.. وظل يجتاح بلاد المسلمين حتى انتزع بغداد بعد سبع سنوات من قيام دولته، وكان انتزاعه لها أيضا بخيانة وممالأة من شيعتها آنذاك. ثم أمر بهدم مدينة بغداد وقتل أهل السنة، وتوجه إلى مقابر أهل السنة ونبش قبور الموتى وأحرق عظامهم. وبدأ يعذب أهل السنة سوء العذاب ثم يقتلهم، ونبش قبر أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وقتل كل من ينتسب لذرية خالد بن الوليد رضي الله عنه في بغداد لمجرد أنهم من نسبه
الحمد لله العليم الحكيم؛ خلق الخلق ودبرهم، وكلف الجن والإنس وابتلاهم، نحمده على ما هدانا، ونشكره على ما أعطانا، ونستغفره لخطايانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أنزل القرآن هدى ورحمة للعالمين، وقص علينا فيه آخبار الغابرين، عبرة للمعتبرين، وموعظة للمتقين ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) [يوسف:111] . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أعلى الله تعالى ذكره في العالمين، وجعله حجة على الخلق أجمعين، وكتب بقاء دعوته إلى يوم الدين، فلا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى وهم على ذلك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق ( رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) [التوبة:100] والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأخلصوا له دينكم، وأحسنوا عملكم؛ فلا حاجة لله تعالى عندكم، إنما خلقكم ليبتليكم (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ) [الملك:1-2].
أيها الناس: دين الله تعالى واحد، وهو الحق والنور والهدى، والصراط المستقيم الذي يوصل إلى رضوانه والجنة، وأديان الشيطان كثيرة، وهي الباطل والضلال والظلمات، وهي ما عدا الحق الذي فرضه الله تعالى على عباده، وبلغته رسله عليهم السلام؛ ولذا جاء صراط الله تعالى في القرآن مفردا، كما جاء النور مفردا، وجاءت الظلمات بصيغة الجمع كما جمعت سبل الباطل ( الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور ) [الأنعام:1].
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال: " هذا سبيل الله مستقيما "، قال: ثم خط عن يمينه وشماله، ثم قال: " هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه " ثم قرأ ( وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) [الأنعام:153]" رواه النسائي وأحمد وصححه الحاكم.
وهكذا طوال تاريخ البشرية كانت الرسل عليهم السلام يهدون الناس إلى سبيل الله تعالى الذي ارتضاه لهم، وكانت الشياطين تحرفهم عن ذلك السبيل إلى سبل أخرى تكون سببا في ضلالهم وانحرافهم، ولا تكاد تحصى الديانات والأفكار الباطلة التي دان -ولا يزال يدين- بها أكثر البشر..
ولما بعث الله تعالى موسى عليه السلام دانت بنو إسرائيل بدين الحق، ثم غيروا الدين بعده، وحرفوا التوراة، فبعث الله تعالى عيسى عليه السلام مصدقا لدين موسى عليه السلام، ومبشرا ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فدان الحواريون وأتباعهم بدين الحق، حتى أدخل شاؤول اليهودي الشرك في عقيدة النصارى، ونقلهم من التوحيد والهدى، إلى التثليث والضلال، فبعث الله تعالى محمدا عليه الصلاة والسلام مصدقا لرسالات من قبله من الرسل عليهم السلام، وخاتما للنبوة فلا نبي بعده، وقضى الله تعالى أن يبقى دينه إلى آخر الزمان، وأما أمته؛ فمنهم من يهدى لدينه الذي ارتضاه الله تعالى، ومنهم من يضل إلى أديان أخرى.
ومن دان بدينه عليه الصلاة والسلام وهو دين الإسلام منهم من ثبت على الدين الحق، ملتزما بالكتاب والسنة، مهتديا بهدي السلف الصالح من الصحابة وأتباعهم، ومنهم من انحرف إلى بدعة مكفرة أو مفسقة، فأحدث في الإسلام ما ليس منه، وهؤلاء يسمون أهل القبلة.
إن الله سبحانه لما أهبط الأبوين عليهما السلام من الجنة، وكلفهما وذريتهما بالدين - أقسم إبليس بعزة الله تعالى ليصرفن ذرية آدم عن دينه الذي ارتضاه الله تعالى..
ولما كان محمد عليه الصلاة والسلام خاتم الرسل قضى الله عز وجل ببقاء دينه إلى آخر الزمان، وسلامته من التحريف والتبديل ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) [الحجر:9] وأما أفراد الأمة فليسوا معصومين من الحيدة عن دين محمد صلى الله عليه وسلم، أو إدخال شيء فيه ليس منه، أو إخراج ما هو منه، فيَضِلُ بسبب ذلك من يَضِل، ويبقى على الدين الحق من عصمه الله تعالى من الضلال، وهكذا الحال إلى آخر الزمان.
ومحاولات تحريف الإسلام، وإدخال عقائد وأفكار فيه ليست منه بدأت مبكرة في آخر الخلافة الراشدة، وأراد عبد الله بن سبأ اليهودي المنافق أن يقوم في الإسلام بذات الدور الذي قام به سلفه شاؤول في النصرانية، فأحدث ابن سبأ وأتباعه الخروج على عثمان رضي الله عنه، واستتبعوا ذلك بالغلو في آل البيت، وزعموا التشيع لهم، فأظهروا محبتهم، ثم غالوا في علي رضي الله عنه، وادعوا العصمة له، ثم زعموا النبوة فيه، حتى وصل بهم غلوهم إلى خلع صفات الربوبية عليه وعلى زوجه وولده رضي الله عنهم، مع طعنهم في بقية الصحابة رضي الله عنهم إلا عددا قليلا منهم، وسبهم للخلفاء الثلاثة الذين رضي الله عنهم، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم.
ثم لما بذر هؤلاء المنافقون بذرة الخلاف بين المسلمين، وسقوها بالأكاذيب والشائعات، وغذوها بالضغائن والأحقاد، وأوقعوا الخصومة بينهم كانوا هم أول من تخلى عن علي وابنيه الحسن والحسين رضي الله عنهم، وخانوهم أعظم خيانة، حتى قتل الحسين رضي الله عنه ظلما وعدوانا بسبب خيانة من زعموا التشيع له، وجعل أولئك الخونة وأتباعهم يوم مقتله يوم مناحة ولطم وبكاء، وإحياء للضغائن، وسب لأولياء الله تعالى من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
ثم انشطروا في ضلالهم إلى مذاهب عدة، وفرق كثيرة، يلعن بعضها بعضا، وتزعم كل فرقة منها أن الحق معها دون غيرها .. جمعتهم بدعة الغلو في آل البيت، ثم فرقتهم تلك البدعة، ومنهم من أخرجتهم بدعتهم من الإسلام إلى الكفر، ومنهم دون ذلك، ويكون قربهم من الإسلام وبعدهم عنه بحسب ما تلبسوا به من البدعة.
ومن أكبر فرقهم: الإمامية الإثني عشرية، وقد قامت لهم في القرن العاشر الهجري دولة شرسة خبيثة، عظم بلاء المسلمين بها، هي الدولة الصفوية التي شيعت إيران بالحديد والنار، فرفعت ببطشها وظلمها نسبة الإثني عشرية فيها من ( 10% ) إلى ( 65% ).
وقبل ذلك سعى ابن العلقمي الرافضي في القرن السابع إلى بناء دولة لهم في بغداد على أنقاض الدولة العباسية بعد خيانته لها، ولم يتم له ذلك فمات كمداً بحمد الله تعالى.
وتعاقبت الدول المغولية وغيرها على بلاد العراق وفارس، وكانت دولا سنية فيها جهل وتصوف، لكنها سالمة من بدعة التشيع، كان آخرها دولة للتركمان، زالت في أوائل القرن العاشر على يد إسماعيل بن حيدر الصفوي؛ نسبة إلى جده صفي الدين الأردبيلي الذي كان واعظا صوفيا، عاش في القرن السابع، وما زال أبناؤه وأحفاده يميلون للتشيع حتى اعتنقوا المذهب الإمامي الإثني عشري.
فلما آل الأمر إلى حفيده الشاه إسماعيل مؤسس الدولة الصفوية حارب بالمتصوفة والشيعة التركمان دولتهم السنية فقضى عليها، فكان أول حاكم للدولة الصفوية وذلك عام سبعة وتسع مئة للهجرة، واتخذ مدينة تبريز الإيرانية عاصمة لدولته، وأول ما حكم أعلن أن مذهب دولته الإمامية الإثنى عشرية، وأنه سيعممه في جميع بلاد إيران، وعندما نُصح أن مذهب أهل إيران هو مذهب الشافعي قال: إنني لا أخاف من أحد .. فإن تنطق الرعية بحرف واحد فسوف امتشق الحسام، ولن أترك أحداً على قيد الحياة.
ثم صك عملة للبلاد كاتباً عليها: " لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله "، ثم كتب اسمه.
وأمر الخطباء في المساجد بسب الخلفاء الراشدين الثلاثة رضي الله عنهم، مع المبالغة في تقديس الأئمة الاثني عشر.
وقد عانى أهل السنة في إيران من ظلمه معاناة هائلة وأجبروا على اعتناق المذهب الإمامي بعد أن قتل منهم مليون إنسان سني في بضع سنوات بشهادة مؤرخ شيعي.
وظل يجتاح بلاد المسلمين حتى انتزع بغداد بعد سبع سنوات من قيام دولته، وكان انتزاعه لها أيضا بخيانة وممالأة من شيعتها آنذاك. ثم أمر بهدم مدينة بغداد وقتل أهل السنة، وتوجه إلى مقابر أهل السنة ونبش قبور الموتى وأحرق عظامهم. وبدأ يعذب أهل السنة سوء العذاب ثم يقتلهم، ونبش قبر أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وقتل كل من ينتسب لذرية خالد بن الوليد رضي الله عنه في بغداد لمجرد أنهم من نسبه.
وقد أرخ الشيعة في ذلك الزمان لهذه الحادثة حتى قال ابن شدقم الرافضي يحكي سيرته: " فتح بغداد وفعل بأهلها النواصب ذوي العناد ما لم يسمع بمثله قط في سائر الدهور بأشد أنواع العذاب حتى نبش موتاهم من القبور ".
وقد فر كثير من سنة بغداد إلى الشام ومصر وحكوا للعالم الإسلامي ما فعل الصفويون ببغداد وأهلها، ووصلت أخبار المذابح العظيمة لأهل السنة إلى الدولة العثمانية، فاجتمع السلطان العثماني سليم الأول في عام عشرين وتسع مئة برجال دولته وعلمائها، وقرروا أن الدولة الصفوية تمثل خطراً على العالم الإسلامي، وأن على السلطان جهادها، وإيقاف ظلمها وتنكيلها بالمسلمين، فحاول السلطان مفاوضة الصفوي إسماعيل فلما لم يستجب له، سار إليه بجيش يقوده السلطان بنفسه قوامه مئة ألف، وجيش الصفوي مئة ألف أيضا، فالتقى الجيشان في صحراء جالديران، فهزمه السلطان هزيمة نكراء وقتل أكثر جنده، فقضى على حكمه في العراق بعد أن حكمها بالحديد والنار ست سنوات، فما كان من الصفوي الخبيث وقد أحس بالضعف إلا أن كاتب قائد البرتغال الصليبيين يطلب نجدته على أن يعطيهم مضيق هرمز وفلسطين، فكتب له قائد الصليبيين رسالة قال له فيها: إني أقدر لك احترامك للمسيحيين في بلادك، وأعرض عليك الأسطول والجند والأسلحة لاستخدامها ضد قلاع الترك في الهند، وإذا أردت أن تنقض على بلاد العرب أو تهاجم مكة فستجدني بجانبك في البحر الأحمر، أمام جدة أو في عدن أو في البحرين أو القطيف أو البصرة، وسيجدني الشاه بجانبه على امتداد الساحل الفارسي وسأنفذ له كل ما يريد.
ولكن الله تعالى خذلهم؛ إذ استطاع العثمانيون إفشال مخططهم، وظلوا يتتبعونهم سلطانا بعد سلطان حتى بعد هلاك الصفوي إسماعيل وتولي أبنائه من بعده، حتى قضي على دولتهم نهائيا بعد قرنين ونصف من الظلم والعسف.
هذا ملخص ما يتعلق بدولتهم، وأما مؤسسها الصفوي إسماعيل فإنه كان يجمع بين التعصب المذهبي والغلو والتكفير وبين الدموية والتنكيل، وقد نقل عنه أحد أقربائه أنه أكثر القتل حتى قتل ملك ( شروان )، وأمر أن يوضع في قدر كبير ويطبخ، وأمر جنده بأكله ففعلوا، وكان لا يتوجه لبلاد إلا فعل أشياء يندى لها الجبين من قتل ونهب .
وكان من دمويته أنه ينبش قبور العلماء والمشايخ السنة ويحرق عظامهم، وكان إذا قتل أميراً من الأمراء أباح زوجته وأمواله لشخص لمن يختار.
ويكفي دليلا على تعصبه وهمجيته أنه دعا أمه للتشيع وكانت سنية حنفية، فأبت ذلك فأمر بقتلها فقتلت رحمها الله تعالى، وبلغ من طغيانه وجبروته أنه كان يأمر جنده بالسجود فيسجدون له.
وذكر أحد كبار مذهبهم ودولتهم في هذا العصر أن إسماعيل الصفوي كان ممالئا للإنجليز على الدولة العثمانية، وكان يعاقر الخمرة مع قادتهم ويقول لهم: " إنني أفضل حذاء مسيحي على أكبر رجالات الدولة العثمانية ".
وأكثر المراسم الشاذة، والطقوس الغريبة، والممارسات المقززة في المناسبات الدينية لدى المذهب الإثني عشري إنما هي من إحداث هذا الخبيث الضال، وضل أتباعه يمارسونها ويتناقلونها جيلا بعد جيل إلى يومنا هذا، ولا يتسع هذا المقام المختصر لعرض ما أحدثه لهم من ضلال على ضلالهم حتى إن عقلاء مذهبهم لا يرضون كثيرا من طقوسهم، ويرون أنها تسيء لمذهبهم في هذا العصر.
ونحمد الله تعالى الذي عافانا مما ابتلاهم به، ونشكره على ما هدانا من الدين الحق الذي هو الرحمة والعدل، ونسأله سبحانه الثبات على الحق إلى الممات؛ إنه سميع قريب.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم...
الحمد الله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا أمن إلا للمؤمنين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وراقبوه، والزموا طاعته ولا تعصوه ( وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ) [النور:52].
أيها الناس: تتلاحق الابتلاءات على أمة الإسلام، وتتوالى أحزانها، وتكثر مصائبها؛ فمن فلسطين إلى أفغانستان، ومن كشمير إلى الشيشان، ومن الفلبين إلى الصومال، ومن هنا وهناك إلى العراق، وما أدراك ما العراق؟! تلك البلاد التي دخلت حظيرة الإسلام من فجر الإسلام، وكانت حاضرة الخلافة الإسلامية خمسة قرون وزيادة..
تلك البلاد التي خرَّجت أبا حنيفة النعمان، وإمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل في كوكبة من العلماء الربانيين، والقادة والمجاهدين..
قد احتلها في هذا العصر عباد المسيح عليه السلام، ثم سلموها للمتعصبة من عباد الحسين رضي الله عنه، وإنه لعار خط في تاريخ تلك الحقبة يلحق كل مسلم عاصر تلك الجريمة النكراء؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون، وجبر الله مصاب المسلمين في هذه الداهية العظيمة.
لقد كُلِمَتْ أمة الإسلام في أكثر من مكان، ومشاريط الاستعمار الصهيوني تعمل في تمزيق الأمة، وتقسيم الدول، والصفويون الحاقدون الطامحون يعيثون فسادا في بلاد الخلافة العباسية، وتطلعاتهم تتعداها إلى غيرها، وأتباعهم في الدول الأخرى المجاورة للعراق يستعجلون استباحة دولهم كما استبيحت مدينة المنصور والرشيد وأبي حنيفة وابن حنبل.
وكلما بدا أمل في عافية الأمة أصابتها داهية ظن معها كثير من الناس أن لا عافية ترجى، ولا نصر يؤمل، والمؤمن لا ييأس من روح الله تعالى، ويثق بوعده، ويعلم أنه كلما ازداد البلاء اقترب الفرج، وإذا اشتدت الظلمة انبلج الفجر، والعسر يعقبه اليسر ( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ) [الشرح:5-6].
وأعظم مصيبة أصيب بها المسلمون في هذا العصر -بعد تفريطهم في دينهم، وكثرة معاصيهم- ركونهم إلى أعداء الله تعالى، والوثوق بهم، وجعل مصيرهم بأيديهم، والاغترار بالشعارات المضللة التي خدرت المسلمين، وأقعدتهم عن إعداد العدة لتلك الأيام العصيبة؛ كالشعارات الإنسانية، وحوارات الأديان، وتقارب المذاهب الإسلامية، والوعود الكاذبة، والأماني الخادعة بانتهاء عصور الحروب والاعتداءات والنزاعات الهمجية، والمحافظة على السلم العالمي، والوفاق البشري، وحقوق الجوار؛ حتى غلَّوا أيدي المسلمين عن التصنيع والتسليح والتجنيد، وحالوا بينهم وبين أسباب القوة، في الوقت الذي يعمل فيه الإنجيليون والصهاينة على تحقيق نبؤاتهم الخرافية، ويسعى الصفويون الباطنيون لإعادة أمجاد الدولة الفارسية، وامتلاك القنبلة النووية، وما أن طابت لهم كعكة العراق فإن أول عمل قاموا به إحراق سجلات الدولة، في مخطط شيطاني رهيب لتغيير التركيبة السكانية، والعزم على إفراغ العراق من السنة بالقتل والتهجير، ولإحلال الباطنية مكانهم، ثم عملوا بهذا المخطط لما تمكنوا، وأحيوا ما فعله أجدادهم الصفويون من قبل بأهل السنة في إيران، ويعدون بالمزيد من المذابح والتقتيل الطائفي..
وقد أعلن المتنفذون منهم في العراق عن مشروعهم الطائفي البغيض، حين ظهر كبير من شياطينهم على فضائية من فضائياتهم يقول: إن الشيعة ظُلموا أربعة عشر قرناً، وآن لهم أن يأخذوا حقهم. مذكرا بمقولة خمينيهم الهالك حين قال: " السنة حكموا أربعة عشر قرناً، وآن للشيعة أن يحكموا العالم الإسلامي ".
وهكذا يغير التاريخ على الأرض، ويفرض تاريخ جديد، يخطه الصفويون الجدد بدماء المسلمين في العراق، كما غير تاريخ إيران بمذابح الصفويين القدماء، ويرضى بذلك من يرضى، ويأباه من يأبى، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
والعجب كل العجب ممن يدعون الثقافة والمعرفة، ويصدرون في الإعلام والصحافة على أنهم مفكرو الأمة ومحللوها، وهم لا يرون أبعد من أنوفهم..
العجب منهم حين كانوا يخدرون الأمة، ويتهمون كل ناصح ومحذر من الخطر الباطني بأنه عدو للوحدة الوطنية، ثم إذا أتباع المذاهب الباطنية يصفعونهم في لبنان والعراق، ويستأسدون في الدول الأخرى محتمين بالدولة الفارسية التي بلغ من تعصب حكامها للفرس، اشتراط دستورهم أن يكون حاكم جمهوريتهم فارسيا، ولا يكفي أن يكون متمذهبا بمذهبهم الباطني. بل إن كل المرجعيات الاثني عشرية في العالم لا بد أن تخضع لرأس فارسي، أو يكون من أصول فارسية، وما أشد حمق من يجندون أنفسهم لهم من غير الفرس، وهم يرون عصبيتهم لفارسيتهم.
ولما أسقط في أيدي من يدعون أنهم مفكرون ومثقفون إزاء ما يرونه من طائفية بغيضة عند هؤلاء الفرس الباطنيين وأتباعهم، لم يجدوا مشجبا يعلقون عليه فشل تحليلاتهم، وخطل رأيهم، وضعف عقولهم إلا جلد العرب من جديد، وادعاء عصبيتهم لعروبتهم وقبائلهم، والزعم بأن دم كليب لا يزال ساخنا، وأن قميص عثمان ظل مرفوعا، في تعام عن الواقع، وتزوير للحقائق، وتضليل للعامة.
وأين دم كليب، وقميص عثمان من دول إسلامية سنية قامت في الشرق والغرب، وعلى مدى أربعة عشر قرنا، نعمت فيها بسلام كل الطوائف والمذاهب، بل حتى الكفار الأصليون من يهود ونصارى وغيرهم لم يجدوا ظلما ولا بخسا، وإن وُجد حاكم ظالم مستبد طال ظلمه الجميع، ولم يميز في ظلمه على أساس طائفي مذهبي أو عرقي أو ديني؛ وكم في دول أهل الإسلام في هذا العصر من طوائف متنوعة، ومذاهب مختلفة، وأقليات متباينة؛ فهل فعلت بهم دولهم السنية ما يفعله الصفويون الجدد بأهل السنة في العراق، وماذا سيفعل الصفويون بعموم المسلمين لو حكموا العالم الإسلامي كما يطمحون ويؤملون؟! أخزاهم الله تعالى وخذلهم، ورد كيدهم عليهم، وحفظ المسلمين من شرهم ومكرهم.
ولعل في هذه النوازل العظيمة، والوقائع المتسارعة، عبرة لأولي الأمر من المسلمين حتى يعرفوا أعداءهم من أصدقائهم، ويميزوا بين الناصحين لهم من أهل الخيانة والغش والتدليس.
ولعل فيها موعظة لعموم المسلمين حتى يصلحوا ما بينهم وبين الله تعالى، ويتوبوا من ذنوبهم، ويلجئوا إلى ربهم؛ فما أحوجهم إلى عون الله تعالى ومدده، وعافيته وحفظه، وتسديده وتثبيته، في وقت وقعوا فيه بين فكي المشاريع الصهيونية الإنجيلية، والطموحات الصفوية الفارسية. ( عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً ) [النساء:84].
ألا وصلوا وسلموا على نبيكم...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي