر الخطبة

  1. صراع المؤمن مع النفس والهوى والشيطان
  2. الخطأ من طبع الإنسان
  3. الحث على التوبة
  4. شروط التوبة النصوح
  5. المبادرة بالتوبة وعدم التسويف فيها
  6. استمرار المؤمن في التوبة
  7. قبول توبة التائبين مهما كانت الذنوب

الخطبة الأولى:

أما بعد:

فيا أيها المؤمنون: لا يزال المؤمن في معترك الحياة في صراع مع نفسه وهواه والشيطان، فيتغلب عليهم أحيانا، ويهزمونه أحيانا كثيرة، حتى إن البعض منا من كثرة هزيمته،  قد استسلم فلا يقاوم أولئك الأعداء، بل ينقاد معهم حيث شاؤوا، ومثل هذا -أعاذنا الله وإياكم من حاله- يهوي في الدركات، ويسير في الظلمات، وهو من جملة الأموات، ولو كان في عالم الحياة.

ومن رحمة الله بالعبد المسلم: أن جعل هؤلاء الأعداء مع كثرتهم؛ ضعفاء، فالمسلم القوي يتغلب عليهم بلا تعب، قال تعالى: ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 76].

ولكن متى ما ضعف المسلم، وركن إلى الدنيا، كلما انقاد لأعدائه، وصار ضعيفا أمامهم.

معاشر المسلمين: إن وقوع العبد في الذنب أمر لا بد منه، فالإنسان بطبعه خطاء، لا ينفك عن الذنب، ولهذا جعل الله للعبد مخرجا عندما يذنب، وذلك بالتوبة، أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم".

قال شيخنا ابن باز -قدس الله روحه-: "معنى الحديث: أن الله -سبحانه وتعالى- قضى في سابق علمه أنه لا بد من وقوع الذنوب، حتى تظهر آثار مغفرته ورحمته سبحانه، واسمه التواب الغفور والعفو؛ لأنه جل وعلا لو لم يكن هناك ذنوب لم يكن لمعنى العفو الغفور والتواب معنى، فهو سبحانه وتعالى سبق في قضائه وعلمه أن الجن والإنس يذنبون، فيتوب الله على من تاب، ويغفر الله لمن شاء، ويعفو عمن شاء سبحانه وتعالى، وليس معناها الترخيص للذنوب، فالله نهى عنها وحرمها، لكن سبق في علمه أنها توجد، وأنه سبحانه يعفو عمن يشاء، ويغفر لمن يشاء، إذا تاب إليه، هذا فيه دلالة على أنها لا بد منها، فلا يقنط المؤمن، ولا ييأس، ويعلم أن الله كتب ذلك عليه، فليتب إلى الله، ولا ييأس ولا يقنط، وليبادر بالتوبة، والله يتوب على التائبين، فليس القدر حجة، ولكن عليك ألا تقنط، وألا تيأس، وأن تتوب إلى الله -سبحانه وتعالى-؛ لأن هذا شيء قضاه الله عليك، وعلى غيرك، فلا تيأس، ولا تقنط، وبادر بالتوبة، والله يتوب على التائبين سبحانه وتعالى، فضلاً منه وإحساناً، حتى تظهر آثار أسمائه الحسنى التواب، الرحيم، العفو، الغفور" انتهى كلامه رحمه الله.

عباد الله: تخيلوا لو كانت الحياة خالية من التوبة، فمن أذنب فسيعذب لا محالة، وليس له توبة، أو كانت التوبة لا تقبل إلا بقتل الإنسان نفسه، كما في زمن موسى -عليه السلام- مع بني اسرائيل، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ﴾ [البقرة: 54].

لو تخيلنا ذلك لضاقت علينا الحياة، ولأصابنا القنوط من رحمة الله، ولكن الله فتح لنا باب التوبة، وتعرف لخلقه بعفوه ورحمته، أكثر من عقابه وغضبه، ليعلم الجميع أن رحمة الله تسبق غضبه، فيسارعوا للتوبة دائما، والله يحب التوابين.

اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا.

أقول قولي هذا …

الخطبة الثانية:

أما بعد:

فيا أيها الناس: لقد جعل الله للتوبة شروطا سهلة، فمن طبقها تيب عليه مهما بلغت ذنوبه، أولها: الاقلاع عن الذنب، فمن زعم التوبة، وهو على الذنب مقيم، فليس بصادق في توبته.

وثانيها: الندم على الوقوع في الذنب، فحرارة الندم في القلب تطهره من أثر الذنب، أخرج أحمد وغيره من حديث ابن مسعود وغيره: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الندم توبة".

ثالثها: العزم على عدم العودة للذنوب مرة أخرى، فمن تاب وهو يحدث نفسه الرجوع للذنب بعد مدة، كمن يحدث نفسه بالرجوع للذنب بعد رمضان، أو بعد الحج، فمثله ليس بتائب، بل هو كاذب في توبته.

ورابعها: إن كان الذنب يتعلق بحق آدمي، كمن سرق مال غيره، فلا بد من رد الحق لأهله.

فمن طبق هذه الشروط قبل الله توبته، وأبدل سيئاته حسنات، كما قال تعالى: ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ [الفرقان: 70].

أيها الناس: بما أن التوبة سهلة ميسرة، وتكون سرا بين العبد وربه، فعلى العبد العاقل أن يبادر إليها بلا تسويف، وأن يكثر منها، فالله -جل جلاله- يدعو للتوبة، ويحث عليها، كما قال سبحانه: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النــور: 31].

بل إنه سبحانه يحب التوابين، ويفرح بتوبة عبده إليه، وهو الغني عنه، وعن توبته، كما في الصحيحين من حديث  أبي حمزة أنس بن مالك الأنصاري -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- خادم رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: قال رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: "لله أفرح بتوبة عبده مِنْ أحدكم سقط عَلَى بعيره، وقد أضله في أرض فلاة".

وفي رواية لمسلم: (2747) "لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه مِنْ أحدكم كان عَلَى راحلته بأرض فلاة، فانفلتت مِنْه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها فأتى شجرة، فاضطجع في ظلها قد أيس مِنْ راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال مِنْ شدة الفرح: اللَّهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ مِنْ شدة الفرح".

عباد الله: بعض الخلق قد بخل على نفسه بالتوبة، فتجده لا يحدث نفسه بالتوبة إلا في المواسم المباركة؛ كرمضان، ونبي الأمة -صلوات ربي وسلامه عليه- يتوب في اليوم مائة مرة.

وأخرج مسلم في صحيحه من حديث الأغر المزني قال رسول الله -صلى الله صلى الله عليه وسلم-: "يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب في اليوم مائة مرة".

ففي الحديث إشارة إلى إحداث التوبة بعد كل ذنب، ولو تكرر مئات المرات.

وفيه إشارة إلى التوبة ولو لم يذكر العبد ذنبا، فالتوبة عبادة يؤجر عليها العبد، والعبد لا ينفك عن تقصير ولو في شكر النعم.

معاشر المسلمين: لا تستبعدوا قبول التوبة مهما عظمت ذنوبنا، فربما كريم غفور، يحلم على العبد ويستره، ويعافية من مغبة الذنب، ويمد له في عمره، ويدعوه للتوبة، وقد دعا الله -تعالى- إلى التوبة أعظمَ الخلق شركاً بالله ومعصيةً؛ الذين قالوا بأن عيسى -عليه الصلاة والسلام- ابن الله -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً-، فقال تعالى: ﴿أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 74].

كما فتح باب التوبة للمنافقين الذين هم شر من الكفار المعلنين كفرهم، فقال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا (145) إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً(146)﴾ [النساء: 145-146].

وقال لكفار قريش الذين سبوا الله ورسوله، وصدوا عن سبيل الله، وطردوا نبيه وقاتلوه: ﴿قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: 38].

الله أكبر، لنبادر للتوبة قبل الممات، فلن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها.

فكل من تاب إلى الله تاب الله عليه، وقافلة التائبين ماضية في مسيرها إلى الله لا تنقطع، حتى تطلع الشمس من مغربها.

فهذا تائبٌ من قطع طريق، وهذا تائب من فاحشة الفرج، وهذا تائب من الخمر، وهذا تائب من المخدرات، وهذا تائب من قطيعة الرحم، وهذا تائب من ترك الصلاة، أو التكاسل عنها جماعة، وهذا تائب من عقوق الوالدين، وهذا تائب من الربا والرشوة، وهذا تائب من السرقة، وهذا تائب من الدماء، وهذا تائب من أكل أموال الناس بالباطل، وهذا تائب من الدخان، فهنيئاً لكل تائب إلى الله من كل ذنب، فقد أصبح مولوداً جديداً بالتوبة النصوح.

اللهم اكتبنا مع عبادك التائبين، وتقبل توبتنا


تم تحميل المحتوى من موقع