كان المسلمون في حياتهم، ملتهم واحدة، ورأيهم واحد، ودينهم واحد، ورسولهم واحد، وربهم واحد، لم يعرف الاختلاف والتفرق إليهم طريقًا؛ لهذا سادوا العالم ونشروا الإسلام بين ربوعه، ولو نظرنا إلى وضع المسلمين الآن لوجدنا حالهم معكوسًا تمامًا، فكلمتهم متفرقة، وآراؤهم عديدة، وأديانهم شتى، وقلوبهم متعلقة بغير الله ومتوكلة على غيره، إلا من رحم الله منهم وهم قليل؛ ما...
من الأحداث التاريخية العظيمة في رمضان فتح مكة، وبدأت قصة هذا الفتح لما أبرم صلح الحديبية، وكان من شروط الصلح أن من أحب أن يدخل في عهد النبي فليدخل، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش فليدخل، فدخلت خزاعة في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، ومضى على الصلح قرابة عامين، ولم يحدث من المسلمين ما يخل بالعهد، لكن بني بكر حلفاء قريش أرادوا أن يأخذوا بثاراتهم القديمة من بني خزاعة حلفاء المسلمين، وحرضهم على ذلك مشركو قريش، وأمدوهم بالرجال والسلاح سرًا.
وقامت بنو بكر وهاجمت خزاعة وأوقعوا فيهم الخسائر في الأرواح والأموال، وكان هذا الانتهاك الخطير سببًا في نقض الصلح كما تم الاتفاق على ذلك من الطرفين من قبل، وقد ركب عمرو بن سالم الخزاعي إلى رسول الله بالمدينة يخبره بغدر قريش وإخلافهم بالعهد. وكما وقف على النبي وأنشد أبياتًا منها:
يا رب إني ناشد محمدًا *** حلف أبيه وأبينا الأتلدا
هم بيتونا بالوتير هجَّدًا *** وقتلونا ركعًا وسجـدًا
وقد أجابه رسول الله بقوله: "نصرت يا عمرو بن سالم".
وإذا كان الرسول قد التزم ببنود الصلح التزامًا تامًا، لكن عندما غدرت قريش كان لا بد من تأديبها. وفي هذا العصر لو عرف أعداء الله أن المسلمين لن يقبلوا بضيم ولن يرضوا باعتداء عليهم أو على حلفائهم، لو عرفوا ذلك لما تجرؤوا على انتهاك وقتل المسلمين بهذه الصورة المزرية التي تحدث في هذه الأيام في بعض البقاع كبورما وغيرها. وصدق من قال: "من أمن العقوبة أساء الأدب"؛ لذا كانت استجابة الرسول لنصرة حلفائه استجابة سريعة وفورية وحاسمة.
وبعد أن اعتدت بنو بكر على خزاعة بمساعدة قريش ندموا جميعًا على ما ارتكبوه، فرأت قريش إرسال مبعوث خاص إلى المدينة لإصلاح الأوضاع قبل أن يتصرف الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكان أن اختاروا زعيمهم أبا سفيان لهذه المهمة الخطيرة، وقد ذهب أبو سفيان إلى المدينة وقابله النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكنه فشل فشلاً ذريعًا في مهمته تلك، ولما أجرى بعض الاتصالات الثنائية بكبار الصحابة للتوسط عند الرسول من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم أجمعين- اتفقوا جميعًا أنهم لا يستطيعون أن يكلموا رسول الله بشيء يكرهه، بل إن عمر فاجأه بقوله له: أأنا أشفع لكم إلى رسول الله؟! والله لو وجدت الذر تقاتلكم لأعنتها عليكم. لهذا عندما رجع أبو سفيان إلى مكة قال لقومه: "جئتكم من عند قوم قلوبهم على قلب واحد، والله ما تركت فيهم صغيرًا ولا كبيرًا ولا أنثى ولا ذكرًا إلا كلمته فلم أنجح منهم شيئًا".
وهكذا -يا إخوة- كان المسلمون في حياتهم، ملتهم واحدة، ورأيهم واحد، ودينهم واحد، ورسولهم واحد، وربهم واحد، لم يعرف الاختلاف والتفرق إليهم طريقًا؛ لهذا سادوا العالم ونشروا الإسلام بين ربوعه، ولو نظرنا إلى وضع المسلمين الآن لوجدنا حالهم معكوسًا تمامًا، فكلمتهم متفرقة، وآراؤهم عديدة، وأديانهم شتى، وقلوبهم متعلقة بغير الله ومتوكلة على غيره، إلا من رحم الله منهم وهم قليل؛ ما أطمع فيهم أعداء الله من كل مكان.
بعد ذلك وحيث أدبر أبو سفيان تاركًا المدينة إلى مكة، صدر الأمر النبوي بالتهيؤ للغزو، دون تحديد جهة هذا الغزو. وكانت خطته تتلخص في دعائه الذي قاله: "اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلا بغتة، ولا يسمعون بنا إلا فجأة". وبعد أن أعلن النفير العام وحشد عشرة آلاف من المسلمين تحرك بهم من المدينة وهم لا يعلمون إلى أين هم زاحفون، وزيادة في تضليل العدو بعث بسرية عسكرية ناحية نجد لإيهام الناس بأن الجيش سيتحرك إلى هناك وليس إلى مكة، وقد أمر بحراسة ومراقبة الطرق المؤدية إلى مكة واحتجاز كل من يشتبه في أمره، لذلك عميت الأخبار على قريش ولم يشعر المشركون إلا والجيش النبوي على بعد أربعة أميال من مكة، وعسكر الجيش هناك، وأمر الرسول أن يوقد كل مسلم نارًا حتى ترى قريش ضخامة الجيش، وفعلًا أصيب المشركون بالرعب من كثافة عدد جيش المسلمين.
وأثناء تحرك الجيش من المدينة وقع أحد الصحابة في أمر خطير عندما توقع أن يقوم الرسول بغزو قريش نتيجة لأن قريشًا قد نقضت عهد الحديبية، فأرسل رسالة سرية إلى قريش يخبرهم بذلك مع إحدى النساء، لكن الله سبحانه أعلم نبيه بذلك، فقبض على المرأة وأتى بهذا الصحابي وهو حاطب بن أبي بلتعة لاستجوابه والتحقيق معه. وقد أثبت حاطب إيمانه، ولكنه قال: إنما فعل ذلك لأنه يريد أن يتخذ عند قريش يدًا يحمي بها أهله في مكة، ولم يفعل هذا خيانة لله ورسوله، وقد قبل الرسول عذره هذا، وعندما اقترح عمر قتل حاطب لأنه ظن أنه قد نافق قال له -صلى الله عليه وسلم-: "وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
ثم أنزل الله في حادثة حاطب قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) [الممتحنة: 1].
وإذا كان الله قد تكرم في هذه الآية بالعفو عن حاطب وإثبات إيمانه فإنه سبحانه أمر المسلمين بأن يجعلوا ولاءهم لله وحده، وأن تكون علاقتهم بالناس على قدر قربهم أو بعدهم من الله. فمن كان قريبًا من الله فهو الحبيب وإن كان من أي جنس كان، ومن كان بعيدًا عن الله فهو العدو وإن كان أبًا أو أخًا أو ولدًا. فكيف إذا كان هذا الأمر يتعلق بموالاة أعداء الإسلام من اليهود والنصارى والمنافقين وأعدائهم من الكفار لهذا يقول تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ، ويقول: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ).
وكما قلنا: فلم تعلم قريش بخبر الجيش النبوي إلا بعد أن صار حوالي مكة، فأسقط في أيدي المشركين، وبعد مناورات متعددة اتخذ ساداتهم قرارًا بعدم مقاومة الجيش النبوي، وقرروا أن ينتدبوا أبا سفيان ليكون المفاوض عنهم، وساعد على هذا أن العباس بن عبد المطلب وهو عم الرسول قام بإنذار قريش وإقناعهم بالاستسلام، واستقبل أبا سفيان وأخذه إلى النبي الذي أقنعه بدخول الإسلام مما كان عاملًا في إحلال السلام بدل الحرب، وهذا ما كان يحرص عليه الذي كان يهدف في المقام الأول إلى دخول مكة دون إراقة للدماء.
وقد أصدر الرسول أمره إلى الجيش النبوي بعدم استخدام السلاح في مكة إلا في حالة الدفاع عن النفس، وعندما اقترب الرسول من مكة قسم جيشه إلى فرق تدخل إلى مكة من نواحٍ متفرقة، وهذا ما حصل، ولكي يتجنب الرسول أي صدام قد يحدث في المدينة المقدسة فقد فرض بالاتفاق مع أبي سفيان، فرض نظام منع التجول، وحظر حمل السلاح على جميع سكان مكة، حتى ينتهي الجيش النبوي من فتحها، وقد التزم أهل مكة بنظام منع التجول فلزموا ديارهم أو المسجد الحرام أو دار أبي سفيان، وألقوا أسلحتهم خارج بيوتهم علامة على الاستسلام، ما عدا بعض المتطرفين الذين حاولوا محاربة جيش المسلمين، فوقعوا فريسة للفرقة التي كان يقودها سيف الله المسلول خالد بن الوليد والذي سرعان ما قضى عليهم سريعًا.
ودنت الساعة الحاسمة في تاريخ مكة ودخل إليها عزيزًا منصورًا مكرمًا، وهو الذي أخرجه منها المشركون قبل سنوات قليلة فقط. دخل إلى مكة وهو شاكر لله على هذا الفتح العظيم، ولم يدخل متكبرًا ولا متفاخرًا، بل دخل مكة وقد أحنى رأسه وهو على ناقته القصواء، أحنى رأسه حتى كاد يلامس صدر الناقة تواضعًا لله تعالى. وهكذا كان حاله -صلى الله عليه وسلم-، كان عبدًا لله يشعر بحاجته إلى الله في السراء والضراء، في الرخاء والشدة، فأين حاله هذا من أحوال بعض المسلمين اليوم الذين يتظاهرون بالذل والرجوع إلى الله تعالى كلما حاقت بهم مصيبة أو كرب، حتى إذا كشف الله كربهم وأزال ضرهم طغوا وتجبروا ونسوا الله وكأنهم لم يدعوه أو يتضرعوا إليه: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ قُلْ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ).
ثم دخل المسجد وكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، فطاف حول البيت وكان حوله ثلاثمائة وستون صنمًا، فجعل يطعنها بعود ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد"، وكسر الأصنام ودخل الكعبة، فوجد فيها صورة إبراهيم -عليه السلام- وصورة مريم، فأخرج الصور وأمر بإزالتها وقال: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب أو صورة".
وإذا كان قد قضى على أصنام الحجارة ورفع راية التوحيد فإنه أراد أن يبين للمسلمين في كل زمان ومكان أن من معاني التوحيد أن يتفرغ الإنسان تمامًا لمولاه، ويرتبط به، ويقطع كل علاقة مع غيره، ويكون دعاؤه وتوكله ومحبته وخوفه ويقينه فيه -سبحانه وتعالى-، هذا هو التوحيد. وليس التوحيد أن يكفر المسلمون بأصنام الحجارة فقط ثم يجعلون من المال صنمًا أو الجاه صنمًا أو العادات والتقاليد صنمًا أو الحاكم صنمًا أو الحكم بغير ما أنزل الله صنمًا، ثم يتوجهون ببعض مشاعرهم أو كلها إلى هذه الأصنام الجديدة، فإذا أكثر النشاط الظاهر والباطن لهذه الأصنام وأقله لله -عز وجل-. وإذا كان قد حذّر من اتخاذ الصور وتعليقها، فهذا الكلام نوجهه لبعض الذين جعلوا من منازلهم مرتعًا لوضع التحف والتماثيل التي تصور ذوات الأرواح؛ ما جعل منازل بعض المسلمين وكرًا للشياطين، وجعلها منبوذة من الملائكة المكرمين الذين لا يدخلون منزلًا فيه تمثال أو صورة معلقة.
وأثناء طوافه حاول رجل اغتياله وهو فضالة بن عمير، فلما دنا من الرسول لتنفيذ هذه المحاولة فاجأه وقال له: "أفضالة؟!"، فقال: نعم فضالة يا رسول الله، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ماذا كنت تحدث به نفسك؟!"، فقال فضالة: لا شيء، كنت أذكر الله، فضحك ثم استغفر الله، ثم وضع يده الشريفة على صدر فضالة فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه. وبعد أن انتهى من الطواف وتمت سيطرة الجيش النبوي على مكة أخبر أهل مكة بأنهم أحرار في التنقل، فتوافد أهل مكة إلى المسجد من كل ناحية ليروا كيف ستكون معاملة الرسول للقرشيين المهزومين الذين لم يتركوا وخلال عشرين عامًا لم يتركوا وسيلة للقضاء على الرسول وعلى الدعوة إلا اتبعوها.
وتوافد الذين آذوه وعذبوا أصحابه وألبوا عليه العرب جميعًا، توافدوا إليه ليسمعوا حكمه فيهم. فما الذي فعله؟! أولًا: أصدر أمره إلى بلال بن رباح العبد الحبشي بأن يعلو سطح الكعبة ويؤذن، ويعلن سيادة سلطان التوحيد على مكة، وإنهاء سلطان الشرك والوثنية إلى الأبد، نعم بلال العبد الأسود: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، هذا هو المقياس عند الله. وقد أعلن هذا من فوق سطح الكعبة.
ثم قام وخطب خطبة عظيمة سنتعرض لها، وقال: "الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده"، ثم خاطب أهل مكة والذين كانوا ينظرون إليه وقلوبهم تكاد تطير من الخوف، خاطبهم وقال: "يا معشر قريش، ويا أهل مكة: ما ترون أني فاعل بكم؟!"، قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء"، قال الإمام الطبري: "فأعتقهم وقد كان الله أمكنه من رقابهم وكانوا له فيئًا"، فبذلك يسمى أهل مكة الطلقاء.
وللعلم فهؤلاء الطلقاء لم يسلموا فقط، بل حملوا رايات الجهاد، وتحولوا من أعداء للإسلام إلى أشد الأنصار له، بفضل الله ثم بفضل حكمته ورحمته -صلى الله عليه وسلم-، وصدق الله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم.
بعد أن أصدر العفو العام عن أهل مكة في بداية خطبته العظيمة يوم الفتح، أكمل خطبته موجهًا كلامه إلى المسلمين في كل زمان ومكان، فبيّن لهم كثيرًا من الأمور التي تتعلق بحياتهم ومماتهم.
ولما كان الربا منتشرًا في الجاهلية، ولخطره، ولكونه من أبشع وسائل الاستغلال التي تتضخم بها ثروات الأغنياء على حساب تدمير الفقراء والمحتاجين مع أنهم الأغلبية، لذلك ألغى الرسول في خطبته هذه التعامل بالربا وحرمه تحريمًا قاطعًا فقال: "ألا إن كل ربا في الجاهلية أو دم أو مال أو مأثرة فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج". ثم حدد التعويض الذي يدفع لأهل المقتول خطأ أو شبه العمد والتي تسمى بالدية فقال: "ألا وفي قتيل الخطأ مثل شبه العمد، السوط والعصا، فيهما الدية مغلظة مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها".
ثم أعلن وحدة النوع البشري، وتحريم التفريق العنصري، وأنه لا مكان في الإسلام لتفضيل إنسان على إنسان بسبب لونه أو نسبه أو لغته، وإنما يكون التفاضل بالتقوى فقال: "يا معشر قريش: إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتكبرها، الناس من آدم، وآدم من تراب"، ثم تلا -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
ثم أعلن في خطبته التاريخية حرمة مكة المكرمة، وأنه لا يجوز فيها سفك دم إنسان، ولا يقطع شجرها وتحريم الاصطياد فيها، فقال: "إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا ولا يعضد بها شجرًا، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب"، إلا الذي يكون قد ارتكب جريمة توجب حدًا كالثيب الزاني أو قاتل النفس التي حرم الله إلا بالحق أو المرتد فهؤلاء يقتلون ولو كانوا داخل الحرم.
ثم تحدث عن بعض التشريعات الأخرى والتي تتعلق بتعامل المسلمين بعضهم مع بعض، إضافة إلى تشريعات أخرى تتعلق بأوضاع الأسرة المسلمة. وبهذا الخطاب التاريخي الذي أرسى فيه قواعد الإسلام انطوى بساط الشرك والوثنية في مدينة كانت من أعظم المعاقل في معاداة الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهنا نريد أن ننبه على أمرين مهمين:
أولهما: أن مجموعة كبيرة من أصحاب رسول الله قتلوا قبل فتح مكة، ولم يشهدوا هذا الانتصار العظيم كأمثال حمزة ومصعب وغيرهما، وهذا يبيّن لنا أنه ليس من الضروري أن يشهد كل مسلم النصر النهائي على أعداء الإسلام؛ لأن وظيفة المسلم الأساسية في الحياة هي العمل والعمل فقط، أما النتيجة فهي قد تظهر في حياة المسلم أو بعد موته، أي: في الوقت الذي يحدده الله -سبحانه وتعالى-، وإذا كان بعض أصحاب رسول الله لم يدركوا النصر معه في مكة فإنهم قد أدركوا خيري الدنيا والآخرة، وأدركوا السمعة الحسنة في الدنيا قبل الآخرة، فأنتم الآن وبعد موتهم بمئات السنين تتذكرونهم وتترحمون عليهم وتدعون لهم وتشكرون لهم جهادهم في نصرة الإسلام وإخلاصهم في صحبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصدق الله سبحانه: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). هذا الأمر الأول.
أما الأمر الثاني فهو: أين الفريق الآخر من أعداء الإسلام كأمثال أبي جهل وأبي لهب وعقبة بن معيط الذين حاربوا الإسلام بكل طريقة ووقفوا ضده بأنفسهم وأموالهم؟! فأين هم؟! وهل استفادوا شيئًا؟! في الحقيقة لقد خسروا خيري الدنيا والآخرة، وخسروا الحرب على الإسلام، وخسروا أنفسهم وأموالهم، وخسروا السمعة الحسنة في الدنيا، فأنتم كلما ذكرتموهم دعوتم عليهم ولعنتموهم وتبرأتم منهم ومن كل من سلك طريقهم في القديم أو في الحديث، فهل يستوي الفريقان؟! لا والله، فريق في الجنة، وفريق في السعير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) [الأنفال: 36].
اللهم اجعلنا من أهل الجنة يا أرحم الراحمين، وفقنا الله جميعًا لما يحبه ويرضاه.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي