الإخلاص

إبراهيم الدويش

عناصر الخطبة

  1. منزلة الإخلاص لله في الأعمال
  2. أقوال وأفعال للسلف تبين إخلاصهم
  3. نتائج غياب الإخلاص من حياتنا
  4. وسائل مُعِينة على تحقيق الإخلاص
  5. من علامات عدم الإخلاص

الحمد لله عالم الخفيات، المطلع على السرائر والنيات، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السموات، أحمده سبحانه أن هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله.

وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له، ﴿أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف:40]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، المبعوث رحمة للناس بشيراً ونذيراً لتطيعوه وتتبعوه لعلكم تفلحون، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه تسليما كثيراً.

أما بعد:

عباد الله: فحديثنا اليوم عن دواء القلوب، وماء الحياة مدار الفلاح كله عليه، أصل من أعظم الأصول، علمه خير علم، وفقهه هو الفقه كله، هو حقيقة الدين، مفتاح دعوة المرسلين، هو قطب القرآن الذي تدور عليه رحاه، فيه رضا الرحمان، وراحة القلوب، ونجاة النفس، وعلو المنزلة في الدنيا والآخرة، هو ركن العمل وأساسه.

والبيت لا يُبْتَنَى إلا بأعمدةٍ *** ولا عماد إذا لم تُبْنَ أركانُ

إنه الإخلاص، وصدق النية: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"، اسمعها أخي! وتأملها، أعدها، كرِّرها: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى".

الله أكبر! -عباد الله- إنه لا قيمة للعمل بدون نية، وليس لك إلا ما نويت، فلنتعلم إذاً النية فإنها أبلغ من العمل، تعلموا النية فإنها تحول العادة إلى عبادة، ولما غابت النية أصبحت العبادة عادةً، وجسداً بلا روح، فمَن منا إذا أدى العبادة حمل همّ قبولها من عدمه؟ قال مالك بن دينار: الخوف على العمل أن لا يقبل أشد من العمل.

فراجع حساباتك، واسأل نفسك، كم هي الأعمال التي مضت؟ وكم منها خلصت وصفت؟ أعمالنا، وأقوالنا، ووظائفنا هل هي خالصة لله أم لغيره حظ فيها؟ أم هي للدنيا؟ كم هي الساعات التي نقضيها كل يوم في وظائفنا؟! كم هي الأعمال التي ننجزها كل يوم؟ كم هي الكلمات التي نتلفظ بها كل يوم؟ ليس لك منها إلا ما نويت، شئت ذلك أم أبيت.

إنك تستطيع -يا عبد الله- أن تجعل حياتك كلها لله، تستطيع أن تجعل ساعات العمل والوظيفة عبادةً تؤجر عليها، تستطيع أن تجعل ابتسامتك وبيعك وشراءك وإطعامك لزوجتك وأولادك صدقة تكتب لك، وتسجل في سجلاتك. قال زبيد بن الحارث: يسرني أن يكون لي في كل شيء نية، حتى في الأكل والنوم .

إنها السعادة الحقة، جنة الدنيا، فلله ما أروع الإخلاص لله في كل شيء، وفي كل صغيرة وكبيرة، ودقيقة وجليلة! قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ(163)﴾ [الأنعام:162-163].

لقد أخلص الأوائل من -سلف هذه الأمة- فكان نومهم وطعامهم وشرابهم عبادة، نرى ذلك بركةً في أعمالهم، ونوراً في أقوالهم، وقبولاً لمصنفاتهم وكلامهم.

سبحان الله! أحياء بأعمالهم وأقوالهم، أموات بأجسادهم، إنه الإخلاص الذي من أجله خلق الإنسان! ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [الملك:2]، قال الفضيل بن عياض: هو أخلصه وأصوبه، قالوا يا أبا علي، ما أخلصة وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، فالخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

فاسأل نفسك يا عبد الله: هل كل عبادة نقوم بها لله وكما جاءت عن رسول الله؟ فإنك تقرأ في كتاب الله: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف:110].

يا عجباً! لمن يعمل لمخلوقين أمثاله ضعفاء! هب أن الناس مدحوك وأثنوا عليك ورفعوك وقالوا فيك وقدموك، فإن لم تكن عند الله كذلك فأنت صعلوك، أنت أعلم الناس بنفسك فلا يغروك.

أيها العقلاء: إنه الرياء، هباء في هباء، ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً ﴾ [الفرقان:23]، فقولوا لمن لم يكن صادقاً لا يتعنى، يقول الله -عز وجل- في الحديث القدسي: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه" كما في صحيح مسلم. وفي رواية ابن ماجه: "فأنا منه برئ وهو للذي أشرك".

لا إله إلا الله! كم نظهر لهم أعمالنا؟ وكم تعجبنا أنفسنا وأقوالنا؟ والله وحده أعلم بسرائرنا وبواطننا، إن الله لا ينظر إلى أجسامنا ولا إلى صورنا ولا إلى أموالنا، ولكن ينظر إلى أعمالنا وقلوبنا، فآهٍ لقلوبنا! وآه لأعمالنا! فإذا كان أول ثلاثة تسعر بهم النار: قارئ القرآن، والمجاهد، والمتصدق بماله، الذين فعلوا ذلك ليقال: فلان قارئ، فلان شجاع، فلان متصدق، ولم تكن أعمالهم خالصةً لله، فكيف بمن دونهم؟ كيف بنا ونحن ننتظر إلى مدح الناس وثنائهم علينا؟.

كيف ونحن نقدم أهواءنا وحظوظنا؟ كيف بنا ونحن نتزين للناس بما ليس عندنا؟ قال الفضيل: كانوا يراؤون بما يعملون، وصاروا اليوم يراءون بما لا يعملون. فإنا لله وإنا إليه راجعون!.

إخوة الإيمان! رياء المرائين صيّر مسجد الضرار مزبلة وخربة :﴿لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً﴾ [التوبة:108]، وإخلاص المخلصين رفع قدر التفث والشعث: "رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره".

قلب مَن ترائيه بيد من أعرضت عنه، ليصرفه عنك إلى غيرك، فلا على ثواب المخلصين حصلت، ولا إلى ما قصدته بالرياء وصلت، وفات الأجر والمدح، فلا هذا ولا هذا، وقل للواقفين بغير باب الله: يا طول هوانكم! وقل المؤملين لغير فضل الله: يا خيبة آمالكم! وقل للعاملين لغير وجه الله: يا ضيعة أعمالكم!الأسباب كلها منقطعة إلا أسبابه، والأبواب كلها مغلقة إلا أبوابه.

لا إله إلا الله! كم بذل نفسه مراء ليمدحه الخلق، فذهبت نفسه فانقلب المدح ذماً، ولو بذلها لله بقيت ما بقي الدهر.

اعلم -أخي- أن رضا الناس غير مقدور، وتحصيله غير مطلوب، ومن ذا الذي يقدر على إرضاء الناس؟ ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام:116]، فاركن إلى الواحد الجبار، واحرص على رضا العزيز الغفار، وإياك إياك أن تلتفت لأهل الأطمار!.

أيسرك -أخي- يوم القيامة أن يقال لك: اذهب فخذ أجرك ممن عملت له، لا أجر لك عندنا. نعم! (فــــــ) العمل صورة، والإخلاص روح، فإذا لم تخلص فلا تتعب، فشجرة الإخلاص أصلها ثابت لا يضرها زعازع، وأما شجرة الرياء فإنها تجتث عند نسمة، من كان يعبد شيئاً فليتبعه.

سأل رجل شقيق بن إبراهيم: إن الناس يسمونني صالحاً، فكيف أعلم أني صالح أو غير صالح؟! فقال شقيق: أظهر سرك عند الصالحين، فإن رضوا به فاعلم أنك صالح وإلا فلا.

وكان محمد بن يوسف الأصبهاني لا يشتري زاده من خباز واحد، ويقول: لعلهم يعرفونني فيحابونني، فأكون ممن يعيش بدينه…

وقالت سرية الربيع بن خيثم: كان عمل الربيع كله سراً، إن كان ليجيء الرجل، وقد نشر المصحف، فيغطيه بثوبه. وكان إبراهيم النخعي، الإمام الفقيه، إذا قرأ في المصحف فدخل داخلٌ غطاه. و كان يقول: تكلمتُ، ولو وجدت بُدَّاً ما تكلمت، فإن زمانا أكون فيه فقيه الكوفة لزمان سوء. وقال الشافعي: وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم على ألا ينسب إليَّ منه شيئاً.

وكان ابن المبارك -رحمه الله- يلثم وجهه بكمه عند الغزو، قال عبدة بن سليمان: كنا في سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم فصادفنا العدو، فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعى إلى البراز فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه فقتله، فازدحم الناس عليه، وكنت فيمن ازدحم عليه فإذا ملثم وجهه بكمه فأخذت بطرف كمه فمددته فإذا هو عبد الله بن المبارك، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا-أي يفضحنا-؟.

ودخل ابن محيريز حانوتاً بـدانق وهو يريد أن يشتري ثوباً، فقال رجل لصاحب الحانوت: هذا ابن محيريز فأحسِنْ بيعه، فغضب ابن محيريز وخرج، وقال: إنما نشتري بأموالنا، لسنا نشتري بديننا.

وقال خلف بن تميم: رأيت الثوري بـمكة، وقد كثروا عليه، فقال: إنا لله! أخاف أن يكون الله قد ضيع هذه الأمة حيث احتيج إلى مثلي. وقال الإمام أحمد: كان سفيان الثوري إذا قيل له: رؤي في المنام، يقول: أنا أعرف بنفسي من أصحاب المنامات. وقال له رجل: رأيت كأنك في الجنة، فقال له: ويحك! أما وجد الشيطان أحداً يسخر به غيري وغيرك؟.

وقال الحسن البصري: إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها، فإذا خشي أن تسبقه قام. وحسان بن أبي سنان، تقول عنه زوجته: كان يجيء فيدخل في فراشي ثم يخادعني كما تخادع المرأة صبيها، فإذا علم أني نمت سل نفسه فخرج، ثم يقوم فيصلي. وهذا زين العابدين علي بن الحسين كان يحمل جرابَ الخبز على ظهره في آخر الليل فيتصدق به ويقول: "إن صدقة السر تطفىء غضب الرب -عز وجل-". وكان أهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين.

وعمرو بن قيس الملائي أقام عشرين سنةً صائماً ما يعلم به أهله، يأخذ غداءه ويغدو إلى الحانوت فيتصدق بغدائه، ويصوم وأهله لا يدرون، وكان إذا حضرته الرقة -أي: البكاء- يحول وجهه إلى الحائط، ويقول لجلسائه: هذا الزكام.  

بِدَمِ المـــُحِبِّ يُبَاعُ وَصْلُهُمُ *** فَمَنِ الَّذِي يبتاعُ بالثَّمَنِ؟

إنه الإخلاص لله ياعباد الله! وقال سبحانه -عز وجل-: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة:5]، ويقول -عز وجل-: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الزمر:11-15]. نعوذ بالله من الخسران!.

إنه الإخلاص لله، هو معيار الأعمال الدقيق، ومقياسها الصادق الذي يميز طيبها من خبيثها، وصحيحها من فاسدها، ومقبولها من مردودها، ونافعها من ضارها: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ﴾ [الزمر:65].

ولما غاب الإخلاص في حياة الكثير من الناس اليوم، ظهر الشرك والرياء والمراءاة والشهرة، بل الغش والخداع والاحتيال والكذب، والتزلف والتلون، والعجب والكبر، والغرور والمداهنة والنفاق، نعوذ بالله من سيئ الأخلاق.

وفي الإخلاص شفاء لأدواء القلوب من حقد وحسد وخلاف وشحناء، فقلب ذاق الإخلاص لا يعرف الغل، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم، وذكر منها: "إخلاص العمل لله".

إخوة الإيمان: رجلان أحدهما بجوار الأخر بعضهما، يصليان صلاة واحدة، وخلف إمام واحد، وبينهما كما بين الأرض والسماء. فلا إله إلا الله! كم من عمل صغير تكبّره النية! وكم تبلغ مجرد النية بأصحابها ولو لم يعملوا! في الحديث المتفق عليه: "إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، حبسهم المرض"، وفي رواية: "إلا شركوكم في الأجر".

وقال أيضا: مَن أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عيناه حتى أصبح كتب له ما نوى، وكان نومه صدَقَةً عليه من ربه -عز وجل-.

نعم؛ فلم يسبق من سبق بكثرة صلاة ولا صيام، وإنما بشيء وقر في قلوبهم، فلنفتش عنه في قلوبنا لنذوق طعم السعادة، لندخل جنة الدنيا، فإن في الدنيا جنةً من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد ان نبينا محمد عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: عباد الله: فكم نغفل عن أعمال القلوب وهي الأصل وأعمال الجوارح تبع ومكملة، وإن النية بمنزلة الروح والعمل بمنزلة الجسد من الأعضاء الذي إذا فارق الروح فمَوَات، فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح، وهل يميّز المؤمن من المنافق إلا بما في قلب كل منهما؟ إنه الإخلاص! رفع الله به قوما ووضع بتركه أخرين، فأخلِص الأعمال لله، واصدق في الأقوال من أجل الله.

واعلم أن من أعظم الوسائل المعنية على تحقيق الإخلاص: أولا: أن تعرف: ما الإخلاص؟ وكيف تصل إلى شيء لا تعرفه؟ فكم نتحدث عن الإخلاص، ونسأل الله الإخلاص، ونحن قد لا نعرف مفهوم الإخلاص!.

فالاخلاص: أن يكون العمل لله لا ترى فيه نفسك ولا حظوظها، ولا ترى فيه الخلق. وقيل: الإخلاص هو الخلاص عن رؤية الأشخاص.

وعلامته استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن، فقد قيل ليوسف بن الحسين الرازي: ما علامة الإخلاص؟ قال: إذا لم يكن في عملك محبة حمد المخلوقين ولا مخافة ذمهم فأنت مخلص إن شاء الله.

وأما الرياء فهو أن يكون ظاهره خيرا من باطنه، أما إذا كان الباطن أعمر من الظاهر فهذا صدق الإخلاص، نسأل الله الكريم من فضله أن يرزقنا صدق الإخلاص، فاحفظ هذه العلامات فإنه ميزان تزن فيه نفسك.

ولقد كان الكثير من السلف يخاف على نفسه من النفاق، قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كلهم يخافوا النفاق على نفسه.

وليس معنى هذا أن تعذب نفسك بكثرة الوساوس والهواجس، وهل أنت مخلص أم مراءٍ؟ فتنبه! فإن الافراط في هذا الباب فيه مداخل للشيطان، كم ذلت به الأقدام، واختلطت فيه الأفهام، وهلك فيه أقوام!.

قال النووي -رحمه الله-: ولو فتح الإنسان عليه باب ملاحظة الناس والاحتراز من ظنونهم الباطلة لانسد عليه أكثر أبواب الخير، وضيع على نفسه شيئا عظيما من مهمات الدين، وليس هذا طريق العارفين.

إذن فليس علاج الرياء ترك العمل، وإنما تصحيح النية، وزيادة العمل، فتنبه!.

ثانيا: معرفة الله وعظمته وقدرته وفضله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [النور:21]، فهل ينظر للخلق من عرف الله بحق؟.

ثالثا: معرفة النفس، وأنها جاهلة ظالمة طبعها الكسل وحب الشهوات، وحب التصدر والظهور، فرحم الله رجلا لم يغره كثرة ما يرى من الناس، ابن آدم! إنك تموت وحدك، وتدخل القبر وحدك، وتُبعث وحدك، وتحاسب وحدك.

فلا يغرك الناس! فأنت أعلم الناس بنفسك فجاهدها، واعرف عيوبها وتقصيرها، واتهمها على الدوام، فآفة العبد رضاه عن نفسه. وقد قيل: مَن شهد في إخلاصه الاخلاص، احتاج إخلاصه إلى إخلاص!.

وقيل لسهل: أي شيء أشد على النفس؟ فقال: الاخلاص؛ فإنه ليس لها فيه نصيب. وقال يوسف بن الحسين: أعز شيء في الدنيا الاخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي فكأنه ينبت على لون آخر. وقال الثوري: ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي! إنها تتقلب علي.

وعلى كل؛ مَن أخلص في مجاهدة النفس تجد عجبا! فإن الله تعالى يقول: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت:69].

رابعا: اعلم أنك عبد محض، والعبد لا يستحق على خدمته لسيده عوضا ولا أجرا، إذ هو يخدمه بمقتضى عبوديته، فما يناله من سيده من الأجر والثواب تفضل منه وإحسان إليه وإنعام عليه، لا معاوضة ولا مقايضة، فكل خير في العبد هو من فضل الله ومنته وإحسانه ونعمته عليه، فهل للعبد أن يرى عمله بعد هذا؟!.

خامسا: أكثر من الاستعانة بالله، وألح عليه بالدعاء أن يرزقك الاخلاص قبل العمل وأثناء العمل وبعد العمل، واستعذ بالله من شر نفسك ومن الرياء، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أيها الناس، اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل"، فقال له من شاء الله أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: "قولوا اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه".

وإليك أمور يجب التنبه لها: منها: أن إخفاء الأعمال علامة الإخلاص، لكنه ليس شركاً للإخلاص، المهم ألا تقصد نظر الناس إليك ولا يهمك قولهم فيك، فالإخلاص استواء الظاهر والباطن كما تقدم، وبالمقابل فإنه ليس من الرياء نشاط العبد للخير عند مجالسة الصالحين، فمجالستهم تبعث على النشاط وعلو الهمة، لكن اجعل عملك لله وليس لهم وإن كانوا سببا في تشجيعك للعمل.

ومنها أن ثناء الناس ومدحهم لا ينافي الإخلاص، بل يكون عاجل بشرى المؤمن، كما قال عليه الصلاة والسلام لما سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه: "تلك عاجل بشرى المؤمن"، لكن؛ إياك ثم إياك أن يكون عملك طلبا للثناء او انتظار محمدة أو جاه لدى المخلوقين، أو تغتر وتنخدع بثناء الناس عليك! فالمخلص يفر من الشهرة، ولكن الله يضع له القبول في الأرض فيسر العبد بفضل الله، وأما المرائي فيركب الصعب والذلول ليحظى بالقبول، لكن هيهات هيهات!.

ومنها: أنه ليس معنى الإخلاص أنك لا تذنب ولا تخطئ، فـ "كل ابن أدم خطاء وخير الخطائين التوابون" مَن ذا الذي ما ساء قطّْ؟ *** ومَن له الحسنى فقط؟

ولكن أن يستوي الظاهر والباطن وتجاهد نفسك وتُرضي الله فيكون لك عمل صالح في السر كما كان لك عمل سيء في السر، وأن تتوب وتستغفر سراً كما أذنبت وعصيت سراً، وأن تكتم حسناتك كما تكتم سيئاتك، كل ذلك يقود إلى إصلاح النية، وتقويم الطوية.

والمصيبة كل المصيبة أن تظهر الخير وتبطل الشر، ومصيبة المصائب فيمن يظهر الشر ويجاهر بالمعصية ويمتنع عن الخير بحجة الهروب من النفاق، كمن يعمل السوء ويحلق لحيته حتى لا يظن الناس فيه خيرا فيكون منافقا زعم! وهذا من الفقه الذي فتح به إبليس على المفاليس؛ فإن كتمان الذنوب أمر مطلوب، و"كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه".

ومن علامات عدم الإخلاص أن يميل حيث مال هواه، وان يتشبث بالمنصب والرئاسة، وأن يستعبده الدرهم والدينار؛ قال ابن القيم -رحمه الله-: وقد جرت عاده الله التي لا تبدل وسنته التي لا تحول أن يلبس المخلص من المهابة والنور والمحبة في قلوب الخلق وإقبال قلوبهم اليه ماهو بحسب إخلاصه ونيته ومعاملته لربه، ويلبس المرائى اللابس ثوبي الزور من المقت والبغضاء.

والمؤمن جمع بين الاحسان وبين سوء الظن بالنفس، والمغرور من جمع بين الاساءة وبين حسن الظن بالنفس، ولا يجتمع الإخلاص والغرور، فالغرور قتّال، وكذا حب الشهرة والظهور فهو يقصم الظهور.

ايها المسلمون: الاخلاص هو ميزان أعمال القلوب التي لا يطلع عليها الا علام الغيوبـ ويقابله الشرك الأصغر او الأكبر، والمتابعة هي ميزان أقوال اللسان وأعمال الجوارح الظاهرة، ويقابلها المعصية او البدعة، والناس شهداء الله في أرضه، وإنما يشهدون للانسان أو عليه بما يرون من أعماله ويسمعون من أقواله، والغالب أنهم لا تتفق شهادتهم وثناؤهم للإنسان أو عليه -خاصة بعد موته- إلا وهو كذلك.

وفي الحديث؛ عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: مُرّ بجنازة فأثنى عليها خيرا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-" "وجبت، وجبت، وجبت"، ومر بجنازة فأثنى عليها شرا فقال نبي الله -صلى الله عليه وسلم-: "وجبت، وجبت، وجبت"، قال عمر" فدى لك أبي وأمي! مر بجنازة فأثني عليها خيرا فقلتَ وجبت وجبت وجبت، ومر بجنازة فأثني عليها شراً فقلت وجبت وجبت وجبت، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض".

وفي رواية للحاكم: "إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر".

فاتقوا الله عباد الله، ولازموا الإخلاص لربكم، والمتابعة لنبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم- في أقوالكم وأعمالكم ونيتكم، وكل عمل أو قول مما شرع الله لا يراد به وجه الله فهو باطل ولا ثواب عليه في الآخرة… ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(16)﴾ [هود:15-16].

ويقول تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا(19)﴾ [الإسراء:18-19].

ويقول جل ثناؤه: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾ [الشورى:20].

فاتقوا الله -عباد الله-، وأخلصوا كل عملكم لله، ولْتكن على وفق سنة عبده ورسوله ومصطفاه، إن ذلك هو سر الفوز والنجاح، ومكمن التقدم والفلاح، واعلموا ان الله مطّلع على سرائركم، وعالم بما أكنَّته ضمائركم، يعمل خائنة الأعين وما تخفي الصدور: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة:281].

اللهم تقبل منا سائر أعمالنا، وارحم اللهم ضعفنا وغفلتنا وتقصيرنا، وألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، واسلك بنا طريق نبينا، واحشرنا في زمرته، برحمتك يا أرحم الراحمين.

 


تم تحميل المحتوى من موقع