إن العلمانية التي ولدت وترعرعت في أحضان الجاهلية لهي كفر بواح لا خفاء فيه ولا ريب فيه ولا التباس، ولكن الخفاء والريب والالتباس إنما يحدث عمداً من دعاة العلمانية أنفسهم؛ لأنهم يعلمون أنه لا حياة ولا اهتداء بجاهليتهم في بلاد المسلمين إلا من خلال هذا التخفي والتلبيس على جماهير المسلمين، وذلك من خلال راياتهم الزائفة، التي تخفي حقيقة أمرهم وباطن دعوتهم عن المسلمين، وتلبس على العامة أمر دينهم وعقيدتهم، بل وتحفزهم ضد إخوانهم الصادقين الداعين بحقيقة هذا الصراع...
أيها المسلمون: لقد أنزل الله الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون، وأرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ففتح به أعينا عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وبدد بدعوته ظلمات الجهل والحماقة، وأسقط الأغلال التي كانت على العقول، حتى أمسى شرك الجاهلية وضلالها أسطورة غابرة، وأصبحت عبادة الأصنام في ميزان المسلم إفكاً قديماً، ويعجب المسلم فيما يعجب من سخف المشركين، وصدق الله تعالى إذ يقول: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ) [الكهف: 17].
عباد الله: غير أنه يجب أن نذكر دائماً أن الابتلاء مستمر، ومادة الشر باقية، وشياطين الإنس والجن مستمرون في ترويج الضلال حتى زخرفوه بكل صلة، وروجوا له بكل لسان (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) [الأنعام: 112].
ومن الواجب أن نتتبع طرق الغي بالتحذير منها، وكشف مراميها وأبعادها، وسد السبل على دعاتها، حتى يكون المسلمون على بينة من ربهم، وبصيرة من سبيلهم، ولا يضرهم انتحال المبطلين أو كيد الحاقدين.
ولقد شاعت في دنيا المسلمين اليوم فلسفات وأنظمة خدعت الكثيرين منا ببريقها، وانتشرت شعارات ومصطلحات أسرت عقول البعض واستحوذت على الأفكار، أرى ذلك كله داء دوي ونار لو قدر لها أن تنتشر لم تأت على شيء إلا جعلته كالرميم.
ومن تلك الأفكار الفكر الصليبي اللاديني، وهو ما يسمى بالعلمانية، التي تسربت إلى مجتمعات المسلمين.
ولعل أحد التحديات الخطيرة التي تواجه أهل السنة والجماعة في هذا العصر هي إسقاط اللافتات الزائفة، وكشف المقولات الغامضة وفضح الشعارات الملبسة، التي تتخفى وراءها العلمانية، التي تبث سمومها في عقول وقلوب أبناء هذه الأمة.
لذا فإني سأميط اللثام عن وجه هذه النحلة الضالة المضلة: فالعلمانية مدلولها الصحيح هو إقامة الحياة على غير دين؛ سواء بالنسبة للأمة أو للفرد. إن هذه العلمانية لهي أكبر نقيض للتوحيد الذي هو أعظم حقيقة في التصور الإسلامي.
عباد الله: قال ابن تيميه في (رسالة العبودية): "إن الإنسان على مفترق طريقين لا ثالث لهما: فإما أن يختار العبودية لله، وإما أن يرفض هذه العبودية، ليصبح لا محالة في عبودية لغير الله وكل عبودية لغير الله، كبرت أو صغرت، هي في نهايتها عبادة للشيطان". قال تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) [يس: 60، 61]. يشمل ذلك العرب الذين قال الله فيهم: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا) [النساء: 117] ويشمل كذلك كل عبادة لغير الله على مدار التاريخ.
ولقد تغيرت بعض العبادة فلم يعد هناك تلك الأوثان التي كان العرب في شركهم يعبدونها، ولكن عبادة الشيطان ذاتها لم تتغير، وحلت محل الأوثان القديمة أوثان أخرى؛ كالحزب والقومية والعلمانية والحرية الشخصية والجنس وغيرها. وعشرات الأوثان الجديدة, إنها عبادة الشيطان والطاغوت، وهذا مناف لشهادة أن لا إله إلا الله, فمعنى (لا إله إلا الله): الكفر بالطاغوت والإيمان بالله.
وبناء على هذا يمكن أن نعرف حكم الإسلام في العلمانية، فنقول: إن العلمانية نظام طاغوتي جاهلي كافر، يتنافى ويتعارض تماماً مع (لا إله إلا الله) من ناحتين أساسيتين متلازمتين:
أولا: من ناحية كونها حكماً بغير ما أنزل الله.
وثانياً: كونها شركاً في عبادة الله.
عباد الله: إن العلمانية تعني بداهة: الحكم بغير ما أنزل الله، وتحكيم غير ما أنزل الله، وتحكيم غير شريعة الله، وقبول الحكم والتشريع والطاعة والاتباع من الطواغيت من دون الله, فهذا معنى قيام الحياة على غير دين. قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة: 44].
عباد الله: والجاهلية أنواع علينا أن نعلمها:
فبعض الجاهلية يتمثل في الإلحاد بالله -سبحانه وتعالى-، وإنكار وجوده فهي جاهلية اعتقاد وتصور كجاهلية الشيوعيين.
وبعضها يتمثل في اعتراف مشوه بوجود الله سبحانه، وانحراف في الشعائر التعبدية، وهي جاهلية الاتباع والطاعة كجاهلية اليهود و النصارى.
وبعضها يتمثل في اعتراف بوجود الله سبحانه، وأداء للشعائر التعبدية، مع انحرف خطير في تصور دلالة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومع شرك كامل في الاتباع والطاعة، وذلك كجاهلية من يسمون أنفسهم مسلمين من العلمانيين، ويظنون أنهم أسلموا واكتسبوا صفة الإسلام وحققوه بمجرد نطقهم بالشهادتين وأدائهم للشعائر التعبدية، وكلها جاهلية.
عباد الله: والعلمانية تجعل العقيدة والشعائر لله وفق أمره، وتجعل الشريعة والتعامل مع غير الله وفق أمر غيره، وهذا هو الشرك في حقيقته وأصله؛ لأن أهل الجاهلية الأولى لم ينكروا وجود الله؛ قال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) [لقمان: 25], وكذلك لدى أصحاب الجاهلية الأولى بعض الشعائر التعبدية قال تعالى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا ) [الأنعام: 136]
عباد الله: ولكن مع ذلك بماذا حكم الله على هذا المجتمع؟!
لقد حكم عليه بأن ذلك كفر وجاهلية، وعد تلك الأمور جميعها صفراً في ميزان الإسلام. ولذلك نشبت المعركة الطويلة بينهم وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واشتد النزاع بمعركة شرسة ونزاع حاد، حتى إن السيف كان الحكم الأخير، موضوع هذه المعركة العنيفة الطويلة لم يكن سوى كلمة واحدة، هي كلمة لا إله إلا الله، كلمة يصر عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أقصى حد، وترفضها الجاهلية إلى أبعد حد؛ لأنه منذ اللحظة الأولى حين دعاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى شهادة أن لا إله إلا الله كان الجواب الفوري: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) [ص: 5] فالقضية واضحة في أذهانهم أن الالتزام بهذه الكلمة معناه الرفض الجازم والتخلي الكامل عن كل ما عدا الله من معبوداتهم وطواغيتهم المختلفة، طاغوت الأوثان، وطاغوت الزعامة، وطاغوت القبيلة، وطاغوت الكهانة، وطاغوت التقاليد، والاستسلام الكامل لله، ورد الأمر والحكم، جليله وحقيره، كبيره وصغيره، إلى الله وحده لا شريك له.
عباد الله: وكذلك فإن بيننا اليوم ممن يقولون: إنهم مسلمون من يستنكرون وجود صلة بين العقيدة والأخلاق، وبخاصة أخلاق المعاملات المادية!!
وبيننا اليوم حاصلون على الشهادات العليا من بعض جامعات العالم يتساءلون أولاً في استنكار: ما للإسلام وسلوكنا الاجتماعي؟! وما للإسلام واختلاط النساء مع الرجال على الشواطئ والمنتزهات؟! وما للإسلام وزي المرأة في الطريق؟! وما للإسلام والمرأة وقيادتها للسيارة واختلاطها بالرجال وحريتها الشخصية في سفرها بدون محرم وتصرفها في شؤونها؟! وهذه دعوى إلحادية؛ لأنها رد لما جاء في كتاب الله من قوامة الرجل على المرأة.
وهناك من يتساءل: ما للإسلام وتصريف الطاقة الجنسية بأي سبيل سواء بالزنى أو غيره، عياذاً بالله؟! وما للإسلام وهذا الذي يفعله المتحضرون؟! فأي فرق بين هؤلاء وبين سؤال أهل الكفر في زمن نبي الله شعيب: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ) [هود: 87].
وهم يتساءلون ثانياً، بل ينكرون بشدة وعنف أن يتدخل الدين في الاقتصاد، وأن تتصل المعاملات بالاعتقاد، أو حتى بالأخلاق من غير اعتقاد، ويقولون: ما للدين والمعاملات الربوية؟! وما للدين والمهارة في الغش والسرقة ما لم يقعا تحت طائلة القانون الوضعي؟! وما للدين والسياسة والحكم؟! بل إنهم يتبجحون بأن الأخلاق إذا تدخلت في الاقتصاد تفسده.
فلا يذهبن بنا الترفع كثيراً على أهل مدين في تلك الجاهلية الأولى، والعالم اليوم في جاهلية أشد جهالة، ولكنها تدعي العلم والمعرفة والحضارة، وتتهم الذين يربطون بين العقيدة وسلوك الشخص في الحياة والمعاملات المادية؛ تتهمهم بالرجعية والتعصب والجمود، وبعد أن استهلكت هذه الألفاظ؛ أضافت الجاهلية اليوم وصفهم بالتطرف!!.
أليس هذا هو بعينه ما يريده رافعوا شعار: الدين لله والوطن للجميع من أدعياء الإسلام من العلمانيين الذين أفسدوا البلاد والعباد؟ قاتلهم الله أنى يؤفكون.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها المسلمون: إن من عادة المنافقين من علمانيين وحداثيين وغيرهم من المنتسبين لهذا الدين عدم الإنكار الصريح والواضح، وعدم إظهار العداء الساخر للإسلام، وهم يتخذون سلاح التلبيس والتمويه للالتفاف حول المسلمين لحين المعركة الفاصلة، حتى يفاجئوا المسلمين على حين غرة.
من أجل ذلك يرفع هؤلاء الزنادقة من العلمانيين وأشباههم شعارات يحاولون بها خداع أكبر عدد ممكن من المسلمين، وتهدئة نفوس القلة التي قد تفضحهم وتشوش عليهم وتكشفهم للناس، هؤلاء الذين يرفعون شعارات العلمانية، بينما يسعون بواقعهم العملي لاقتلاع الإسلام من جذوره، ولكن رويداً, لذلك فهم يحرصون على كل طريق يوصل لوسائل الإعلام.
عباد الله: إن العلمانية التي ولدت وترعرعت في أحضان الجاهلية لهي كفر بواح لا خفاء فيه ولا ريب فيه ولا التباس، ولكن الخفاء والريب والالتباس إنما يحدث عمداً من دعاة العلمانية أنفسهم؛ لأنهم يعلمون أنه لا حياة ولا اهتداء بجاهليتهم في بلاد المسلمين إلا من خلال هذا التخفي والتلبيس على جماهير المسلمين، وذلك من خلال راياتهم الزائفة، التي تخفي حقيقة أمرهم وباطن دعوتهم عن المسلمين، وتلبس على العامة أمر دينهم وعقيدتهم، بل وتحفزهم ضد إخوانهم الصادقين الداعين بحقيقة هذا الصراع، المنبهين إلى خطرهم الداهم على الدين وأهله.
عباد الله: إن المعارك والجبهات التي تفتحها الفرق الضالة والمنتسبة لهذا الدين ضد أهل السنة والجماعة، وأخطرها دائماً جبهة الرفض الباطنية، والتي تغذيها وتدعمها القوى والمعسكرات الجاهلية العالمية لتدمير أهل السنة والجماعة؛ باعتبارهم الخطر الحقيقي والفعال ضد هذه القوى.
أقول: إن هذه المعارك وهذه القوى يجب ألا يتساهل و لا يتهاون معها أهل السنة والجماعـة،
إن حصونهم لازالت مهددة من داخلها، وإن القوى العلمانية المتكتلة ضدهم من الداخل، والتي تصارعهم في معارك خفية حيناً وظاهرة أحياناً أخرى، هي التي تمثل الآن جوهر الصراع القائم بين الإسلام والجاهلية في العصر الحديث.
و إن أخطر مراحل هذا الصراع هي مرحلة تعرية هذه القوى العلمانية القبيحة، وفضحها أمام المسلمين؛ ليستبين لكل مسلم سبيل المجرمين, الذين يحاولون خداعهم وتلبيس أمر دينهم عليهم وهم لا يعلمون.
أما آن لأهل السنة والجماعة أن ينتبهوا لهذه الأخطار المحيطة بهم في الداخل والخارج والتي تهددهم في دنياهم وآخرتهم؟!.
أما آن لهم أو لكثير منهم أن يتخلوا عن معاركهم القديمة وخلافاتهم الجانبية والشكلية ليفرغوا طاقاتهم ويركزوا جهودهم لمواجهة هذه التحديات؟!.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90] فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي