صفحات من حياة عثمان رضي الله عنه

إبراهيم بن صالح العجلان
عناصر الخطبة
  1. بعض فضائل عثمان بن عفان .
  2. من أخلاق عثمان وطباعه .
  3. عثمان والقرآن .
  4. كرم عثمان بن عفان وبذله وسخاؤه .
  5. حياء عثمان بن عفان .
  6. خلافة عثمان بن عفان .
  7. استشهاد عثمان بن عفان .
  8. الدروس المستفادة من حياة عثمان بن عفان .

اقتباس

نقف اليوم، مع خبرِ الغني الشاكر، والحَيِّي الصابر. مع رجل أَلِفَ النَّاسَ وأَلِفوه، وأحبَّ أصحابَه وأحبُّوه.كانت حياتُه حياةٌ للناس، وموتُه فاجعةٌ سوداء، وفتنةٌ دهماء. هو أحدُ العشرةِ المبشَّرين، وخامسُ السابقينَ الأوَّلين، وصاحبُ الهجرتين. فيا لسانُ أسعفنا، ويا بيانُ أدركنا، ويا بنانُ أُرْقُمْ لنا، فماذا...

الْخُطْبَةُ الْأُولَى:

فِي بُسْتَانٍ مِنْ بَسَاتِينِ الْمَدِينَةِ يَجْلِسُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ أُغْلِقَ عَلَيْهِ الْبَابُ، وَبِيَدِهِ عُودٌ يَنْكُثُ بِهِ الْأَرْضَ، وَقَدْ حَظِيَ بِمُرَافَقَتِهِ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ.

فَإِذَا بِبَابِ الْبُسْتَانِ يُطْرَقُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَبِي مُوسَى: "قُمْ فَافْتَحْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ" فَقَامَ أَبُو مُوسَى وَكُلُّهُ شَوْقٌ لِمَعْرِفَةِ مَنْ هُوَ هَذَا الرَّجُلُ الْمُبَشَّرُ بِرَوْحٍ وَرِضْوَانٍ، وَرَبٍّ رَاضٍ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَفَتَحَ الْبَابَ، فَإِذَا هُوَ يَرَى الصِّدِّيقَ أَبَا بَكْرٍ، فَبَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ دَخَلَ، وَأُغْلِقَ الْبَابُ.

ثُمَّ طُرِقَ الْبَابُ مَرَّةً ثَانِيةً، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَبِي مُوسَى: "قُمْ فَافْتَحْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ" فَقَامَ أَبُو مُوسَى تُسَابِقُهُ خُطُوَاتُهُ، يَحْمِلُ هَذِهِ الْبِشَارَةَ الَّتِي تَتَمَنَّاهَا كُلُّ نَفْسٍ، فَفَتَحَ الْبَابَ، فَإِذَا هُوَ أَمَامَ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَبَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَدَخَلَ، وَأُغْلِقَ الْبَابُ.

ثُمَّ طُرِقَ الْبَابُ مَرَّةً ثَالِثَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَبِي مُوسَى: "قُمْ فَافْتَحِ الْبَابَ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ" فَقَامَ أَبُو مُوسَى فَفَتَحَ الْبَابَ، فَبَشَّرَ هَذَا الرَّجُلَ بِالْجَنَّةِ، وَلَكِنْ قَبْلَ ذَلِكَ ابْتِلَاءٌ عَصِيبٌ يُصِيبُهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.

فَيَا تُرَى مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي مَشَى فِي دُنْيَا النَّاسِ، وَهُوَ يَتَيَقَّنُ أَنَّ مُسْتَقَرَّهُ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ.

مَنْ ذَلِكُمُ الرَّجُلُ الَّذِي تَلَقَّى خَبَرَ رَسُولِ اللَّهِ بِالصَّبْرِ وَالِاحْتِسَابِ.

نَقِفُ الْيَوْمَ مَعَ خَبَرِ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، وَالْحَيِّيِ الصَّابِرِ.

مَعَ رَجُلٍ أَلِفَ النَّاسَ وَأَلِفُوهُ، وَأَحَبَّ أَصْحَابَهُ وَأَحَبُّوهُ.

كَانَتْ حَيَاتُهُ حَيَاةً لِلنَّاسِ، وَمَوْتُهُ فَاجِعَةً سَوْدَاءَ، وَفِتْنَةً دَهْمَاءَ.

هُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ، وَخَامِسُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، وَصَاحِبُ الْهِجْرَتَيْنِ.

فَيَا لِسَانُ أَسْعِفْنَا، وَيَا بَيَانُ أَدْرِكْنَا، وَيَا بَنَانُ أَرْقِمْ لَنَا، فَمَاذَا عَسَانَا أَنْ نَأْخُذَ مِنْ سِيرَتِهِ؟ وَمَاذَا نَدَعُ؟

مَاذَا عَسَانَا أَنْ نَقُولَ عَنْ رَجُلٍ خَصَّهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ بَيْنِ النَّاسِ بِثِنْتَيْنِ مِنْ بَنَاتِهِ، وَفَلَذَاتِ كَبِدِهِ، فَكَانَ لَهُ مَعَ نَبِيِّ اللَّهِ أَقْرَبُ نَسَبٍ، وَأَكْرَمُ سَبَبٍ، حَتَّى لُقِّبَ بِذِي النُّورَيْنِ.

لَنْ نَرْفَعَ ابْنَ عَفَّانَ بِذِكْرِنَا لِفَضَائِلِهِ، بِلْ نَحْنُ الَّذِينَ نَرْتَفِعُ إِنْ تَعَلَّمْنَا بَعْضَ مَآثِرِهِ.

وَإِذَا كُنَّا لَنْ نُوَفِّيَ عُثْمَانَ بَعْضَ حَقِّهِ فِي دَقَائِقَ مَعْدُودَاتٍ؛ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ نَمُرَّ عَلَى قَلِيلٍ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ صَفَحَاتِ حَيَاتِهِ الْمُثِيرَةِ؛ فَبِسَيْرِ هَؤُلَاءِ تَزْدَادُ الْأُمَّةُ ثَبَاتًا وَحَزْمًا، وَهُدًى وَعِلْمًا، وَهِمَّةً نَحْوَ الْمَعَالِي، وَعَزْمًا يُزِيلُ الْوَهَنَ وَالتَّوَانِيَ: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف: 176].

أَوَّلُ صَفْحَةٍ نَسْتَعْرِضُهَا فِي حَيَاةِ عُثْمَانَ، هِيَ صَفْحَةُ الْأُلْفَةِ.

فَقَدْ كَانَ ابْنُ عَفَّانَ هَيِّنَ الطَّبْعِ، سَهْلَ الْمُعَاشَرَةِ، تَأْلَفُهُ الْقُلُوبُ، وَتَرْتَاحُ لَهُ النُّفُوسُ.

الْحِلْمُ، وَالْكَرَمُ، وَالْحَيَاءُ، وَالْعِفَّةُ، خِصَالٌ كَرِيمَةٌ، وَأَخْلَاقٌ نَبِيلَةٌ، جَمَعَهَا عُثْمَانُ، فَاجْتَمَعَتْ لَهُ الْقُلُوبُ.

أَحَبَّهُ جِيرَانُهُ وَرُفَقَاؤُهُ، وَأَقَارِبُهُ وَعَشِيرَتُهُ؛ حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تُرَقِّصُ صَبِيَّهَا الصَّغِيرَ، وَتَقُولُ:

أُحِبُّكَ وَالرَّحْمَنْ *** حُبَّ قُرَيْشٍ لِعُثْمَانْ

هَذِهِ الْخِصَالُ الْجَمِيلَةُ جَدِيرَةٌ أَنْ تُبْصِرَ الْحَقَّ، وَتَتَّبِعَ الْهُدَى، وَلِذَا كَانَ ابْنُ عَفَّانَ مِنْ أَوَائِلِ مَنْ عَرَضَ عَلَيْهِمُ الصِّدِّيقُ الْإِسْلَامَ؛ لِأَنَّ شَخْصِيَّتَهُ كَانَتْ سَهْلَةً قَرِيبَةً، فَمَا كَادَ الصِّدِّيقُ يُنْهِي عَرْضَ هَذَا الدِّينِ الْجَدِيدِ حَتَّى امْتَلَأَتْ عَيْنَا عُثْمَانَ مِنْهُ، وَاسْتَرَاحَ لَهُ، وَصَدَّقَ بِهِ، وَشَهِدَ الشَّهَادَتَيْنِ، فَتَحَوَّلَ ابْنُ عَفَّانَ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى خِيَارِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ.

هَذِهِ الْأُلْفَةُ بَقِيتْ مَعَ عُثْمَانَ طُوَالَ حَيَاتِهِ فِي صِغَرِهِ، وَشَبَابِهِ، وَشَيْبَتِهِ، وَكُهُولَتِهِ، حَتَّى بَعْدَ أَنْ تَوَلَّى الْخِلَافَةَ وَهُوَ ابْنُ السَّبْعِينَ، بَقِيَ عَلَى بَسَاطَتِهِ، وَحَيَائِهِ، وَدَمَاثَتِهِ، فَلَمْ يُطْغِهِ الْمَالُ، وَلَمْ تُغَيِّرْهُ الرِّئَاسَةُ، بَلْ كَانَ يَسْمَعُ الْكَلَامَ الْمُؤْذِيَ، وَالْقَوْلَ الْكَاذِبَ فِيهِ، فَلَا يَزِيدُهُ ذَلِكَ إِلَّا صَبْرًا وَحِلْمًا؛ يَقُولُ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-:"لَقَدْ عَابُوا عَلَى عُثْمَانَ أَشْيَاءَ لَوْ فَعَلَهَا عُمَرُ مَا عَابُوهَا عَلَيْهِ".

الصَّفْحَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ حَيَاةِ عُثْمَانَ عُنْوَانُهَا: إِنَّ اللَّهَ لَيَرْفَعُ بِهَذَا الْقُرْآنِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ آخَرِينَ.

سَمِعَ عُثْمَانُ الْقُرْآنَ غَضًّا طَرِيًّا مِنْ فَمِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَشَوَّقَ لِآيَاتِ التَّنْزِيلِ سَمَاعًا، وَحِفْظًا، وَعَمَلًا، فَكَانَ عُثْمَانُ أَحَدَ الصَّحَابَةِ الْقَلَائِلِ الَّذِينَ حَفِظُوا الْقُرْآنَ كَامِلًا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

كَيْفَ لَا وَهُوَ الَّذِي رَوَى لِلْأُمَّةِ حَدِيثَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ".

لَمْ يَلْتَهِ ابْنُ عَفَّانَ بِتِجَارَتِهِ، وَلَا بِخَلَافَتِهِ عَنْ كَلَامِ رَبِّهِ، بَلْ كَانَ لَصِيقَ الْقُرْآنِ، وَنَدِيمَهُ، وَسَهِيرَهُ، وَمِنْ أَقْوَالِهِ الْمَأْثُورَةِ: "لَوْ طَهُرَتْ قُلُوبُكُمْ مَا شَبِعَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ".

وَقَالَ أَيْضًا: "إِنِّي لَأَكْرَهُ أَنْ يَأْتِيَ عَلَيَّ يَوْمٌ لَا أَنْظُرُ فِيهِ فِي الْمُصْحَفِ".

وَكَانَ يَقُولُ: "حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا ثَلَاثٌ: إِشْبَاعُ الْجِيَاعِ، وَكِسْوَةُ الْعُرْيَانِ، وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ".

قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: "مَا مَاتَ عُثْمَانُ حَتَّى خَلِقَ مُصْحَفُهُ مِنْ كَثْرَةِ مَا يُدِيمُ النَّظَرَ فِيهِ".

وَفِي سَاحَةِ الْحَرَمِ أَمَامَ الْكَعْبَةِ، شُوهِدَ عُثْمَانُ يَسْتَفْتِحُ الْقُرْآنَ بَعْدَ الْعِشَاءِ، فَقَامَ بِالْقُرْآنِ كَامِلًا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ.

بَلْ شَهِدَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ يَوْمَ قُتِلَ، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ يُحْيِي اللَّيْلَ بِالْقُرْآنِ فِي رَكْعَةٍ.

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا تَلَا قَوْلَهُ: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) [الزمر: 9] قَالَ: "ذَاكَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ".

وَفِي لَفْظٍ: "نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ".

وَصَفْحَةٌ أُخْرَى مِنْ صَفَحَاتِ عُثْمَانَ؛ تَقُولُ هَذِهِ الصَّفْحَةُ: نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ فِي يَدِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ.

الْحَدِيثُ عَنْ بَذْلِ عُثْمَانَ وَكَرَمِهِ وَسَخَائِهِ يَبْدَأُ وَلَا يَنْتَهِي، سَلُوا عَجَائِزَ مَكَّةَ، وَأَرَامِلَ الْمَدِينَةِ، وَفُقَرَاءَ الصُّفَّةِ، سَلُوا بِئْرَ رُومَهَ، وَجَيْشَ الْعُسْرَةِ، سَلُوا النَّوَازِلَ، سَلُوا الْجُيُوشَ وَالرَّوَاحِلَ، كُلُّ هَؤُلَاءِ وَغَيْرُهَا كَثِيرٌ تَشْهَدُ عَلَى يَمِينِ عُثْمَانَ.

رِجَالٌ كَالسَّنَابِلِ فِي عَطَاءٍ *** يُرَوْنَ وَكَالشُّمُوسِ مُنَوِّرِينَا

قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ الْمَدِينَةَ وَلَيْسَ فِيهَا مَاءٌ يُسْتَعْذَبُ غَيْرُ بِئْرِ رُومَةَ، وَأَرْضُ الْمَدِينَةِ حَرَّةٌ حَارَّةٌ، وَحَاجَةُ النَّاسِ لِلْمَاءِ شَدِيدَةٌ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ" فَيَجْعَلُ دَلْوَهُ عَلَى دِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ، فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانَ.

ضَاقَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَهْلِهِ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ يَشْتَرِي بُقْعَةَ آلِ فُلَانٍ فَيَزِيدُهَا فِي الْمَسْجِدِ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ" فَكَانَ لَهَا عُثْمَانُ.

اسْتَنْفَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النَّاسَ لِغَزْوَةِ تَبُوكَ، فِي وَقْتِ الْحَرِّ، وَالسَّفَرُ بَعِيدٌ، وَالْعَدَدُ كَبِيرٌ، فَحَضَّ وَرَغَّبَ عَلَى النَّفَقَةِ، وَبَعَثَ إِلَى مَكَّةَ وَإِلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ يَسْتَحِثُّهُمْ عَلَى الْبَذْلِ.

وَخَطَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَسْجِدِهِ دَاعِيًا لِلنَّفَقَةِ، فَقَالَ عُثْمَانُ: عَلَيَّ مِائَةُ بَعِيرٍ بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا.

ثُمَّ حَثَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ عُثْمَانُ: عَلَيَّ مِائَةٌ أُخْرَى بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا.

ثُمَّ نَزَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ مِنْبَرِهِ، ثُمَّ صَعِدَ فَحَثَّ عَلَى النَّفَقَةِ، فَقَالَ عُثْمَانُ: عَلَيَّ مِائَةٌ أُخْرَى بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا.

ثُمَّ جَاءَ الرَّجُلُ الْمِعْطَاءُ عُثْمَانُ بِسَبْعِ مِائَةِ أُوقِيَّةٍ، فَصَبَّهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ جَاءَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَمْسِينَ فَرَسًا.

ثُمَّ جَاءَهُ مَرَّةً أُخْرَى بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَنَثَرَهَا فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَهَلَّلُ، وَهُوَ يَقُولُ: "مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ، مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ".

إِنَّهُ –وَاللَّهِ- جُودُ مَنْ يَسْتَعْذِبُ الْإِنْفَاقَ، جُودُ مَنْ قَالَ عَنْ نَفْسِهِ: مَا أَتَتْ عَلَيَّ جُمُعَةٌ إِلَّا وَأَنَا أَعْتِقُ فِيهَا رَقَبَةً مُنْذُ أَسْلَمْتُ.

نَعَمْ، لَقَدْ عَرَفَ ابْنُ عَفَّانَ كَيْفَ يَجْمَعُ الْمَالَ، وَلَكِنَّهُ أَيْضًا عَرَفَ جَيِّدًا كَيْفَ يَجْعَلُ هَذَا الْمَالَ جِسْرًا لِرِضَى مَنْ رَزَقَهُ الْمَالَ.

وَصَفْحَةٌ أُخْرَى مِنْ صَفَحَاتِ حَيَاةِ عُثْمَانَ: إِنَّهَا صَفْحَةُ الْحَيَاءِ.

خُلُقٌ تَمَيَّزَ بِهِ عُثْمَانُ الْخَيْرِ، خُلُقٌ كُلُّهُ خَيْرٌ، وَلَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ.

وَلَئِنْ فَاخَرَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا بِعِفَّةِ عَنْتَرَةَ وَحَيَائِهِ حِينَ قَالَ:

وَأَغُضُّ طَرْفِي إِنْ بَدَتْ لِي جَارَتِي *** حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي مَأْوَاهَا

فَإِنَّ أُمَّةَ الْإِسْلَامِ قَدْ أَنْجَبَتْ عُثْمَانَ الَّذِي كَانَتْ تَسْتَحْيِي مِنْهُ لِشِدَّةِ حَيَائِهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَنِ، بَلَغَ مِنْ حَيَائِهِ أَنَّهُ لَا يَغْتَسِلُ إِلَّا جَالِسًا.

فَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ صَاحِبُ لِوَاءِ الْحَيَاءِ، فَلَمْ وَلَنْ يَأْتِيَ أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يُجَارِي عُثْمَانَ فِي حَيَائِهِ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "أَشَدُّ أُمَّتِي حَيَاءً عُثْمَانُ".

وَفِي لَفْظٍ: "أَصْدَقُ أُمَّتِي حَيَاءً" [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ].

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ...

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

أَمَّا بَعْدُ:

فَيَا إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: وَعَاشَ ابْنُ عَفَّانَ كَرِيمًا حَيِيًّا، حَلِيمًا بَاذِلًا، اخْتَارَهُ النَّاسُ بَعْدَ اسْتِشْهَادِ عُمَرَ، فَحَكَمَ فَعَدَلَ، انْتَشَرَتِ الْفُتُوحَاتُ وَالْإِسْلَامُ فِي خِلَافَتِهِ، وَازْدَادَ رَخَاءُ النَّاسِ وَعَيْشُهُمْ مِنْ حَوَافِزِ الْخَلِيفَةِ الَّتِي كَانَ يُعْطِيهَا لِرَعِيَّتِهِ.

وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، فِي شَطْرِهَا الْأَوَّلِ كَانَتْ سَنَوَاتٍ رَاخِيَةً هَادِئَةً، ثُمَّ تَلَتْهَا سَنَوَاتُ الْفِتْنَةِ وَالتَّأْلِيبِ وَالتَّحْرِيضِ عَلَى الْخَلِيفَةِ، تَوَلَّى كِبْرَهَا ابْنُ السَّوْدَاءِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبَأٍ، تَنَقَّلَ بَيْنَ الْأَمْصَارِ يُؤَلِّبُ وَيُكَذِّبُ وَيَفْتَاتُ عَلَى الْخَلِيفَةِ، فَاجْتَمَعَتْ حَوْلَهُ مُعَارَضَةٌ بَاغِيَةٌ ظَالِمَةٌ، رِسَالَتُهُمْ أَنَّ الْخَلِيفَةَ الْمُنْتَخَبَ لَا يَصْلُحُ لِلْخِلَافَةِ، وَهَدَفُهُمْ إِسْقَاطُ الْخَلِيفَةِ، وَلَوْ بِالْقُوَّةِ.

وَفِي شَهْرِ ذِي الْقَعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ الْخَامِسَةِ وَالثَّلَاثِينَ حَاصَرَتْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ الْمَارِقَةُ عُثْمَانَ وَتَوَعَّدُوهُ بِالْقَتْلِ.

رَوَى سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي الدَّارِ وَهُوَ مَحْصُورٌ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا مُسْتَنْقِعٌ لَوْنُهُ، فَقَالَ: "إِنَّهُمْ لَيَتَوَاعَدُونِي بِالْقَتْلِ آنِفًا" قَالَ: فَقُلْنَا: يَكْفِيَكَهُمُ اللَّهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: وَلِمَ يَقْتُلُونِي؟! وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِيمَانِهِ، أَوْ زَنَا بَعْدَ إِحْصَانِهِ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ، فَوَاللَّهِ مَا زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ قَطُّ، وَلَا تَمَنَّيْتُ بِدِينِي بَدَلًا مُنْذُ هَدَانِي اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُ، وَلَا قَتَلْتُ نَفْسًا، فَبِمَ يَقْتُلُونِي؟!".

وَفِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ حَيَاتِهِ اسْتَيْقَظَ عُثْمَانُ فِي السَّحَرِ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: إِنَّ الْقَوْمَ يَقْتُلُونَنِي، قُلْتُ: كَلَّا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، قَالَ: فَقَالُوا: إِنَّكَ تُفْطِرُ عِنْدَنَا اللَّيْلَةَ.

فَأَصْبَحَ صَائِمًا، ثُمَّ دَعَا الرَّجُلُ الْحَيِّيُ بِسَرَاوِيلَ فَشَدَّهَا عَلَى عَوْرَتِهِ، حَتَّى لَا يَتَكَشَّفَ إِذَا قُتِلَ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْقُرْآنِ يَتْلُوهُ.

فَجَاءَ أَشْقَى الْمُعَارِضِينَ فَتَسَلَّقُوا دَارَهُ، وَلَمْ يَرْعَوْا حُرْمَةَ الْبَيْتِ، وَلَا تَوْقِيرَ شَيْخٍ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، فَضَرَبَهُ أَحَدُهُمْ، ثُمَّ خَنَقَهُ آخَرُ، ثُمَّ ضُرِبَتْ يَدُهُ بِالسَّيْفِ فَقُطِّعَتْ أَصَابِعُهُ، فَقَالَ عُثْمَانُ لَهُمْ: وَاللَّهِ إِنَّهَا لِأَوَّلُ يَدٍ كَتَبَتْ سُورَةَ الْمُفَصَّلِ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "وَثَبَتَ أَنَّ أَوَّلَ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ سَقَطَتْ عَلَى قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة: 137].

وَحِينَ بَلَغَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ "صَاحِبِ الدَّعْوَةِ الْمُسْتَجَابَةِ" خَبَرُ مَقْتَلِ عُثْمَانَ دَعَا عَلَى مَنْ قَتَلَهُ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ أَنْدِمْهُمْ، ثُمَّ خُذْهُمْ"

وَقَدْ أَقْسَمَ بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّهُ مَا مَاتَ أَحَدٌ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ إِلَّا مَقْتُولًا [رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ].

مَاتَ عُثْمَانُ شَهِيدًا، فَانْفَتَحَتْ عَلَى الْأُمَّةِ بِمَوْتِهِ فِتْنَةٌ، ثُمَّ فِتَنٌ عَظِيمَةٌ، لَمْ يَسْتَطِعِ الصَّحَابَةُ -وَهُمْ مَنْ هُمْ فِي الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ وَالْحِكْمَةِ- أَنْ يُسَكِّنُوا تِلْكَ الْفِتَنَ الْمُدْلَهِمَّةَ.

قَالَ أَسْتَاذُ الْفِتَنِ وَخَبِيرُهَا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ: "أَوَّلُ الْفِتَنِ قَتْلُ عُثْمَانَ، وَآخِرُهَا الدَّجَّالُ" [رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ].

هَذِهِ طَرَفٌ مِنْ سِيرَةِ عُثْمَانَ، وَهَذِهِ شَذَرَاتٌ قَلِيلَةٌ مِنْ مَكَارِمِ عُثْمَانَ الْكَثِيرَةِ.

فَكَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ أَنْ نُثْنِيَ الرُّكَبَ، وَنَمُدَّ الْأَعْنَاقَ أَمَامَ مَدْرَسَةِ عُثْمَانَ؟

كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ لِمَدْرَسَةِ ابْنِ عَفَّانَ؛ لِنَتَعَلَّمَ مِنْهُ قِيمَةَ الْمَالِ وَأَهَمِّيَّتَهُ فِي نُصْرَةِ الدِّينِ!

كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ إِلَى قَصَصِ عُثْمَانَ فِي وَقْتٍ تَشْكُو فِيهِ أَصْقَاعٌ إِسْلَامِيَّةٌ حَالَاتٍ مِنَ الْبُؤْسِ وَالتَّنْكِيلِ، وَالْجُوعِ وَالتَّشْرِيدِ:

يُمَزِّقُ قَلْبِي أَرَى جُرْحَهُمْ *** وَعُثْمَانُ لَيْسَ هُنَا فِي الدِّيَارِ

كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ إِلَى نُمُوذَجِ عُثْمَانَ؛ لِنَتَعَلَّمَ مِنْهُ الثَّبَاتَ عَلَى الْمَنْهَجِ الْحَقِّ، حَتَّى وَلَوْ أُرِيقَتِ الْأَرْوَاحُ فِدَاءً لَهُ، فَعُثْمَانُ لَمْ يَنْزِلْ لِأَهْوَاءِ عِصَابَةٍ مَارِقَةٍ فَاجِرَةٍ، حَتَّى لَا تَكُونَ سُنَّةً بَعْدَهُ!

كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ إِلَى حَيَاءِ عُثْمَانَ، وَعِفَّةِ عُثْمَانَ، وَخُلُقِ عُثْمَانَ، فِي وَقْتٍ تُنْحَرُ فِيهِ الْأَخْلَاقُ، وَيُمَزَّقُ فِيهِ الْحَيَاءُ؛ لِنَتَعَلَّمَ مِنْ حَيَاءِ عُثْمَانَ وَوَجْنَتَاهُ الْمُحْمَرَّتَانِ مَعَانِيَ الْمُرُوءَةِ، وَالْعِفَّةِ، وَغَضِّ الْبَصَرِ، وَالْحَيَاءِ مِنَ الْخَالِقِ قَبْلَ الْمَخْلُوقِ!

فَلَا وَاللَّهِ مَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ *** وَلَا الدُّنْيَا إِذَا ذَهَبَ الْحَيَاءُ

يَعِيشُ الْمَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيْرٍ *** وَيَبْقَى الْعُودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ

وَكَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ لِلتَّذْكِيرِ بِعُثْمَانَ الَّذِي جَمَعَ الْقُرْآنَ وَقَامَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ!

فَمَا حَالُنَا مَعَ هَذَا الْقُرْآنِ؟! وَكَمْ هُوَ وِرْدُنَا فِيهِ؟! وَمَاذَا قَدَّمْنَا لِلْقُرْآنِ مِنْ تَعْلِيمِهِ وَدَعْمِ أَهْلِهِ؟!

وَأَخِيرًا: فَيَا مَنْ عَجِبْتَ وَأُعْجِبْتَ بِخَبَرِ عُثْمَانَ، عَلَّكَ -أَخِي الْكَرِيمَ- تَقْتَدِي بِشَيْءٍ مِنْ خِصَالِ عُثْمَانَ، تَكُونُ بَعْضَ عُثْمَانَ:

إِذَا أَعْجَبَتْكَ خِصَالُ امْرِئٍ *** فَكُنْهُ تَكُنْ مِثْلَ مَا يُعْجِبُكْ

فَلَيْسَ عَلَى الْجُودِ وَالْمَكْرُمَاتِ *** إِذَا جِئْتَهَا حَاجِبٌ يَحْجُبُكْ

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي