قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) فَمُنْذُ ذَلِكَ الزَّمَانِ لَمْ تَزَلْ جُمُوعُ الْحَجِيجِ تَتَلاحَقُ جِيلاً بَعْدَ جِيلٍ؛ قَاصِدِينَ هَذَا الْبَيْتَ الْعَتِيقَ ؛ يَدْخُلُونَ حَرَمَ اللهِ بَاكِينَ خَاشِعِينَ ذَلِيلِينَ , مُتَوَجِّهِينَ إِلَى اللهِ بِقُلُوبِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ ، يَتَرَقَّبُونَ فِي تِلْكَ الْمَشَاعِرِ الْعَظِيمَةِ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ وَمِنَى، وَرَمْيِ الْجِمَارِ، وَذَبْحِ الْهَدْيِ عَلَى اسْمِ اللهِ، وَالْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ، وَغَيْرِهَا مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ إِلَى أَنْ يُوَدِّعُوا الْبَيْتَ، كُلُّ ذَلِكَ بِقُلُوبٍ خَاشِعَةٍ وَأَعْيُنٍ دَامِعَةٍ، وَأَلْسِنَةٍ مُكَبِّرَةٍ مُهَلِّلَةٍ مُلَبِّيَةٍ دَاعِيَة ..
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَهِ الْبَرِيَّات، مَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِمَوَاسِمِ الْخَيْرَات, لِيَغْفِرَ لَهُمُ الذُّنُوبَ وَالزَّلَّات، وَيُجْزِلَ لَهُمْ عَظِيمَ الأَجْرِ وَالْهِبَات، أَشْكُرُهُ تَعَالَى وَقَدْ خَصَّ بِالْفَضِيلَةِ أَيَّامَاً مَعْدُودَات، فَالْمُوَفَّقُ مَنِ اغْتَنَمَهَا بِالطَّاعَات، وَالْمَغْبُونُ مَنْ فَرَّطَ فِيهَا وَسَوَّفَ وَتَرَدَّدَ حَتَّى ضَاعَتْ عَلَيْهِ الأَوْقَات.
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، عَلَّمَ الأُمَّةَ مَا يَنفْعُهَا وَوَجَّهَهَا لِصَحِيحِ الْعِبَادَات، الْقَائِلُ "لِتَأْخُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُم".
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَعَلَى آلِهِ الطَّاهِرِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِين، وَعَنِ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّين.
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ، فَهِيَ وَصِيَّةُ اللهِ لِلأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّه) [النساء:131].
مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ: لَمَّا أَتَمَّ خَلِيلُ اللهِ وَنَبِيُّهُ إبْرَاهِيمُ وَابْنُهُ إِسْمَاعِيلُ -عَلَيْهِمَا السَّلامُ- بِنَاءَ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ, أَمَرَهُ اللهُ أَنْ يَهْتِفَ وَيُؤَذِّنَ بِالْحَجِّ دَاعِيَاً الْبَشَرِيَّةَ وَحَاثَّاً لَهُمْ أَنْ يُسَارِعُوا لِلْحَجِّ إِلَى بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ, قَالَ: رَبِّ، وَمَا يَبْلُغُ صَوْتِي؟ قَالَ: أذِّنْ وَعَلَيَّ الْبَلاغُ، فَنَادَى إِبْرَاهِيمُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، فَسَمِعَهُ مَنْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَأَجَابُوهُ بِالتَّلْبِيَةِ فِي أَصْلابِ الرِّجَالِ وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ، فَلَيْسَ حَاجٌّ يَحُجُّ مِنْ يَوْمِئِذٍ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ إِلَّا كَانَ مِمَّنْ أَجَابَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ. قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج:27].
فَمُنْذُ ذَلِكَ الزَّمَانِ لَمْ تَزَلْ جُمُوعُ الْحَجِيجِ تَتَلاحَقُ جِيلاً بَعْدَ جِيلٍ؛ قَاصِدِينَ هَذَا الْبَيْتَ الْعَتِيقَ؛ يَدْخُلُونَ حَرَمَ اللهِ بَاكِينَ خَاشِعِينَ ذَلِيلِينَ, مُتَوَجِّهِينَ إِلَى اللهِ بِقُلُوبِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ، يَتَرَقَّبُونَ فِي تِلْكَ الْمَشَاعِرِ الْعَظِيمَةِ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ وَمِنَى، وَرَمْيِ الْجِمَارِ، وَذَبْحِ الْهَدْيِ عَلَى اسْمِ اللهِ، وَالْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ، وَغَيْرِهَا مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ إِلَى أَنْ يُوَدِّعُوا الْبَيْتَ، كُلُّ ذَلِكَ بِقُلُوبٍ خَاشِعَةٍ وَأَعْيُنٍ دَامِعَةٍ، وَأَلْسِنَةٍ مُكَبِّرَةٍ مُهَلِّلَةٍ مُلَبِّيَةٍ دَاعِيَة.
وَلا شَكَّ أَنَّ فِي هَذَا دَلِيلاً عَلَى عَظَمَةِ اللهِ, وَأَنَّهُ الإِلَهُ الحَقُّ الذَي لَا تَجُوزُ العِبَادَةُ إِلَّا لَه, وَأَنَّهُ الآمِرُ النَّاهِي الْمُتَصَرِّفُ, فَوَاللهِ! لَوْ دَعَا النَّاسَ مَلِكٌ مِنَ الْمُلُوكِ أَوْ غَنِيٌّ مِنَ التُّجَّارِ أَوْ شَخْصٌ مَهْمَا كَانَتْ مَكَانَتُهٌ لَمَا أَجَابَهُ عُشْرُ مِعْشَارِ مَنْ أَجَابَ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِحَجِّ هَذَا الْبَيْتِ الْعَتِيقِ!.
ثُمَّ تَأَمَّلُوا كَيْفَ يَبْذلُ النَّاسُ الْغَالِيَ وَالنَّفِيسَ وَيَتْرُكُونَ الأَهْلَ وَالأَوْطَانَ وَيَأْتُونَ لِهَذِهِ الدِّيَارِ تُسَابِقُهُمْ أَشْوَاقُهُمْ وَتُرَافِقُهُمْ عَبَرَاتُهُمْ لِيَرَوْا هَذِهِ الأَمَاكِنَ الْمُقَدَّسَةِ! فُسُبْحَانَ مَنْ أَحْصَاهُمُ وَسَمِعَ أَصْوَاتَهُمْ وَعَلِمَ طِلْبَاتِهِمْ عَلَى اخْتِلَافِ لُغَاتِهِمْ وَتَنَوُّعِ حَاجَاتِهِمْ, فَكَمْ يَدْعُو فِي اللَّحْظَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ دَاعٍ! وَكَمْ يَلْهَجُ إِلَى رَبِّهِ مِنْ مُنَادٍ! فَلا يشْغَلُ أَحَدٌ رَبَّهُ عَنِ الآخَرِ, وَلا يَغِيبُ عَنْ نَاظِرِ الرَّبِّ الْعَظِيمِ صَغِيرٌ وَلا كَابِر.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اسْتَمِعُوا -وَفَّقَكُمُ اللهُ- لِمُلَخِّصٍ مُخْتَصَرٍ عَنِ الْحَجِّ, قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْعُمْرَةُ إِلَى اَلْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا, وَالْحَجُّ اَلْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا اَلْجَنَّةَ"، وقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَيَكُونُ الْحَجُّ مَبْرُورَاً: إِذَا كَانَ خَالِصَاً للهِ مَقْصُودَاً بِهِ وَجْهُهُ, وَكَانَ مُوَافِقَاً لِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-, وَالْمَالُ الذِي تَحُجُّ بِهِ حَلالٌ, وَاجْتَنَبْتَ الْمُحَرَّمَاتِ، سَوَاءً أَ كَانَتْ عَامَّةً أَوْ مُتَعَلِّقَةً بِالْحَجِّ وَهِيَ التِي تُسَمَّى الْمَحْظُورَاتِ, ثُمْ حَرَصْتَ أَنْ تَأْتِيَ بِالسُّنَنِ الْوَارِدَةِ وَتُطَبِّقَهَا مَا اسْتَطَعْتَ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَيَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَحُجَّ مُتَمِتّعَاً أَوْ قَارِنَاً أَوْ مُفْرِدَاً، وَإِنْ كَانَ الأَفْضَلُ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ.
وَأَمَّا أَرْكَانُ الْحَجِّ فَهِيَ: الإِحْرَامُ, وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ, وَطَوَافُ الإِفَاضَةِ, وَالسَّعْيُ.
وَأَمَّا وَاجِبَاتُهُ فَهِيَ: الإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ, وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ, وَالْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ, وَالْمَبِيتُ بِمِنَى, وَرَمْيُ الْجِمَارِ، وَالْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ، وَطَوَافُ الْوَدَاعِ.
وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَأَرْكَانُهَا: الإِحْرَامُ وَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ, وَأَمَّا وَاجِبَاتُهَا فَهِيَ الإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ وَالْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَإِذَا أَحْرَمَ امْتَنَعَ مِنْ أَشْيَاءَ مُعَيَّنةٍ تُسَمَّى مَحْظُورَاتِ الإِحْرَامِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ اجْتِنَابُهَا مَا دَامَ مُحْرِمَاً، وَهِيَ: حَلْقُ الشَّعْرِ أَوْ إِزَالَتُهُ بِأَيْ مُزِيلٍ, وَتَقْلِيمُ أَظَافِرِ الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ, وَالطِّيبُ بِأَنْوَاعِهِ فِي الْبَدَنِ أَوْ ثِيَابِ الإِحْرَامِ, وَتَغْطِيَةُ الرَّجُلِ رَأْسَهُ, وَلُبْسُهُ الثِّيَابَ الْمُعْتَادَةَ وَهِيَ مَا تُسَمَّى بِالْمَخِيطِ, وَقَتْلُ الصَّيْدِ وَهُوَ الْحَيَوَانُ الْبَرِيُّ الْمَأْكُولُ الْمُتَوَحِشُّ أَصْلاً, وَعَقْدُ النِّكَاحِ, وَالْمُبَاشَرَةُ وَالْجِمَاعُ وَهُوَ أَشَدُّ الْمَحْظُورَاتِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَلْبَسُ مِنَ الثِّيَابِ مَا شَاءَتْ غَيْرَ مُتَبَرِّجَةٍ بِزِينَةٍ, وَتَجْتَنِبُ النِّقَابَ وَالْبُرْقُعَ وَالْقُفَّازَيْن.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَيَنْبَغِي لِلْحَاجِّ أَنْ يَتَعَلَّمَ كَيْفَ يُؤِدِي الْمَنَاسِكَ قَبْلَ الذّهَابِ لِلْحَجِّ لِيَكُونَ حَجُّهُ مَبْرُورَاً وَسَعْيُهُ مَشْكُورَاً، وَهُنَاكَ كُتُبٌ أَلَّفَهَا أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ كَكِتَابِ (التَّحْقِيقُ وَالإِيضَاحُ) لِلشَّيْخِ ابْنِ بَازٍ رَحِمَهُ اللهُ، وَكِتَابِ (الْمَنْهَجُ لِمُرِيدِ الْعُمْرَةِ وَالْحَجّ) لِلشَّيْخِ ابْنِ عُثَيْمِينَ رَحِمَهُ اللهُ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْعِلْمِ الْمَوْثُوقِين.
كَمَا أَنَّ هُنَاكَ أَشْرِطَةً وَمُحَاضَرَاتٍ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْحَجِّ وَمَسائِلِهِ، وَقَدْ تَنَوَّعَ نَشْرُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَخَاصَّةً بَعْدَ تَطَوُّرِ وَسَائِلِ الاتِّصَالِ وَالتَّوَاصِلِ، فَيَنْبَغِي الاسْتِفَادَةُ مِنْ ذَلِكَ.
ثُمَّ إِذَا أَشْكَلَ عَلَى الإِنْسَانِ شَيْءٌ فَيُبَادِرُ بِسُؤَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ لِيُرْشِدُوهُ لِلصَّوَابِ، وَلِيَكُونَ حَجُّهُ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران:97].
اللَّهُمَّ يَسِّرْ لَنَا حَجَّ بَيْتِكَ الْحَرَامِ، وَاجْعَلْنَا بِزِيَارَتِهِ مِنَ الْفَائِزِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِين.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمَينَ، وَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَلِيُّ الصَّالحِينَ، وَأُصَلِّي وَأُسَلِّمُ عَلَى مُحَمَّدٍ النًّبِيِّ الأَمِينِ، وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ اقْتَرَبَتْ أَيَّامٌ فَاضِلَةٌ، عَظَّمَ اللهُ أَمْرَهَا، وَخَلَّدَ ذِكْرَهَا، وَأَقْسَمَ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا، إِنَّهَا: أَيَّامُ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ! قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْر) [الفجر:1-2]، فالليَالِي العَشْرُ هِيَ: لَيَالِي عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ عَلَى رَأْيِ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ.
وَجَاءَتِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ القُرْآَنُ فِي فَضْلِ هَذِهِ الأَيَّامِ، فَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهَ -صَلَّى الله عَليْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا الْعَشْرُ"، يَعْنِي عَشْرَ ذِي الحِجَّة، قِيلَ: وَلَا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: "وَلَا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللهِ، إلَّا رَجُلٌ عَفَّرَ وَجْهَهُ بِالتُّرَابِ" رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَلمَـَّا كَانَتْ هَذهِ الْأَيَّامُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فِي الْفَضْلِ وَالْمَنْزِلَةِ، كَانَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا فَاضِلَاٍ مَحْبُوبَاً إِلَى رَبِّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ"، يَعْنِي الْعَشْرَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَإِنَّ أَعْظَمَ مَا يَجِبُ أَنْ نَهْتَمَّ بِهِ مِنَ الأَعْمَالِ هِيَ الفَرَائِضُ، وَأُوْلَاهَا الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، ثُمَّ نَتَزَوَّدُ مِنَ النَّوَافِلِ بِحَسَبِ القُدْرَةِ.
وأعظمُ الأَعْمَالِ الخَاصَّةِ في هَذِهِ الأَيَّامِ: الحَجُّ وَالْعُمْرَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الكَلَامُ عَلَى فَضْلِهِمِا.
وَمِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ: التَّكْبِيرُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّحْمِيدُ، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ شُعَيْبٌ الأَرْنَاؤُوط.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ: وَمِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي هَذِهِ العَشْرِ: الصِّيَامُ، فَإِنَّهُ مَحْبُوبٌ إِلَى اللهِ، وَيَتَجَلَّى فِيهِ الصَّبْرُ والإِخْلَاصُ ومُجَاهَدَةُ النَّفْسِ وَتَرْكُ الَمَلَذَّاتِ، وَمَنْ تَرَكَ شَيْئَاً للهِ عَوَضَهُ اللهُ خَيْرَاً مِنْهُ، فَلْنَصُمِ الأَيَّامَ التِّسْعَةَ الأُولَى، وَفِيهَا يَوْمُ عَرَفَةَ وَهُوَ أَفْضَلُهُا، فعَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُئِلَ عَن صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ: "يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ أَيْضَاً: الأُضْحِيَةُ، وَهِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَدَةٌ جِدَّاً عَلَى القَادِرِ، وَبَعْضُ العُلَمَاءِ أَوْجَبَهَا، فَيُضَحِّي الإِنْسَانُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ.
وَعَلَى مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ أَنْ يُمْسِكَ عَنْ الأَخْذِ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ وَبَشَرَتِهِ، فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِذَا دَخَلَتْ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا"، وفِي رِوَايِةٍ: "فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّيَ" رواهُمَا مُسْلِمٌ.
وَالْعَشْرُ تدْخُلُ بِغُرُوبِ شَمْسِ آَخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ ذِي القَّعْدَةِ، فَإِنْ كَانَ شَهْرُ ذِي الْقَعْدَةِ تَامَّاً، فَيَمْتَنِعُ مِنَ الأَخْذِ بِغُرُوبِ شَمْسِ يَوْمِ الثَلَاثِينَ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصَاً فَيَمْتَنُعُ مِنَ الأَخْذِ بِمَجَرَّدِ عِلْمِهِ بِدُخُولِ الشَّهْرِ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ: وَمِنْ أَجَلِّ الأَعَمالِ التِّي يَنْبَغِي المُحَافَظَةُ عَلَيْهَا عُمُومَاً، وَفِي هَذِهِ الأَيَّامِ خُصُوصَاً تُلَاوَةُ الْقُرْآَنِ، فَلَوْ أَنَّكَ جَعَلْتَ خَتْمَةً خَاصَّةً بِالْعَشْرِ، بِحَيْثُ تُقْرَأُ كُلَّ يَوْمٍ ثَلاثَةَ أَجْزَاءٍ لكَانَ هَذَا جَيِّدَاً، وَلحَصَلْتَ عَلَى أُجُورٍ عَظِيمَةٍ مَضَاعَفَةٍ، فَالقُرْآنُ أَعْظَمُ الكَلَامِ وَأَبْرَكُه، وَأَنْفَعُهُ حَالاً وَمَآلاً.
فَاللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا، اللَّهُمَّ إِنَّا نعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ، وَمِنْ قٌلُوبٍ لَا تَخْشَعُ، وَمِنْ نَفُوسٍ لَا تَشْبَعُ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والْمُسْلمينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِينَ، اللهم احْمِ حَوْزَةَ الدْينِ.
اَللَّهُمَّ أَصْلِحْ شَأْنَ بِلَادِ المسْلِمِينَ وَاحْقِنْ دِماءَهُم، وَوَلِّ عَلَيْهِمْ خِيَارَهُمْ وَاكْفِهِمْ شَرَّ الأَشْرَارِ، وَكَيْدَ الكُفَّارِ.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ وُلَاةَ أَمْرِنَا وَأَصْلِحْ بِطَانَتَهُمْ وَاهْدِهِمْ سُبُلَ السَّلَامِ، اللَّهُمَّ اجْمَعْ كَلِمَتَهَمْ عَلَى الحَقِّ يَا رَبَّ العَالَمِينَ.
وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ عَلَى نبيِّنَا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي