عباد الله: أن الحلم يحتاج إليه رب الأسرة في منزله، والتاجر في محل تجارته، والعالم في مجلس علمه، والمعلم داخل فصله مع طلابه، والقاضي في محكمته، والرئيس في سياسة رعيته، بل يحتاج إليه كل إنسان ما دام الإنسان مدنيَّاً بالطبع، ولا يمكنه أن يعتزل الناس جملة، ويعيش في وحدة مطلقة. وإن تقارب الأرواح، وتآلف القلوب، وتوطيد الأخوة، والعفو والتسامح بين الناس ثمرة عظيمة من...
الحمدُ لله خلَق الإنسانَ ولم يكن شيئًا مَذكورًا، وصوَّره فأحسَن صورتَه فجعله سميعًا بصيرًا،
وأرسَل إليه رسلَه وأقام عليه حجَّته وهداه السبيلَ إمَّا شَاكرًا وإمّا كفورًا، أحمَده سبحانه وأشكره شكرَ من لم يرجُ من غيرِه جزاءً ولا شكورًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له إنّه كان حليمًا غفورًا، وأشهد أنّ سيّدنا ونبينا محمَّدًا عبد الله ورسوله، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، وعبد ربَّه حتى تفطّرت قدماه، فكان عبدًا شكورًا، صلّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آلِه وأصحابه رجالٍ صدقوا ما عاهَدوا الله عليه فكان جزاؤهم موفورًا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان صلاةً وسلامًا وبركات دائمات رَواحًا وبُكورًا.
أما بعد:
عباد الله: نعيش هذا الزمان المتسارعة أحداثه، والكثيرة حوادثه، والمتعددة أخباره، والمتكررة ابتلاءاته، والمرء منا يحتاج إلى ضبط سلوكه، وعدم التسرع والعجلة عند التعامل مع من حوله في مثل هذه الظروف والأحوال.
فالمعلومات والحقائق والأخبار تتغير وتتبدل كل وقت وآخر، خاصة ونحن في زمن الفضائيات والإنترنت والصحف والإذاعات، ووسائل الاتصال والهاتف النقال، فالخبر أو الحادثة تنتشر إلى العالم في لحظات معدودة، ومما لا شك فيه أن هذه الأخبار والمعلومات والحوادث تؤثر في نفسية الإنسان سلباً أو إيجابا، وعليه يحتاج إلى التأني وعدم العجلة والتسرع في تلقي هذه الأمور، إلى جانب أننا بشر ونتعامل مع من حولنا في البيت والشارع والسوق والوظيفة بسلوكياتهم المختلفة، وأخلاقهم المتنوعة، ونفسياتهم الغير متشابهة، بل وظروفهم الغير مستقرة.
فإننا كذلك نحتاج إلى جانب التأني وعدم التسرع في اتخاذ القرارات إلى خلق الحلم والتسامح، وتوجيه السلوكيات.
والحلم هو ضبط النفس عند الغضب، وكفها عن مقابلة الإساءة بمثلها وإلزام هذه النفس حال غضبها بحكم الشرع، وتغليب المصلحة، ابتغاءاً للأجر والمثوبة من الله في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عمران: 133- 134].
والحليم اسم من أسماء الله، وصفة الحلم من صفاته، فكم من الأخطاء والمعاصي والزلات ونكران النعم يرتكبها أبن آدم، ومع ذلك تجد رباً غفوراً حليماً منعماً؛ يتجاوز عن السيئات، ويقبل التوبة ويزيد في الحسنات، ويترك الفرصة تلو الفرصة لعباده، ولا يعاجلهم بالعقوبة؛ كما قال سبحانه: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)[النحل61].
وقال تعالى: (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)[يونس: 11].
عن عبد الرحمن بن جبير -رضي الله عنه- قال: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- شيخ كبير هرم، سقط حاجباه على عينيه، وهو مدعم على عصا -أي: متكئًا على عصا-، حتى قام بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها، لم يترك داجة ولا حاجة إلا أتاها، لو قسمت خطيئته على أهل الأرض لأوبقَتْهم -لأهلكَتْهم- أَلَهُ من توبة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "هل أسلمت؟" قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، قال: "تفعل الخيرات، وتترك السيئات، فيجعلهن الله لك كلهن خيرات" قال: وغدراتي وفجراتي يا رسول الله؟ قال: "نعم، وغدراتك وفجراتك" فقال: الله أكبر، الله أكبر، ثم ادعم على عصاه، فلم يزل يردِّد: الله أكبر، حتى توارى عن الأنظار.[صحَّحه الألباني].
وحلم المولى -سبحانه- ليس بعدم علمه بما يعمل عباده، بل هو العليم الحليم الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور؛ يقول تعالى: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا)[الاحزاب51].
ويقول تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ)[إبراهيم42].
أيها المؤمنون -عباد الله-: إن الحلم خلق الأنبياء وصفة للمؤمنين والأتقياء، وهو سمة وسلوك للعظماء أمر الله به، وحث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليه؛ فقال سبحانه: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199].
وقال تعالى عن عباده: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)[الشوري: 37].
وقال الحسن -رضي الله عنه-: "المؤمن حليم لا يجهل وإن جهل الناس عليه، وتلا قوله تعالى: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان: 63].
وقيل لقيس بن عاصم: "ما الحلم؟ قال: أن تصل من قطعك، وتعطي من حرَمك، وتعفو عمن ظلمك".
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للأشج، أشج عبد القيس: "إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة".
وورد في مسند أبي يعلى أن الأشج قال: يا رسول الله، كانا فيّ أم حدثا؟ قال: بل قديم، قال الأشج: "قلت: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما"[صحيح مسلم بشرح النووي 1: 189].
والحلم وسيلة للفوز برضا الله وجنته، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من كظم غيظًا وهو قادر على أن يُنْفِذَهْ، دعاه الله -عز وجل- على رءوس الخلائق يوم القيامة، يخيره من الحور العين ما شاء"[أبو داود والترمذي].
والحلم دليل على رباطة الجأش، وشجاعة النفس، ودماثة الخلق، ولا يعني الضعف والهوان كما يتصوره كثير من الناس؛ يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب".
وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك".
وانظروا إلى هذا الموقف العجيب الدال على خلق الحلم، وما هي ثماره؛ بينما كان رسول الله مع أصحابه إذ برجل يتخطى الصفوف، حتى وصل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخذ بمجامع قميص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وردائه، ونظر إليه بوجه غليظ، وقال له: "يا محمد ألا تقضيني حقي؟ فو الله ما علمتم بني عبد المطلب إلا مطلاً، ولقد كان لي بمخالطتكم علم".
وكان هذا الرجل هو زيد بن سعنة حبر من أحبار اليهود، وكان رسول الله قد استدان منه الى أجل، وقبل حلول الأجل بيومين جاء زيد الى رسول الله، قال زيد: ونظرت إلى عمر وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير، ثم رماني ببصره، فقال: يا عدو الله: أتقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أسمع؟ وتصنع به ما أرى؟ فو الذي نفسي بيده لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينظر إلي في سكون وتؤدة، فقال: يا عمر أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا؛ أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن اتباعه، اذهب به يا عمر فأعطه حقه، وزده عشرين صاعا من تمر مكان ما رعته، قال زيد: فذهب بي عمر فأعطاني حقي، وزادني عشرين صاعاً من تمر، فقلت: ما هذه الزيادة يا عمر؟ قال: أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أزيدك مكان ما رعتك، قال: وتعرفني يا عمر؟ قال: لا، قلت: أنا زيد بن سعنة، قال: الحبر؟ قلت: الحبر، قال: فما دعاك إلى أن فعلت برسول الله ما فعلت؟ وقلت له ما قلت؟ قلت: يا عمر، لم يكن من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفت في وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، وقد خبرتهما، فأشهدك يا عمر أني قد رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبياً، وأشهدك أن شطر مالي، فإني أكثرها مالا صدقة على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال عمر: أو علي بعضهم فإنك لا تسعهم؟ قلت: أو على بعضهم، فرجع عمر وزيد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وآمن به وصدقه، وبايعه، وشهد معه مشاهد كثيرة ثم توفى في غزوة تبوك مقبلاً غير مدبر رحم الله زيداً. [رواه الطبراني، وابن حبان في صحيحه، والحاكم].
اللهم أهدنا لأحسن الأخلاق، واصرف عنا سيئها برحمتك يا أرحم الراحمين.
قلت قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه...
عباد الله: أن لضعف الحلم وسرعة الغضب آثارا خطيرة على المرء نفسه، وعلى الآخرين؛ من ذلك: الإصابة الجسدية والنفسية بأمراض كثيرة؛ كالسكري والضغط والقولون العصبي، وقرحة المعدة، وغيرها مما يعرفها أهل الاختصاص.
ومن الآثار أيضا: انتشار المشاكل وكثرة الجرائم، فكم من جريمة أزهقت فيها الأرواح وسالت الدماء بسبب العجلة والغضب وعدم الحلم؟ وكم ضاع من خير وأجر وفضل بسبب قلة الحلم وسرعة الغضب؟ وكم حلت من مصيبة ودمار وهلاك بسبب ذلك، وبسبب لحظات غضب قطعت الأرحام، ووقع الطلاق وشرد الأطفال، وتهاجر الجيران، وتعادى الإخوان، وقامت بين الدول الحروب وحل الظلم وسادت الفوضى؟
وإذا كانت الحاجة تدعو إلى الحلم والأناة في كل حال في هذه الحياة الدنيا، فهي في زمن الشدائد والفتن أحرى وأولى، ففيها تطيش العقول، وتضطرب القلوب، وتختل المواقف، ولا يسعف المرء إلا التثبت والأناة والحلم والرفق وإتباع الحق.
فالعجلة والتسرع والغضب المذموم قد يزيد من انتشار الشر، وزيادة المنكر، وذهاب الأمن، وحلول المصائب، وظهور العداوات، وبالتالي يخسر المسلم دينه ودنياه وآخرته بسبب لحظة عابرة، أو موقف تافه، أو سلوك لا يدرك خطورته، ولا يستوعب عواقبه، ولا يقدر نتائجه.
وإذا ما كان هناك من غضب يجب أن يغضبه المسلم فليكن غضبه لحرمات الله التي تنتهك، ولدماء المسلمين التي تسفك، وللمقدسات التي تدنس، ولحال المسلمين وضعفهم وتفرقهم، والظلم الواقع بينهم، وهذا الغضب يقود إلى مقارعة الباطل، والصبر على ذلك، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى التآلف والتراحم، والتنازل عن حظوظ النفس والعمل والبذل والعطاء والتفاؤل بحياة جديدة يسودها الحب والتعاون والأمن والتطور والإنتاج.
عباد الله: أن الحلم يحتاج إليه رب الأسرة في منزله، والتاجر في محل تجارته، والعالم في مجلس علمه، والمعلم داخل فصله مع طلابه، والقاضي في محكمته، والرئيس في سياسة رعيته، بل يحتاج إليه كل إنسان ما دام الإنسان مدنيَّاً بالطبع، ولا يمكنه أن يعتزل الناس جملة، ويعيش في وحدة مطلقة.
وإن تقارب الأرواح وتآلف القلوب وتوطيد الأخوة والعفو والتسامح بين الناس ثمرة عظيمة من ثمار الحلم في المجتمع، قال تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت: 34- 35].
فتخلقوا بالحلم ومارسوه سلوكا في الحياة، واستشعروا ثمرته وفضله في الدنيا والآخرة، وقدروا الأمور، ولا تتسرعوا في الخوض فيما ليس لكم به علم، واحفظوا دمائكم وأعراضكم، وأموالكم؛ تسعدوا في دنياكم وآخرتكم، فرب كلمة بدون وجه حق تورث صاحبه ذلاً، ورب كلمة تورثه عزاً، وكذلك المواقف والسلوكيات والتصرفات، فأحسنوا إن الله يحب المحسنين، ورب حلم في لحظة وصبر يورثك عزاً في الدنيا والآخرة.
اللهم إنا نسألك قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، ورزقا طيبا، وعملا متقبلا، وعلما نافعا، وعافية في البدن، وبركة في العمر والذرية.
اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارض عنا وأرضنا.
اللهم اجعل زادنا التقوى، وزدنا إيمانا ويقينا وفقها وتسليما.
اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر.
اللهم إنا نسألك الفوز بالجنة والنجاة من النار.
اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا دينا إلا قضيته، ولا مريضا إلا شفيته، ولا حاجة إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
هذا وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن سار على هديه إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي