الوطنية الحقة هي بناء وتنمية واحترام لحقوق الآخرين، وسعي للرقي بالبلاد، لتنافس دول العالم في الحضارة والرقي. الوطنية الحقة -عباد الله-: أن تقدم أنت مصالح بلادك على مصالحك الشخصية، وأن...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين، أرسله الله بالحق بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، أخرجه الله به من الضلالة، وأنقذنا به من الغواية، اللهم صل الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي -عباد الله- بتقوى الله -عز وجل- فاتقوا ربكم، وأنيبوا إليه، واستغفروه وتوبوا إليه: (يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ)[هود: 3].
عباد الله: لقد كان العرب في الجاهلية قبائل متناحرة، ومِزق متقطعة، حروب فيما بينهم طاحنة، عادات تحكمهم، وقيم بالية.
كان العرب أمة مستضامة ذليلة مهانة، يستعبدهم الفرس والرومان، ويسومونهم ألوان العذب، وأصناف الهوان، وينشرون بينهم الأحقاد والأضغان.
كانت جزيرة العرب مثالا صارخا للتخلف والرجعية، والشتات والفرقة، مضت عليها قرون وهي على هذه الحال البئيسة، إلى أن أراد الله أن ينشر رحمته عليها، فأكرمها بأعظم رسول، ومن عليها بأكرم نبي، جمع الله به فرقتهم، ولم به شتاتهم، وجمعهم على قلب واحد، فصاروا أعزة بعد ذلة، وصاروا سادة بعد العبودية، وملكوا رقاب الأكاسرة والقياصرة، تحولوا من رعاة للغنم إلى أن صاروا سادة العرب والعجم.
لقد أصبحت هذه الجزيرة -أعني جزيرة العرب- إشعاعا للكون بأسره، تبددت بها وبنورها ظلمات الشرك والعبودية، ونفت خبث الجهل والخرافة.
من هُنا شقَّ الهدى أكمامهُ *** وتهادى موكباً في موكبِ
وأتى الدنيا فرفّتْ طرباً *** وانتشتْ من عبقهِ المنسكبِ
وتغنّت بالمروآتِ التي *** عرفتها في فتاها العربي
أصيدٌ صلى الله عليه وسلم ضاقتْ بهِ صحراؤهُ *** فأعدّته لأفقٍ أرحبِ
هبَّ للفتحِ فأدمى تحتهُ *** حافرُ المهرِ جبينَ الكوكبِ
وأمانيه انتفاضُ الأرضِ من *** غيهبِ الذلِ وذلِّ الغيهبِ
صلوات الله وسلامه عليه، وما زال المُسلِمُونَ يَتَفَيَّؤُونَ ظِلَّ دَوحَةِ الإِسلامِ الوَارِفَةِ، وَيَقتَطِفُونَ ثِمَارَهَا اليَانِعَةَ، حَتى ضَعُفَ في قُلُوبِهِم قَدرُ دِينِهِم، وَانتُزِعَ مِن نُفُوسِهِم تَعظِيمُ كِتَابِ رَبِّهِم، وَزَهِدُوا في سُنَّةِ نَبِيِّهِم، وَجَانَبُوا هَديَ سَلَفِهِم، وَاستَبدَلُوا بِصَالحِ الأَعمَالِ زَخَارِفَ الأَقوَالِ، وَجَعَلُوا مَكَانَ الحَقَائِقِ النَّاصِعَةِ الشِّعَارَاتِ المَائِعَةَ، وَتَلَفَّتُوا لأُمَمِ الأَرضِ شَرقًا وَغَربًا، يُقَلِّدُونَهَا وَيَتَّبِعُونَ سَنَنَهَا، فَهَبَطُوا بِذَلِكَ إِلى قِيعَانٍ مُظلِمَةٍ، وَتَاهُوا في أَودِيَةٍ مُوحِشَةٍ، وَتَفَرَّقَت كَلِمَتُهُم وَضَعُفَت قُوَّتُهُم، وَذَهَبَ رِيحُهُم، وَزَالَت هَيبَتُهُم.
ومن أعظم أسباب هبوط الأمة إلى هذا المستنقع الأثيم: تفرقها وانقسامها إلى دويلات وطوائف، يحارب بعضها بعضا، ويتربص كل منها بالآخر الدوائر.
لقد خرج من أبناءها من يدعو إلى أن تكون المولاة والنصرة والمحبة مبنية على أساس الأرض، أو القبيلة والعرض، فزاد ذلك ضعفها ضعفا، وأصبحت كلئا مباحا لأطماع الشرق والغرب.
إن المبدأ الذي يجب أن يجتمع عليه المسلمون جميعا هو رباط الدين فحسب، بغض النظر عن الجنسية، أو اللون والعرق.
إن كل الروابط -عباد الله- غير رابطة الإسلام، فهي هباء لا تصمد أبدا أمام موجات الابتلاء، والحروب الشديدة.
لقد قرر الله هذه الحقيقة في سورة واضحة في كتابه الكريم، وأكد عليها رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فقال جل وعلا: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[الحجرات: 10] فحصر الأخوة في درجة الإيمان؛ فمتى ما كان هناك من يؤمن بالله واليوم الآخر، فهو أخوك المحبب إلى قلبك.
فالأخوة مبدأ مبني على رباط الإسلام فحسب، ولهذا امتدح الله -جل وعلا- في كتاب الكريم من يقدمون ولاء الإيمان على ولاء العشيرة والنسب، فقال جل وعلا: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رضي الله عنهم وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[المجادلة: 22].
جعلنا الله وإياكم منهم.
ولقد أخبر رسولنا وحبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم- أن المسلمين كيان واحد، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوا تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".
أجل -عباد الله-: هذا –والله- هو المبدأ العظيم الذي يجب أن يكون اجتماعنا من أجله، إنه الولاء لدين الله -عز وجل-، هذا المبدأ العظيم التي تتهاوى وتتخاذل أمامه كل المبادئ.
إذا اشتكى مسلم في الهند أرقني *** وإذا بكى مسلم في الصين أبكاني
ومِصْرُ رَيحانَتِي والشامُ نَرْجَسَتي *** وفي الجزيرةِ تاريخي وعُنواني
وفي العراق أَكُفّ المَجْدِ تَرْفَعُني *** على كُلّ باغٍ ومأفونٍ وخَوّانِ
ويسمعُ اليَمَنُ المحبوبُ أُغنيتي *** فيستريحُ إلى شَدْوِي وألحاني
ويسْكنُ المسجدُ الأقصى وقُبّتُهُ *** في حَبّةِ القلبِ أرعاهُ ويرعاني
أرى بُخارى بلادي وهي نائية *** وأستريحُ إلى ذكرى خُراسانِ
شريعةُ اللهِ لَمّتْ شَمْلَنا وبَنَتْ *** لنا مَعالِمَ إحسانٍ وإيمانِ
هكذا كنا، وبمثل هذا وصلنا إلى قبة المجد والكرامة، حتى جاءت هذه السنوات الخداعة، وتولى كثيرا من الأمور أناس مقلدون منهزمون، هبطوا بالناس من علياء الأخوة الإسلامية، وردوهم من سعة الرابطة الإيمانية إلى حضيض علاقات دنيوية، وضيق روابط أرضية، جعلت اجتماعاهم فرقة، وأحالت وحدتهم إلى شتات، وسلبتهم قوتهم، وألبستهم الضعف والهوان.
لقد أصبحنا -عباد الله- نسمع ونقرأ من بعض الجهلة إلى دعوات تدعو إلى أن يكون الولاء والبراء مبني على أساس المواطنة فحسب، بغض النظر عن مبدأ الدين والعقيدة، فالمهم عند هؤلاء أن نجتمع، وأن نتمحور على بعضنا بأي شكل من أشكال الاجتماع، ولو كان من بيننا من يحارب الله ورسوله، حتى قال قائلهم -قبحه الله-:
بلادك قدمها على كل ملةٍ *** ومن أجلها أفطر ومن أجلها صُمِ
هبوني عيداً يجعل العرب أمة *** وسيروا بجثماني على دين برهمِ
سلامٌ على كفرٍ يوحد بيننا *** وأهلاً وسهلاً بعده بجهنّمِ
نسأل الله العافية والسلامة، ونعوذ بالله من الخذلان وسوء المآل.
إن حب الوطن غريزة في قلب كل إنسان، لا يمكن أن يشكك فيها أحد، فالمرء يحب مواطن صباه، ويتذكر عهود طفولته، ومرابع الأنس والبراءة.
وحبَّب أوطانَ الرجالِ إليهمُ *** مآربُ قضَّاها الشبابُ هنالكا
إذا ذكروا أوطانَهُم ذكَّرته *** عُهودَ الصبا فيها فحنّوا لذلكا
حب الوطن لا مزايدة عليه، لا ينبغي أن يكون مسار جدل.
إن الاختلاف هو في ميزان المواطنة الصالحة، فمن هو المواطن الصالح؟ من هو الصادق في حبه لبلاده وأهله؟
إنه لا يجوز أن يمتحن الناس في مدى وطنيتهم بخرق يلفونها على رؤوسهم، أو قلائد يعلقونها في رقابهم، أو أعلام يضعونها على بيوتهم وسياراتهم، ومن لم يفعل ذلك فهو مشكوك في وطنيته! أي عقول هذه التي تزن ميزان الوطني الصادق بمثل هذه الشعارات؟!
لقد رأينا من يطبق وجهه بلون علم بلاده وشعره أيضا، ويلبس تلك الملابس، ثم رأيناهم هم يفسدون في البلاد، وينهبون خيراتها، ويدخلون إلى المحال التجارية، فيعتدون على ما فيها، يضيقون الطرقات، ويزعجون المارة، وربما منعوا سيارات الإسعاف من نقل المرضى إلى المستشفى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لقد أصبح ما يسمى باليوم الوطني عند كثير من الناس مصدر خوف وقلق؛ لأنهم لا يأمنون على أموالهم وأنفسهم.
ألم نر ما حصل في الأعوام السابقة من تجمهر للشباب والفتيات، أحيانا يدخل فيها أحد الفتيات، تعلو في هذه الجمهرة أصوات الموسيقى، ويظهر الرقص والطرب الماجن، يتبع ذلك فساد عريض، مما رأيناه عيانا، أو على لقطات الانترنت.
إنها مشاهد لم تعد خافية، ولم تعد محصورة في أماكن محددة، لقد أصبحت كثير من المدن تعاني من طيش الشباب، ومن أفعالهم المشينة.
بالله عليكم أي وطنية هذه؟
إنا مع كل أسف، هناك من يصب الزيت على النار، ويرى أن مثل هذا الكلام الذي نقوله إنما هو دليل على ضعف الحب لهذه البلاد ولأهلها.
إن حب الوطن -عباد الله- لا يغرس في النفوس بمثل هذه الشعارات، والأساليب المرفوضة، المواطنة الحقه هي الحفاظ على مكتسبات هذه البلاد من عبث العابثين، ومكر الماكرين.
أعظم المكتسبات التي يجب أن نحافظ عليها، هي ديننا الذي به صوان حياتنا، ومن أجله ترخص أنفسنا وأموالنا، وكل ما نملك.
المواطنة الحقة تعني البناء والإصلاح، وليس الفساد والتخريب.
إن هناك بعض مرضى القلوب والمنافقين يتسترون خلف هذه الشعارات، شعارات الوطنية لينفذوا أجندة أسيادهم من أعداء الإسلام، ممن لا يريدون –والله- الخير لهذه البلاد وأهلها: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ)[البقرة: 11-12].
الوطنية الحقة هي بناء وتنمية واحترام لحقوق الآخرين، وسعي للرقي بالبلاد، لتنافس دول العالم في الحضارة والرقي.
الوطنية الحقة -عباد الله-: أن تقدم أنت مصالح بلادك على مصالحك الشخصية، وأن تكون خير من يمثل وطنك في إظهار دينك وأخلاقك الإسلامية النبيلة، مع كل أسف نرى بعض أبناء الوطن في خارج البلاد، فنرى ما لا يسر الصديق تقليد للغرب في اللباس والطباع، وتضييع للصلوات، حتى إنك ربما رأيت ما يكون من هذه البلاد، فلا تستطيع أن تفرق بينه وبين أي رجل كافر، تراه بعينك.
فأي مواطنة هذه؟ وأي دعوة يدعو إليها أمثال هؤلاء؟
إن المواطنة الحقة أن تحمل في قلبك وفي سلوكك مبادئ دينك الذي به فاخرت العالمين، لم نفاخر العالم إلا بديننا وقيمنا ومبادئنا الأصيلة، كثير من دول المشرق، إنما دخلت في الإسلام، ليس بالجهاد ولا بالسيف، بل بأخلاق المسلمين، حينما كان تجارهم يذهبون إلى تلك البلاد للتجارة، كما يذهب كثير من تجارنا اليوم، إلا أن الفرق هائل بين الصنفين، لقد كانوا يذهبون للتجارة، وهم يحملون معهم هم الإسلام، والدعوة إلى الله –عز وجل-، فضربوا أروع الأمثلة في حسن التعامل، والأخلاق السامية، والصدق في البيع والشراء، حتى انجذبت القلوب إليهم، ودخل الناس في دين الله أفواجا، ملايين البشر على مر القرون إنما كانت بدخولهم إلى الإسلام بسبب تلك الأخلاق العالية، والمبادئ التي كان يحملها المسلمون.
هكذا يجب أن يكون المسلم، اليوم مع الأسف أصبح كثير ممن ليسوا من المسلمين، ينظرون إلى المسلمين نظرة الاحتقار والازدراء، وكثير من أرباب الأموال من غير المسلمين لا يحب أن يتعامل مع المسلم، لماذا؟
يقول: المسلم صاحب غش، وصاحب مكر وخديعة، وليس بجاد في عمله.
هذه الصورة السيئة القاتمة صنعها أمثال هؤلاء الذين ربما كانوا يتشدقون، ويتغنون بالوطنية والمواطن.
إن المسألة ليست مسألة شعارات، بل هي حقائق على أرض الواقع، فنسأل الله بمنه وكرمه أن يهدينا وإياكم سواء الصراط، وأن يجنبنا سبل الشيطان، إنه سبحانه خير مسئول.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله، فاستغفروه.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم الله تسليما كثيرا.
أما بعد:
عباد الله: فإن الولاء يجب أن يكون لهذا الدين بالدرجة الأولى، لا ينبغي -عباد الله- أن يرى الله في قلوبنا شيئا أحب إلينا منه، ومن رسوله ومن دينه.
لهذا فإن الله -جل وعلا- قد حذرنا وخوفنا ونبهنا من أن نكون من أولئك الذين يقدمون حب الأهل والعشيرة والبلاد والأموال على حبه وحب رسوله، وتوعد أولئك بعذاب أليم، يقول الله –عز وجل-: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ -أي بعذابه- وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة: 24].
إن هناك من يفهم أن حبه لوطنه يعني أن يبغض ما سواه، وأن يحتقر الناس من غير أبناء وطنه الذي يعيش فيه، ولذلك صرنا نسمع عبارات السخرية واللمز من بعض الشعوب، وكأننا شعب الله المختار، أصبح هناك احتقار وازدراء للآخرين، وما كان ذلك كذلك إلا لأن هناك من ينفح في هذا المفهوم المغلوط في المواطنة.
أن ترى نفسك خيرا من الناس، أي مبدأ هذا؟! أفي دين الله يكون هذا؟!
ألم يقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحذر الناس ويخوفهم، ويبين لهم أن الميزان الحق هو ميزان التقوى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الحجرات: 13].
يقول صلى الله عليه وسلم: "الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود، إلا بالتقوى".
الناس أبناء آدم، وآدم من تراب، لا يجوز لمسلم أن يحتقر مسلما، أي كانت جنسيته، وأي كان بلده، لعل هذا الضعيف المتضعف لو أقسم على الله لأبره، أما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رب أشعث أغبر مدفوع على الأبواب... " يعني لا قيمة له، ولا قدر له، ربما يدعى الناس إلى مائدة الطعام ويبعد هذا، احتقارا وازدراءً له، ولأمثاله "رُبَّ أشعث أغبر مدفوع على الأبواب لو أقسم على الله لأبرَّه".
انظر للكلمة: "لو أقسم على الله" من يتجرأ أن يقسم على الله، هناك من عباد الله من يتجرأ على ذلك لمكانتهم عند الله، ومع ذلك فالله –عز وجل- يبر قسمهم، ويعطيهم ما أرادوا، وما ذاك إلا لمكانتهم عنده جل وعلا، أما لأنهم في أعين الناس، فربما لا يكون لهم ميزان ولا قدر.
إن هذا هو المبدأ الذي يجب أن يكون في قلبك، وأن لا يرى الله الكبر في قلبك، لماذا تتكبر؟ وعلى أي شيء على الناس تتكبر به؟
هل أنت قد وضعت رجلك في الجنة، حتى تقول: أنا من أهلها؟ هل عندك من الله ضمان أنك خير من فلان أو فلانة؟
ما تدري ربما يكون هذا الضعيف الذي ربما يكون في عينك ليس له قيمة يكون عند الله خيرا مني ومنك، ومن في الأرض جميعا.
مر في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجل، وضيع النسب، رث الثياب، فقير، فقال عليه الصلاة والسلام للصحابة: "ما تقولون في هذا؟" قالوا: هذا يا رسول الله حريّ إن نكح أن لا ينكح -إذا أراد أن يتزوج لا يزوجه أحد- وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يسمع، فسكت صلى الله عليه وسلم حتى مرّ رجل من وجهاء الناس، وأثريائهم وأهل النسب والحسب فيهم، فقال عليه الصلاة والسلام للمسلمين: "ما تقولون في هذا؟" فقالوا: حريّ إن نكح أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يسمع، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- مبينا الميزان الحق: "والذي نفسي بيده لذاك -أي الفقير- خير من ملء الأرض من أمثال هذا".
ما الذي رفع قدره؟
إنه التقوى، هذا هو الميزان الذي يجب أن يكون بيننا، وأن نتواصى به، أما أولئك الذين يظهرون حب الوطن، ويزعمون ذلك، ويتغنون بعشقه، وهم في حقيقة الأمر أعداؤه الحقيقيون، يشيعون مثل هذه التفرقة، والاحتقار للآخرين، فليسوا منا ولسنا منهم، أجسادهم معنا نعم، لكن قلوبهم وأهواءهم مع أعداء بلادنا.
على وطنيَّةِ التفكير قاموا *** وتحت غطائها قبضوا ومدُّوا
وباسم ثقافة العصر استباحوا *** حمى الفكر الأصيل وعنه نَدُّوا
أقول لهم ثقافتكم هباءٌ *** وليس لغيمكم برقٌ ورَعْدُ
أقول لهم كتابُ اللهِ فيكم *** إلى يَنبوعه الصَّافي المَرَدُّ
لنا وطنيَّةٌ ليست نَشازاً *** فما تجفو الكتابَ ولا تَنِدُّ
لنا البيت الحرام، لنا حراءٌ *** نعم، ولنا تهامتُنا ونَجدُ
لنا أرض الجزيرة قام فيها *** من الإسلام دون البَغي سدُّ
لنا الأقصى لنا شام ومصرٌ *** لنا يَمَنٌ وبغدادٌ وسِنْدُ
لنا في المغرب العربي أهلٌ *** وأحبابٌ، وفي كابولَ جُنْدُ
لنا الإسلام يجمع شمل قومي *** وإنْ ورمتْ أنوف من استبدُّوا
هذا هو الدين الذي به رفعنا الله: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله".
هكذا يجب أن نكون حتى ينتشلنا الله من هذه الذلة والهوان الذي بلغ بأمة الإسلام.
نسأل الله بمنه وكرمه وجوده وإحسانه أن يعجل بالنصر لهذه الأمة.
صلوا وسلموا على إمام المتقين، وسيد الأولين والآخرين، فقد أمركم الله -جل وعلا- بذلك في محكم التنزيل، فقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
وقال عليه الصلاة والسلام: "من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا".
اللهم صل وسلم وبارك...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي