إن المؤمن يُحبُّ في الله، ويَكْره في الله، فمحبته للآخرين تبع لإيمانه وعقيدته لا تبعا لأهوائه وشهواته، ولا تبعا لحبائل الشيطان. المحبة في الله هي والله تلك العبودية التي أصبحت اليوم عزيزة، افتقدها كثير من المسلمين، فأصبحت محبتهم للآخرين إما لشهوة عارضة، وإما لمصالح ومطامح زائلة، وأما المحبة في الله ولأجل الله، فهي...
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له/ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان، وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله.
وبعد:
عباد الله: هناك عبوديات لله -تعالى- عظيمة الشأن، ورفيعة المكانة والمنزلة في دين الله، قد أغفلناها ونسينا مكانتها، حتى ظن كثير من المسلمين أنها من نوافل العبادات لا من واجباتها، وأنها شأنٌ خاص.
ومن هذه العبادات العظيمة الشأن التي دعا إليها شرعنا الحنيف: عبادة المحبة في الله، تلك العبادة التي لها ثقلها الاجتماعي والإيماني والإنساني.
لقد أخطأ الفهم بعض المسلمين اليوم حين ظنوا أن العبادات المطالب بها المسلم هي العبادات الظاهرة فقط، وكذلك أخطأ بعضهم ثانية حين ظنوا أن العبادات التي يؤجر عليها المسلم أو يحاسب عليها، هي العبادات الظاهرة فقط، وغفل عن العبادات الباطنة التي جعلها ابن تيمة أساس العبوديات كلها.
وقد لحق كل هذا بعبادة المحبة في الله، ولذلك دعونا في هذه الخطبة نضع عبادة المحبة في الله في موقها الشرعي الصحيح، ونزنها بموازين الله الحقة، لعنا بذلك نعيد لها وزنها، ونقوي تفعيلها في مجتمعاتنا الإسلامية.
عباد الله: المحبة في الله هي امتحان لإيمان المؤمن ولقلبه ولموازينه؛ فالقلب محطّ أنظار الله كما في صحيح مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ".
إن المؤمن يُحبُّ في الله، ويَكْره في الله، فمحبته للآخرين تبع لإيمانه وعقيدته لا تبعا لأهوائه وشهواته، ولا تبعا لحبائل الشيطان.
المحبة في الله هي والله تلك العبودية التي أصبحت اليوم عزيزة، افتقدها كثير من المسلمين، فأصبحت محبتهم للآخرين إما لشهوة عارضة، وإما لمصالح ومطامح زائلة، وأما المحبة في الله ولأجل الله فهي محبة الآخرين لأجل دينهم والتزامهم وعبوديتهم لله ولأجل خدمتهم لدين الله، أنها محبة لا يريدون من ورائها جزاء ولا شكورا، فهذه المحبة اختفت من بعض مجتمعات المسلمين ومن حياة بعض المؤمنين إلا من رحم الله.
ولو علم المؤمن أن المحبة في الله واجبة شرعا، وأنها عظيمة القدر والمنزلة والأجر والفائدة، لحرص عليها كلّ الحرص، وسعى إليها كلّ مسعى؛ فها هو الإمام مسلم يبوب في صحيحه بَاباً بعنوان: "باب فِي فَضْلِ الْحُبِّ فِي اللَّهِ".
والبخاري بابا بعنوان: "بَاب الْحُبِّ فِي اللَّهِ".
والمنذري في الترغيب والترهيب بابا بعنوان: "باب الترغيب في الحب في الله -تعالى- والترهيب من حب الأشرار وأهل البدع؛ لأن المرء مع من أحب".
وكلّ ذلك لتقرير أهميتها وفضلها والحث عليها.
عباد الله: المحبة في الله دليل على محبتك لله -تعالى-؛ نقل النووي عن القاضي عياض قوله: "وَالْحُبُّ فِي اللَّه مِنْ ثَمَرَات حُبّ اللَّه".
ونقل النووي في حكم المحبة في الله عن مالك وغيره قولهم: "الْمَحَبَّة فِي اللَّه مِنْ وَاجِبَات الْإِسْلَام".
أيها المسلم: محبتك في الله لعباد الله، للمؤمنين، لأهل الخير والصلاح، للقائمين على أمر هذا الدين، هي دليل على محبتك الصادقة لله أولا؛ قال ربنا -سبحانه-: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ)[البقرة: 165].
فأنت حينما تحبّ الله -سبحانه- سوف تحبّ من يحبّهم الله.
أيها المسلم: المحبة في الله هي من أوثق عُرى الإيمان، هي دليل على وضوح عقيدتك ودقة موازينك، ففي الحديث الصحيح عن البراء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أوثق عُرى الإيمان: أن تحبّ في الله وتبغض في الله".
وفي رواية: "أوثق عُري الإيمان الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحبّ في الله، والبغض في الله".
أيها المسلم: محبتك لأخيك المسلم في الله دليل على زيادة إيمانك ورسوخ عقيدتك، بل هي الإيمان نفسه، ففي الحديث الصحيح عَنْ أَبِى أُمَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ، فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ".
أيها المؤمنون: يا مَنْ تحبون غيركم في الله، يا من أقمتم هذه العبودية في زمن وهنت فيه قيم الإيمان عند كثير من الناس، يا مَنْ تحرصون على قيم العقيدة والمحبة الخالصة لله -تعالى-، لكم البشرى كل البشرى من ربكم الكريم الذي لأجله أحببتم غيركم من عباد الله المؤمنين.
لقد جعل الله لكم من المنازل والأعطيات، ورفيع الدرجات ما تغبطون عليه حقا، فاستمع لتلك البُشْريات الربانية والنبوية.
نعم -أيها المؤمنون-: لقد كرّم الله -تعالى- تلك الفئة المؤمنة التي تحبّ عباد الله لأجل الله بكرامات جليلة؛ فقد أكرمهم بمحبته له، بل وأوجب الله لهم محبته هذه؛ ففي الحديث الصحيح، عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "قال الله -عز وجل- وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتباذلين فيّ".
ولقد فقه السلف حقيقة المحبة في الله وعظم منزلتها، فحرصوا عليها، وعرفوا حقوقها ففي الحديث الحسن عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً كَانَ عِنْدَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي لأُحِبُّ هَذَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَعْلَمْتَهُ؟" قَالَ: لاَ، قَالَ: "أَعْلِمْهُ" قَالَ: فَلَحِقَهُ، فَقَالَ: "إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ" فَقَالَ: "أَحَبَّكَ الَّذِى أَحْبَبْتَنِي لَهُ".
نعم -أيها المؤمنون- الله يعنيه ذلك المسلم الذي يحبّ مسلما في الله، ويصبح محطّ عناية الله -سبحانه-، بل قد يجعل الله ملائكته تهتم به، وتبلّغه عن الله ما تبلّغه؛ ففي صحيح مسلم: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم-: "أَنَّ رَجُلاً زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ –طريقه- مَلَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ، قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا -تزوره بسببها-؟ قَالَ: لاَ، غَيْرَ أَنِّى أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ -عز وجل-، قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ".
الله أكبر، هنا تظهر قيمة المحبة في الله، ما هي إلا زيارة من شخص إلى شخص آخر، كمئات الزيارات التي يقوم بها الناس فيما بينهم في كل زمان، ولكن ما السّرُّ في أن الله يرسل مَلَكا من ملائكته متمثلا بصورة رجل لينقل له خبر السماء باهتمام الله بهذه الزيارة، وبأن الله في عليائه يحبّ هذا الإنسان؛ إنه سرّ المحبة في الله، سرّ الزيارة لأجل الله، وما أعظم المواقف حينما تكون لأجل الله وفي الله.
قال النووي: فِي هَذَا الْحَدِيث فَضْل الْمَحَبَّة فِي اللَّه -تعالى-، وَأَنَّهَا سَبَب لِحُبِّ اللَّه -تعالى- الْعَبْد، وَفِيهِ فَضِيلَة زِيَارَة الصَّالِحِينَ وَالأصْحَاب.
نعم -أيها المؤمنون-: المحبة في الله سبب لأنْ يَقِيكَ الله -أيها المؤمن- حرّ الشمس المحرقة في أرض المحشر؛ ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلاَلِي؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلِّي".
ومن منا لا يرغب أن يكون في ذلك المكان الكريم، في ظل كريم، فخذ بسببه وحقّقه لتكون من أهله، وكن من أولئك الذين ينطبق عليهم حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- في السبعة الذين يظلهم الله في ظله حينما ذكر منهم: "وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللَّه اِجْتَمَعَا عَلَيْهِ، وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ".
نعم -أيها المؤمنون- الذين يحبّون بعضهم بعضا في الله العظيم -سبحانه-، لهم مجالسهم الخاصّة يوم القيامة؛ ففي الحديث الصحيح، عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول قال الله -عز وجل-: "المتحابون في جلالي لهم منابر من نور، يغبطهم النبيون والشهداء".
هذه هي مكانتكم يا من صحت موازينكم، ويا من جعلتم طاعتكم في الله سببا لألفتكم واجتماعكم وإيثاركم لعضكم بعضا.
أقول قولـي هـذا، وأستـــغفر الله...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
أيها المسلم: اعلم أن من تحبه في هذه الدنيا تحشر معه يوم القيامة، فليقارن ذلك المسلم الذي يحب الفاسدين، ويحب الظالمين، ويحبّ أهل الهواء والشهوات، ويحب أهل الغناء والتمثيل والطرب، ليقارن نفسه مع أولئك الذين صحت عقيدتهم، فأحبوا تلك الفئة من عباد الله المخلصين لله -تعالى-، وأحبوا إخوانهم المسلمين وجيرانهم المسلمين لأجل الله لا غير؛ ففي صحيح مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟" قَالَ: حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ".
وفي صحيح مسلم كذلك عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ".
أيها الإخوة: نحن بحاجة ماسة في زماننا هذا، الزمان الذي غلبت فيه علينا العلاقات البراجماتية، المادية، النفعية، بحاجة لأن نشيع المحبة فيما بيننا التي يكون منطلقها الإيمان والعقيدة، المحبة التي يكون دافعها الصلة بالله -تعالى-، لتحل محل كثير من العلاقات والمحبات التي لا قدر لها بميزان الشرع، وإننا بحاجة كذلك إلى أن نحذر من تلك المحبة التي تربطك بأشخاص لا يرضون الله -تعالى-، مثل محبة الظلمة والطغاة، ومحبة الفسقة والظلمة، ومحبة أصحاب المجون والكفرة، أن هذه المحبة وأمثالها تدمر آخرتك وتجعل محشرك مع محشر المغضوب عليهم والمسخوط عليهم، وتنقص إيمانك وتقسي قلبك وتبعدك عن الله.
فاحرص -أيها المسلم- واحرصي -أيتها المسلمة- أن يكون الأساس والدافع في محبتا لغيرنا مبني على ميزان محبتنا لله -تعالى-، وطاعتهم لربهم -سبحانه وتعالى-.
اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئا يا رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي