رعاية نعمة الإيمان هو هم الراسخين في العلم، ودعاء أولي الألباب: (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ)[آل عمران: 8]. لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، لماذا يدعون بهذا الدعاء؟ لأنهم عرفوا ما تكون عليه النفس قبل الإيمان، قبل الهداية، وما...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة: احمدوا الله على نعمة الإيمان، فإنها أعظم نعمة، واحمدوا الله على آثار هذه النعمة وعلى علاماتها، احمدوا الله على توحيده والناس يشركون، احمدوا الله على ذكره والناس غافلون، احمدوا الله على الوضوء، احمدوا الله على الصلاة، احمدوا الله على حضوركم خطبة الجمعة وصلاة الجمعة فغيركم كثيرون لم يوفقوا للحضور ولا للصلاة، وذلك فضل الله، وتلك هدايته التي يؤتيها الذي من سعى إليها وجدَّ، قال تعالى في بيان نعمته على عباده المؤمنين: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)[الحجرات: 7].
وقال سبحانه: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)[الحجرات: 17].
وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)[الشورى: 52].
نعم: (وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا).
لقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- يستشعرون هذه المنة العظيمة، منة رب العالمين، منة الله عليهم أن هداهم للإيمان، كانوا يستشعرون هذه المنة بكل لحظة من لحظات حياتهم في الصباح والمساء، في المنشط في العسر واليسر، حتى في أثناء حفرهم للخندق في غزوة الأحزاب، بالرغم من كون إيمانهم هو سبب اجتماع الأحزاب للقضاء عليهم، كانوا يستشعرون نعمة الإيمان، وفضل الهداية، ولو حصل لهم بسببها ما حصل، حتى كانوا يرتجزون برجز عبد الله بن رواحة: "اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا".
نعمة الله، منة الله، فالذي منَّ الله -تعالى- عليه بالمحافظة على الصلاة، وفي أي نعمة تستحق الشكر، والذي منَّ الله -تعالى- عليه بصيام النافلة بعد الواجب هو في خير كثير.
والذي يتعهد القرآن تلاوة وتدبرا بشكل يومي هو محظوظ، وأي حظ يضاهي حظ الذاكرين الله كثيرا والذاكرات، قال تعالى: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 35].
لكن هذه النعمة العظيمة التي من الله بها علينا جميعا تستحق أمرين:
الأول: الرعاية. والثاني: الشكر.
أيها الأخ الكريم:
إذا كنت في نعمةٍ فارعها *** فإن الذنوب تزيل النعم
وحُطها بطاعةِ رب العباد *** فرب العباد سريع النقم
رعاية نعمة الإيمان هو هم الراسخين في العلم، ودعاء أولي الألباب: (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ)[آل عمران: 8].
لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، لماذا يدعون بهذا الدعاء؟
لأنهم عرفوا ما تكون عليه النفس قبل الإيمان، قبل الهداية، وما تكون عليه بعدها.
(لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) لقد عاشوا حياة لا يعرف قيمتها إلا هم، عاشوا حياة الإيمان، حياة لا يعرف طبيعتها وطمأنينتها وسعادتها إلا أولى الألباب.
أي عالم يضاهي عالم الهداية عند المهتدين؟! لا عالم يضاهي ذلك، ولذلك حرص أول الألباب على رعايته وحمايته، فالإيمان لا يبقى على حال واحدة، في صحيح الجامع من حديث ابن عمر –رضي الله عنهما- قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَخْلَقُ فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ، فَاسْأَلُوا اللَّهَ -تعالى- أَنْ يُجَدِّدَ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِكُمْ".
ذكر النسائي في شرح الاعتقاد: سئل الأوزاعي -رحمه الله- عن الإيمان أيزيد؟ قال: "نعم حتى يكون كالجبال" قيل: أينقص؟ قال: "نعم حتى لا يبقى منه شيء".
وذكر ابن أبي يعلى في الصدقات سئل الإمام أحمد -رحمه الله- عن زيادة الإيمان ونقصانه، قال: "يزيد حتى يبلغ أعلى السماوات السبع وينقص حتى يصير أسفل السافلين السبع".
وهكذا الشأن في الإيمان، فهو لا يثبت في كل قلب، وإنما يثبت في قلب من سعى في رعايته بصدق، ودليل صدقه أنه بذل الأسباب الشرعية لتلك الرعاية، فكتب الله له الهداية، وشرح صدره للإيمان، والقلوب أوعية متفاوتة، فليست كلها تنتفع بالقرآن، ولا كل من ينتفع بالقرآن منها على خط واحد.
ولهذا صح في البخاري عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ؛ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ الأَرْضَ فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ أَجَادِبَ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا مِنْهَا وَرَعَوْا وَسَقَوْا، وَأَصَابَتْ طَائِفَةٌ مِنْهَا أُخْرَى، إِنَّما هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً، وَلا تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ فَنَفَعَهُ اللَّهُ بِمَا بَعَثَنِي، فَانْتَفَعَ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ".
الغيث يصل إلى الأرض، لكن تفاعل الأرض يختلف من أرض إلى أخرى، القلوب تتفاوت.
معاشر الإخوة: إن من أهم وسائل رعاية الإيمان: الصلة القوية بكتاب الله، وليس أي صلة، بل صلة التدبر والتفكر قبل التلاوة السطحية، صلة التدبر عن التلاوة، وعند الاستماع؛ قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألق سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه، منه إليه -كأنه يكلمك- فإنه خطابٌ منه لك على لسان رسولِهٍ، قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ)[الزمر: 21]".
حضور ذهن، وجمع قلب عند التلاوة، هكذا تنتفع بالقرآن، هكذا ترعى الإيمان، وهكذا نحافظ على هذه النعمة.
من وسائل رعاية نعمة الإيمان: البعد عن مواطن الفتن، وعدم الاستهانة بذلك، وقصر النفس على الامتناع عن مجالس اللهو التي تقسي القلب، وتذهب بروح الإيمان، ولا يقصد بها مجالس صلة الرحم والقربى، ولا مجالس اللقاء بالأصحاب في زيادة المحبة والألفة، ولا يقصد بها المجالس التي يكثر فيها الخير، والمفيد من القول.
ومن لطائف المعرفة، وطرائف الحكمة، وطرف الأخبار، وبعض الدعابات المسلية، لا، وإنما المقصود المجالس التي يكثر فيها الكلام الباطل، والسخرية والغيبة، وتوافه الموضوعات، وما شابه ذلك.
فمجالس اللهو هذه لها سحر جذاب، قل من يستطيع الفكاك منها.
والحريص على دينه الذي يدرك نعمة الإيمان التي أنعم الله بها عليه، لابد أن يتخذ موقفا حاسما من مجالس اللهو التي يغشاها، فيبدأ بالتقليل من حضوره إليها، تمهيدا لتركها، واستبدالها بخير منها.
فقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه إلا كان عليهم تِرَةً" أي حسرة.
وفي لفظ: "ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله -تعالى- فيه إلا قاموا على مثل جيفة حمار، وكان هذا المجلس حسرة عليهم يوم القيامة".
رعاية الإيمان الذي هو أعظم نعمة الإيمان يستحق منا التضحية ببعض الأهواء والميول.
رعاية الإيمان جزء من شكر النعمة الذي هو المطلب الثاني، شكر نعمة الإيمان وشكر النعمة أصلا محير؛ لأننا مهما شكرنا الله -تعالى- على نعمة، فإن شكرنا في ذاته عبادة، وفقنا إليها جل وعلا، فشكرنا التالي نعمة تستحق شكرا آخر، فكيف نصل إلى شكره؟!
إذا كان شكري نِعْمَةَ الله نعمةً *** عليَّ له في مثلها يجبُ الشكرُ
فكيف وقوعُ الشكر إلا بفضله *** وإن طالت الأيامُ واتصل العمر
إذا مس بالسراءِ عمَّ سرورُها *** وإن مسَّ بالضراءِ أعقبها الأجر
وما منهما إلاّ لـه فيه مِنّـةٌ *** تضيقُ بها الأوهامُ والبـرُّ والبحر
نعم الله تترى لا تنقطع ليل نهار أبداً، يا له من نعمة، ويا له من منعم جل وعلا.
والشكر يكون بالقلب -أيها الإخوة-، ويكون باللسان والجوارح، فالشكر بالقلب باعتقاد أن الله وحده هو المنعم المتفضل بهذه النعم، وأعظمها نعمة الإيمان؛ لقوله تبارك وتعالى: (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ)[النحل: 53].
كل النعم، وإنما سوى ذلك من النعم التي تأتي من الخلق إنما هي من الله بالأصل، ولكنه جعل الناس أسبابا، فأجرى تلك النعم على أيديهم، فيشكرون ويشكر الله -تعالى- قبلهم: "ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله" كما صح ذلك في الترمذي من قوله صلى الله عليه وسلم .
والشكر يكون باللسان أيضا: بإظهار الرضا بالإيمان، قد جاء في القرآن: (وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا) قالوا بألسنتهم: (وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ)[الأعراف: 34].
إقرار بنعمة الله –عز وجل-، أو شكر له باللسان؟!
فشكر الله -تعالى- يكون عند حصول النعم: "الحمد لله" حتى يشكر بعد شرب الماء، وأكل الطعام، والشفاء من المرض، أذكار معروفة لمن حرص عليها، شكرا لله.
وكما قال صلى الله عليه وسلم: "إن اللهَ ليرضى عن العبدِ أن يأكلَ الأكلةَ فيحمدَه عليها، أو يشربَ الشربةَ فيحمدَه عليها" [صح في مسلم].
والشكر يكون بكل الجوارح، وشكر نعمة الإيمان بالجوارح يكون باستخدام الجوارح في طاعة الله، ولهذا قال تعالى: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ: 13].
بعملكم تشكرون الله، بعبادتكم وطاعتكم له.
في الحديث المشهور عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال صلى الله عليه وسلم: "كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته، فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة" [رواه البخاري ومسلم].
وفي رواية عند مسلم: "وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى"
"كل سلامى" أي كل مفصل من مفاصل الإنسان نعمة يشكر الله -تعالى- عليها.
نسأل الله -تعالى- أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
وأستغفر الله، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فأعيد دعوتي لكم بحمد الله -تعالى- على ما من به علينا من إيمان ينهضنا إلى طاعته، وغيرنا قابع في مكانه، نسأل الله السلامة.
فالحمد لله، ثم الحمد لله: (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58].
حضرنا ها هنا في بيت الله، قاصدين عبادته وتوحيده، نرجو رحمته، ونخشى عذابه، ونحسن الظن به تعالى أن يقبل منا، وأن يجبر عثراتنا، وأن يغفر زلاتنا، وأن يزيدنا من خيره وفضله، فإن الله -تعالى- جواد كريم، يعطي عطاء لا حد له ولا عد له.
حضرنا لندعوه تعالى أن يثبتنا على طاعته، وأن يختم لنا بخير الأعمال، فإن من الناس حولنا -أيها الإخوة- من يعجب من ضلاله، كيف ضلوا ضلالا رهيبا مفزعا، وهم يعيشون في بيئة محافظة، لا تكثر فيها المعاصي، بيئة تكثر فيها المساجد، ويشيع في معظم أهلها الخير والصلاح، ثم هم بعد هذا كله يضِلون ويضلُون.
يعجب الإنسان من حالهم كيف لهؤلاء لا يؤمنون، ثم يدرك ما هو فيه من نعمة عظيمة، ويقول: "الحمد لله على نعمة الإيمان" (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[يونس: 44].
فالذي يستكبر ويأنف من قبول الحق، ويصر على رفض الحق، وهو يعلم أنه الحق، ويستمر كبره ذلك، تكون عقوبته أن يطبع الله على قلبه، وأن يطمس على بصيرته، ويصرفه عن آياته، حتى يستعصي على الإيمان -والعياذ بالله-.
تجره جرا إلى الإيمان، فيأنف، لا يريد: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ)[الأعراف: 146].
فالذي تراه سامدا في غيه -أخي المؤمن-: اعلم أنه وإن كان بجانبك فهو في الحقيقة بعالم آخر غير العالم الذي تعيش فيه، فكره غير فكرك، همه غير همك، ذوقه غير ذوقك، فلا تعجب إن مرت عليه الآيات التي تهز الجبال هزا فلم يهتز، ولم تهتز منه ولا شعرة واحدة، لا تعجب، بل ربما ضحك وسخر، ثم انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة.
فاحمد الله الذي عافك مما ابتلاه، فأنت في نعمة عظيمة.
إن نعمة الإيمان أغلى نعمة عند من قدرها، فرعاها، وشكر مسديها.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي