متى بادر الناس كبيرهم وصغيرهم، وغنيهم وفقيرهم، وشريفهم وعامتهم لبذل المعروف، مهما كان صغيراً استجابة لسيد الأنام، ورغبة برضا الرحمن، عاشت الأمة بحب وسلام، ورفرفت عليها أعلام السعادة والتطور والوئام. وهذه طائفة من تلك الأعمال البسيطة نص عليها المصطفى، ويقاس عليها كل ما...
أما بعد:
أيها الإخوة: يقول سبحانه: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة: 197].
أتى ب"ـمن" لتنصيص العموم، فكل خير وقربة وعبادة، داخل في ذلك، أي: فإن الله به عليم، وهذا يتضمن غاية الحث على أفعال الخير: (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)[البقرة: 197].
الزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه في دنياه وأخراه، فهو زاد التقوى الذي هو زاد إلى دار القرار، وهو الموصل لأكمل لذة، وأجل نعيم دائماً أبداً، ومن ترك هذا الزاد، فهو المنقطع به الذي هو عرضة لكل شر، وممنوع من الوصول إلى دار المتقين؛ فهذا مدح للتقوى.
ثم أمر بها أولي الألباب، فقال: (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ) أي: يا أهل العقول الرزينة، اتقوا ربكم الذي تقواه أعظم ما تأمر به العقولُ، وتركها دليل على الجهل، وفساد الرأي.
ويقول الله -تعالى-: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المزمل: 20].
الخير الذي يقدمه الإنسان لنفسه كل عمل صالح مشروع يفيده، وينتفع به الآخرون، ويشمل الأعمال البدنية والمالية والقولية والذهنية، وقال الشيخ السعدي -رحمه الله- معلقاً على هذه الآية: "الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائةِ ضعفٍ، إلى أضعافٍ كثيرة.
وليعلمْ أنَّ مثقال ذرةٍ من الخير في هذه الدار، يقابله أضعافُ أضعافِ الدُّنيا، وما عليها في دار النعيم المقيم، من اللذات والشهوات، وأنَّ الخيرَ والبرَ في هذه الدنيا، مادةُ الخيرِ والبرِّ في دار القرار، وبذره وأصله وأساسه.
فوا أسفاه على أوقاتٍ مضت في الغفلات! ووا حسرتاه على أزمانٍ تقضت بغيرِ الأعمال الصالحات! ووا غوثاه من قلوب لم يؤثِّر فيها وعظُ بارئِها، ولم ينجَعْ فيها تشويقُ من هو أرحم بها من نفسها.
فلك اللهم الحمدُ، وإليك المشتكى، وبك المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا بك.
والصدقة -أيها الأحبة-: من أعظم الأعمال الصالحة التي تكرر أمر الشارع بها، ولما تكرر الأمر بها في الكتاب والسنة مالت إليها القلوب، وتشوقت لها النفوس، واشرأبت لها الأعناق؛ فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أنها متاحة للجميع.
ومن عظمة هذا الدين أنه شرع لكل مسلم ما يستطيعه من الصدقات؛ فكل طاعة من قول، أو فعل، أو بذل صدقة.
وشرع ذلك حثا منه لكل مسلم على المبادرة إلى فعل طاقته.
نعم صدقات شرعت لكلِ أحد، ويستطيعها كلُ أحد، ولكن لا يوفق لها كل أحد.
وهذه الصدقات كما سبق منها البدنية والنفسية، بل أكثر من ذلك، فشرعت حتى المشاركة الوجدانية.
وأساس هذه الأنواع من الصدقات حديث حذيفةَ وجابرٍ -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كلُّ معْروفٍ صدقة"[البخاري ومسلم].
والمعروف: كل ما تعارف الناس على حسنه، أو ما عُرف في الشرع حُسْنه؛ فكل ما يفعل من أعمال البر والخير يكون ثوابه كثواب من تصدق بالمال، ولو لم يرد دليلاً على سعة مجال الصدقة وتنوعها إلا هذا الحديث لكفى.
قال ابن بطال: والمعروف مندوب إليه، ودل هذا الحديث أن فعل المعروف صدقة عند الله يثيب المؤمن عليه ويجازيه به، وإن قل لعموم قوله: "كلُّ معروفٍ صدقة".
سواء قدم المعروف لغني أو لفقير؛ فقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "كُلُّ مَعْرُوفٍ تَصْنَعُهُ إِلَى غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ فَهُوَ صَدَقَةٌ"[صححه الألباني في الصحيحة عن جابر].
الله أكبر -أيها الأحبة-: هذا التعميم من المصطفى -صلى اله عليه وسلم- يعطي مساحة كبيرة لبذل المعروف مهما كان، ولأي إنسان كان.
المهم أن يستشعر مقدم المعروف التعبد لله بما يقدمه من معروف، وأن يغالبَ عدم الإيجابية في نفسه، ويطرحَ النداء السلبي في النفس الأمارة بالسوء، ويبتعد عن العبارات السلبية: "أنا مالي دخل، ما هوب شغلي، مالي ومال الناس، كل يخدم نفسه... وغيرها كثير".
ومتى بادر الناس كبيرهم وصغيرهم، وغنيهم وفقيرهم، وشريفهم وعامتهم لبذل المعروف، مهما كان صغيراً استجابة لسيد الأنام، ورغبة برضا الرحمن، عاشت الأمة بحب وسلام، ورفرفت عليها أعلام السعادة والتطور والوئام.
وهذه طائفة من تلك الأعمال البسيطة نص عليها المصطفى، ويقاس عليها كل ما عده الناس معروفاً و"كلُّ معْروفٍ صدقة" كما قال خير البرية ومعلم البشرية.
عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ" قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: "فَيَعْمَلُ بِيَدَيْهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ" قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: "فَيُعِينُ ذَا الحَاجَةِ المَلْهُوفَ" أي: صاحب الحاجة المظلوم المستغيث والمكروب المستعين قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: "فَيَأْمُرُ بِالخَيْرِ" أَوْ قَالَ: "بِالْمَعْرُوفِ" قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: "فَيُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ".
معناه: صدقة على نفسه، والمراد أنه إذا أمسك عن الشر لله -تعالى- كان له أجر على ذلك كما أن للمتصدق بالمال أجر [رواه البخاري ومسلم].
وفيهما عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "الْإِيمَانُ بِاللهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ" قَالَ: قُلْتُ: أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا" قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: "تُعِينُ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ" وهو من لا صنعة له، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ؟ قَالَ: "تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ".
ووردت روايات أخرى يستدل بها نذكر، منها: قَولُ الرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلاَلِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ الْبَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالْعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ"[رواه الترمذي عن أبي ذر وصححه الألباني].
ولما حث الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- على الصدقة، قِيلَ لَهْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمِنْ أَيْنَ لَنَا صَدَقَةٌ نَتَصَدَّقُ بِهَا؟ فَقَالَ: "إِنَّ أَبْوَابَ الْخَيْرِ لَكَثِيرَةٌ: التَّسْبِيحُ، وَالتَّحْمِيدُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَالتَّهْلِيلُ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَتُسْمِعُ الْأَصَمَّ، وَتَهْدِي الْأَعْمَى، وَتُدِلُّ الْمُسْتَدِلَّ عَلَى حَاجَتِهِ، وَتَسْعَى بِشِدَّةِ سَاقَيْكَ مَعَ اللَّهْفَانِ الْمُسْتَغِيثِ، وَتَحْمِلُ بِشِدَّةِ ذِرَاعَيْكَ مَعَ الضَّعِيفِ، فَهَذَا كُلُّهُ صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ" [رواه ابن حبان وقال الألباني صحيح لغيره].
وقال سُلَيْمُ بْنِ جَابِرٍ الْهُجَيْمِيِّ -رضي الله عنه-: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي؟ قَالَ: "عَلَيْكَ بِاتِّقَاءِ اللَّهِ، وَلَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَقِي، وَتُكَلِّمَ أَخَاكَ، وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْبَسِطٌ"[رواه ابن حبان وصححه الألباني].
وقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "... كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ؛ يَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَو يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ"[رواه البخاري عن أبي هريرة].
جعلنا الله ممن يوفق للسنة، وممن يستمع القول فيتبع أحسنه، إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا...
أيها الإخوة: ومن الصدقات ما يؤديه المسلم من باب أداء الواجب إذا احتسبه عند الله أجر عليه، قال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُ نَفَقَةً عَلَى أَهْلِهِ، وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا، كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً"[رواه البخاري عن أبي هريرة].
كذلك الأعمال المباحة، والمتع الخاصة إذا صاحبتها النية الصالحة تحولت لطاعة وصدقة على النفس، قال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "... وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ، فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ" [رواه مسلم عن أبي ذر].
ما أعظم هذا الدين حتى العلاقة الخاصة بين الزوجين تكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة، ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله -تعالى- به، أو إعفاف نفسه، أو إعفاف زوجته، ومنعهما جميعا من النظر إلى حرام، أو الفكر فيه، أو الهم به، أو غير ذلك من المقاصد الصالحة.
أيها الإخوة: حتى ما يقوم به المسلم من أعمال الحرث والزراعة، والتي هي في ظاهرها من طرق كسب المال، جعلها الله باباً من أبواب الصدقة، مع ما سيعود إلي صاحب الزرع من نفع مادي؛ فعن أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ" [متفق عليه].
بل جعل الله بعض هذه الأعمال اليسيرة في فعلها، والكبيرة في أثرها ودوافعها؛ سبباً من أسباب المغفرة، ودخول الجنة؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ، وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ"[رواه البخاري ومسلم].
وبعد -أيها الإخوة-: هذا هو ديننا، وهذه نتف بسيطة من آدابه الخاصة والعامة، جعلها أبواباً لكسب الأجر والثواب، وهذا لو تمثلنها حصل لنا من الأجر العظيم ما لا يحصى، وصلح أمر المجتمع وصار مجتمعاً صالحاً يسوده الحب والتعاون وتحمل المسئولية والوئام؛ فتعيش الأمة بخير وإلى خير.
وصلوا وسلموا على نبيكم...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي