اغتنم -يا عبد الله- هذه الحياة في عمل صالح ينفعك بعد الممات فإن لحظة تمر عليك، لم تزدد فيها علماً نافعاً، أو عملاً صالحاً هي خسارة عليك، وما من ميت يموت إلا ندم، فإن كان محسناً ندم أن لا يكون ازداد، وإن كان مسيئاً ندم أن لا يكون استعتب، واقلع عمَّا هو عليه. كيف، وأنت ترى السائرين إلى ربهم، في جنائز تترى، زرافات و...
الحمد لله رب العالمين، جعل الأيام دولا، والحياة فرصاً، فوفق من وفق، فعمروا أوقاتهم، بالتقوى، وخذل بعدله آخرين، فلم يسلكوا للخير درباً، ولم يطرقوا للتوفيق باباً.
وأشهد أن لا إله إلا الله، له الحكم، وإليه المنتهى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخليله المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن بهداهم اهتدى.
أما بعد:
فلقد كان من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يوصي أصحابه، وهم خير الناس بعد الأنبياء، وأقرب الأجيال إلى تقوى الله رب الأرض والسماء؛ كان يوصيهم وصايا عامة، ووصايا خاصةً فرديةً؛ فعن عبد الله بن بسر -رضي الله عنه- قال: أتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ، فقال: يا رسول الله: إنَّ شرائعَ الإسلام قد كثرت علينا، فبابٌ نتمسك به جامع؟ قال: "لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله -عز وجل-"[رواه الإمام أحمد بهذا اللفظ].
وأوصى أحد الصحابة يوماً، فقال له: "لا تغضب" فردد مراراً، فقال: "لا تغضب"[رواه البخاري].
فحاجتنا -عباد الله- إلى التواصي بالحق والتواصي بالصبر أشد حاجة، ونحن في زمنٍ نسي فيه كثيرٌ من الناس حظاً مما ذكِّروا به، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فقست قلوبٌ، وجفت من أزمنة دموعٌ، ولا تكاد ترى فيمن ترى مخبتاً، أو صاحبَ خشوعٍ.
فواجب علينا التناصح بيننا، فلينصح الأب ابنه، والجارُ جاره، والمدير والمسؤول من تحت يده، فكلكم راع، وكلُّكم مسؤول عن رعيته.
وثق أيها الناصح أنه متى كان قصدك إرضاء الخالق، ونفع المخلوق فلا بدَّ أن ينفع الله بنصحك، نفعاً تشاهده في الدنيا، أو نفعاً يدَّخر لك في الأخرى.
وإنَّ من خير ما نتذاكر به، ما أوصى به النبي -صلى الله عليه وسلم- ابن عمه عبد الله بن عباس في أمور خمسة جعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- غنائم تغتنم، ومكاسبَ تكتسب، فقد روى الحاكم والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: "اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك".
فهذه خمسة مغانم، إن فرطت فيها فيوشك أن تفقدها إلى ضدها.
فأولها الحياة، العمر الذي جعله الله زمناً للعمل، الإنسان قبل هذا الزمن لم يكن شيئاً مذكوراً، قال تعالى-: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا) [الإنسان: 1].
فيا من بلغ العشرين، أو الستين، أو المائة لم تكن شيئاً مذكوراً، ثم وجدت فأبتدأ عمرك إلى مدة الله أعلم بنهايتها، فهذه حياتك كنت مجهولاً قبل بدايتها، ثم لم تحط علماً بمقدار عدتها.
فاغتنم -يا عبد الله- هذه الحياة في عمل صالح ينفعك بعد الممات فإن لحظة تمر عليك، لم تزدد فيها علماً نافعاً، أو عملاً صالحاً هي خسارة عليك، وما من ميت يموت إلا ندم، فإن كان محسناً ندم ألا يكون ازداد، وإن كان مسيئاً ندم أن لا يكون استعتب، واقلع عمَّا هو عليه.
كيف، وأنت ترى السائرين إلى ربهم، في جنائز تترى، زرافات ووحداناً.
ثم الغنيمة الثانية: الصحة: "صحتك قبل سقمك" إنها نعمة الصحة، فلا مرض يؤلم، ولا علة تثقل، قد أسبغ عليه ربه لباس الصحة والعافية، فبالصحة ينشط الموفق لعبادة ربه، فهو يذكر الله ذكراً كثيراً، لا يقطعه عن ذلك سقم يدافعه، إن صلَّى صلَّى بقوته، قائماً راكعاً ساجداً على أتم وجه، وأكمله، وإن أراد صياماً يتقرب به إلى ربه، لم يَعُق عن ذلك تعب ينتابه، أو علاج من أجله يقطع صيامه، فهو يتفيؤ من العبادات ألواناً، ويأخذ من جملتها أفناناً، فهذه حال مغتم الصحة قبل السقم، إذ بالسقم تثقل العبادات، وتفتر الهمات.
وإن كان سقمه مع احتسابه يكفر به السيئات، ويرفع به الدرجات، ولكن تبقى الصحة مغنماً قبل السقم.
وأما الغنيمة الثالثة: فهي الفراغ قبل الشغل، وأعظم الفراغ وأهمه فراغ القلب، من هم لمستقبل، أو حزن على ماضي، فحينئذ يعيش العبد مطمئناً في قلبه، منشرحا في صدره، لا يرى في الدنيا من هو أسعد منه، فيقبل على مصالح دينه ودنياه على أحسن حال، وأتم استعداد.
فالفراغ بهذه الصورة غنيمة يغتنمها المؤمن قبل أن يفاجئه ما يشغل قلبه، ويشتت همته، فيصبح مشغولاً بمدافعة ما نزل به، من مرضٍ نزل به، أو بحبيب إليه، أو بانتظار غائب لا يدري ما صنع الله به، أو بتطلعِ أمر مجهولٍ لديه يحتاجه لا يدري ما وراءه.
ومشاغل القلب لا تحصى، وصوارف البال تتجدد.
وأما الغنيمة الرابعة: فهي الشباب قبل الهرم، الشباب زمن الفتوة والقوة، والنشاط والحيوية، في الذهن، والبدن فهو فرصة ومغنم لمن اغتنمه، ولذا كان أحد الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله شاباً نشأ في طاعة الله.
فيا أيها الشاب: أنت تعيش فرصة بل غنيمة، أترى استغلالها في الذهاب والمجيء، والجلسات الطويلة، والاتكالية المذمومة، وبذل المال فيما لا تحمد عاقبته، أترى ذلك يحصل به اغتنام هذه الفرصة، وشكر هذه النعمة؟ فتش في نفسك، ونقب في رفاقك.
وأما آخر المغانم المذكورة في الحديث، فهي: غنيمة الغنى قبل الفقر، وهي الجِدة والسعة في الرزق لمن بسط الله له رزقه، فهي غنيمة لمن عرف قدرها، ينفق على أهله بسخاء نفسه، يزكي ماله، ويتصدق على الفقراء، يعين حاجاً، ينشر كتاباً، يوزع شريطاً، ومجالات الخير كثيرة.
وقد سبق أهل الدُّثور بالأجور.
فاعرف -يا عبد الله-: هذه المغانم، وانظر في نفسك، واستعن بالله، ولا تعجز.
أقول قول هذا، وأستغفر الله لي...
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه واستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
فقد قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "ما ندمت على شيء، ندمي على يوم غربت فيه شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزدد فيه عملي".
فاغتنموا -رحمكم الله- الفرصة.
ومن استغلال الفرص المبادرة في أداء الحج، فمن استطاع في بدنه وماله بعد قضاء الواجبات، والنفقات الشرعية، والحوائج الأصلية فليبادر.
لأنَّ الله -تعالى- يقول: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)[آل عمران: 97].
والدين مقدم على الحج إلا ديناً يقول صاحبه: إنَّ بقائي وعدَمه لا يؤثر على الحج؛ كالديون المقسطة، في السيارات، أو غيرها، ويؤمل لها الإنسان سداداً من مرتب، أو غيره، فلا تمنع الحج.
وإنما الدين الذي يقدم على الحج هو الدين الذي يزاحم الحج فإما أن يحجَّ أو يقضي دينه، فيقال له: اقض دينك، وأخر الحج حتى تستطيع.
عباد الله: أعينوا أولادكم على الحج ذكورهم وإناثهم، إذا كانوا قادرين على ذلك، واحذروا منعهم بلا سبب صحيح.
ثم المرأة إذا لم يكن عندها محرم من أب، أو ابن، أو زوج فلا حج عليها حتى تجد المحرم، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم"[متفق عليه].
أيها الإخوة: جعل الله الكعبة البيت قياما للناس إليه تهوي الأفئدة وتحن النفوس، فهنيئا لمن كانت نفوسهم تتوق إلى ما يرضى الله.
ثم هنيئا لهم مرة ثانية حينما احتسبوا بقاءهم وتركوا الحج لعدم القدرة المالية وأخذوا برخصة الله حينما جعل الحج لمن استطاع إليه سبيلا، أو تركوه امتثالا لتنظيم ولي الأمر، ورفقا بإخوانهم الحجاج، فهؤلاء حجاج وإن كانوا بين أهليهم وأولادهم.
نعم حجاج بنيتهم الصالحة الصادقة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في المتخلفين عن الغزو لعذر: "إن بالمدينة أقوما ما سرتم مسيرا ولا نزلتم واديا إلا وهم معكم" قالوا: وهم في المدينة؟ قال: "نعم حبسهم العذر".
فطيبوا نفساً، واغتبطوا بفضل الله.
ورفقاً بأنفسكم أيها المتحايلون ممن يريد الحجاج، أو ممن يحمل الحجاج، ويسهل حجهم متخطياً الأنظمة، مقدما المصلحة الخاصة على المصلحة.
أيها الإخوة: وقد نص مشايخنا وعلماؤنا أن من سبق له الحج فإن إعانته من يريد حج الفريضة، ودفع تكاليف حجه، وتسهيل أمره أفضل من حجه هو نفسه في ظل ظروف الحج الحالية، وعمدة ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من جهز غازيا فقد غزا".
ومثله تجهيز كل عامل في خير وإعانته.
فاعرفوا هذه المسألة وافقهوها جيدا، ثم انقلوها لمن يحتاجها.
فالذين يعطون المال لمن يحجون عن أنفسهم أو يحجون عن والديهم، يقال لهم: أفضل مما تفعلون أن تعينوا من يحج فريضته، ولكم مثل أجره، أو لمن أردتم جعل الثواب له من حي أو ميت.
والنيابة في الحج إنما جاءت عن غير القادر في الفريضة فقط.
وفقني الله وإياكم لفعل طاعته على ما يرضيه...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي