الظلم فاشٍ -يا سادة- في علاقة الكثيرين بمكفوليهم، وصوره متعددة، والله تعالى حرّم الظلم على ذاته المقدسة، حرم الظلم على نفسه وجعله بين العباد محرما: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا"، (وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ) [آل عمران:182]، (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:40].
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه ومختاره من خلقه وخليله، أشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وجاهد لله حق الجهاد حتى أتاه اليقين.
بلغ العلا بكماله *** كشف الدجي بجماله
حسُنت جميع خصاله *** صَلُّوا عليه وآله
اللهم صَلِّ وسلِّمْ وزِدْ وأنعِمْ عليه وعلى آله وصحابته وعترته كلما ذكره الذاكرون، وكلما غفل عن ذكره الغافلون.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: أوليات القرن الماضي -أيها الإخوة- كانت هذه البلاد وعموم الجزيرة العربية أرضاً قاحلة، بالكاد تجد فيها زرعا أو ضرعا، كان سكان هذه البلاد يتضورون جوعا، اللهم إلا شيء من لبن النوق، وشيء يسير مما تنتجه ثمرة النخل.
كان أهل الشمال منها والوسط ينزعون إلى تخوم الشام وإلى عراق الرافدين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، وكان أهل الجنوب يعبرون البحر إلى شرق إفريقيا، إلى السودان، إلى الصومال، إلى إريتريا، يتكسبون ويطلبون فضل الله تعالى، وبعض منهم إلى اليمن.
وأهل الحجاز كانوا ينتظرون الحاج حتى يبيعوا منه ويبتاعوا، هكذا كان حال الجزيرة إلى خمسينيات القرن الماضي حين أذن الله -سبحانه وتعالى- أن يخرج من بين فرث الأرض ورملها ذهب أسود يحيل ملح الماء عذبا فراتا، ويحيل وجه الحياة الكالح إلى ألوان زاهية.
ظهر في الناس ما يعرف بالطفرة، إحدى إفرازات هذه الطفرة أن تقوم البلاد باستقدام أعداد هائلة من العمالة ليقوموا بالخدمة، وهكذا جرت سنة الله -سبحانه وتعالى-.
ومن إفرازات هذه الطفرة ظهور مصطلح جديد، بمعنىً جديد، ألا وهو مصطلح "الكفيل"، فمن هو الكفيل؟ ومن هو المكفول؟ وما هي العلاقة الضابطة بينهما؟.
الكفيل ببساطة -أيها الإخوة- وباختصار شخص ولاه الله -عز وجل- شخصا آخر لا ينتقل إلا بإذنه، لا يطعم ولا يشرب إلا بإذنه، هو تحت امرته! إذاً؛ القضية مسؤولية وأمانة عظيمة جد عظيمة، لو عرضت على السموات الفسيحة، لو عرضت على الأرض الممتدة، لو عرضت على مشمخرات الجبال لنأت عنها وفرت وتصاغرت؛ (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب:72].
إن هذا الكيان، أعني كيان الكفيل، كيان مسؤولية وأمانة عظيمة أمام مكفول لا يملك من نفسه حولًا ولا قولا ولا يملك أمراً ولا نهيا! ويا للعجب! يبقى هذا المغترب البعيد الذي جاء ليقتات تحت إمرة هذا الكفيل الذي يعتريه ما يعتري الإنسان، أليس الكفيل يقبل ويدبر ويغضب ويفرح ويحزن ويألم ويجوع؟ يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ يعتريه ما يعتري البشر، نعم! كذلك يظل قدَر هذا الإنسان رهنا بهذا الكفيل الذي يعتريه ما يعتريه.
هذا الكفيل، مع عشرات النصوص التي تأمر بالعدل والإحسان، يبقى نص لو قرأه أحدنا -وكلنا كفيل على وجه الحقيقة، الأب كفيل على أبنائه، الكفيل كفيل على مكفوله، رب العمل على من تحته، الزوج كفيل على زوجته- يبقى أمامنا حديث عظيم تجثو له الركب، حديث معقل بن يسار الذي يقول فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما من عبد يسترعيه الله رعية فيموت يوم يموت وهو غاشّ لرعيّته إلا حرّم الله عليه الجنة!".
هذا الكفيل أمامه نصوص العدل والإحسان الآمرة بإقامة القسط والعدل، وأمامه هذا الحديث العظيم، فما بال المكفول؟ المكفول شخص مخر عباب الماء، وشق عنان السماء، وخبّ السير خبّاً، ترك أهله وولده وجاء ليقتات وليضرب في الأرض وليتكسب، هذا حال الأكثر، وإلا فثمة شبان لهم مآرب أخرى، والعبرة بالغالب، والشاذُّ والنادر لا حكم له.
هذا المكفول ربما كان أمام مفترق طرق، عنده خيارات: أن يغترب إلى البلاد الغربية والأخرى الشرقية، ولكنه اختار هذه البلد ليجمع الفضيلتين، وليكون بين الحُسْنَيَيْن، بين العمل والقرب من الحرمين، حرم مكة ومسجد الحبيب -صلى الله عليه وسلم-.
مَن هم هؤلاء المكفولون؟ من هم هؤلاء العمالة؟ ما واجباتهم؟ أي حق حقهم وأي مستحق مستحقهم؟.
المكفولون -يا سادة، باختصار- في مهنة الأنبياء ووظيفة الرسل؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: "ما أكل أحد طعاما خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده".
في صحيح الإمام مسلم، قال ابن عباس: "كان آدمُ حرَّاثاً، وكان إدريس خيّاطاً، وكان نوح نجاراً، وكان إبراهيم ولوط زرّاعين، وكان صالح تاجرا، وكان داود زرّاداً – أي حدادا يزرد الدروع- وكان موسى وشعيب ومحمد -صلى الله عليه وسلم- رعاة، وكان زكريا نجاراً".
إذاً؛ هم في مهن الأنبياء، يبنون مقدرات الوطن، يضعون لبناته، يصبرون على حَرّ شمسه ولأواء خدماته حتى يوفروا الراحة لغيرهم.
المكفولون هم في سبيل الله تعالى، شأنهم كشأن المجاهد في سبيل الله، صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث أنس أنه مَرّ رجلٌ فرأى أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- من جلَده ونشاطه فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله! قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن كان يسعى على أولادٍ صغار فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج على نفسه يسعى يعفها فهو في سبيل الله" أخرجه الطبراني والبيهقي وصححه الألباني.
هل نظرتنا إلى العمالة نظرة للخارجين في سبيل الله الذين تحسب لهم الدقائق والثواني ما داموا قد خرجوا واغتربوا وتركوا الأهل والوطن والمهجة والنفس من أجل أن يطعم ولده وأن يكفوا أبناءهم؟.
المكفولون -يا سادة- إخوة لا عبيد، أجراء لا أرقاء، عمال لا مملوكون، قال -عليه الصلاة والسلام- "إخوانكم خوَلكم تحت أيديكم، جعل الله أمرهم إليكم، فمن كان أخوه تحت يده فلْيطعِمْه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه ما لا يطيق".
هؤلاء المكفولون ضعفاء، فقراء، أخرجهم الفقر والعوز والحاجة، وإلا؛ فما ضريبة تركهم لأبنائهم؟ يمكثون بين ظهرانينا عشر سنوات يحرمون من أبنائهم وأهلهم! عشر سنوات حرمت زوجته منه، من أجل ماذا؟.
إذاً؛ هم ضعفاء يستحقون الرحمة لا القسوة، العطف لا الشدة، والنبي -عليه وآله الصلاة والسلام- يقول: "أبغوني ضعفاءكم، هل تُرْحَمُون أو تنصرون إلا بضعفائكم؟"، بدعوتهم.
ما بالك أيها الخطيب علا صوتك واشتد نحيبك وانتفخت أوداجك كأنك منذر تقول صبَّحَكُم ومَسّاكم؟! كأنه ليس في البلد قضية إلا قضية الكفلاء والمكفولين! نعم -أيها الإخوة-! لأن الناس حينما يتحدثون عن الفساد وعن الظلم مثلا يتحدثون عن صوره الكبيرة ويتركون فتات الصور الصغيرة المنتشرة في بيوتنا ومصانعنا ومعاملنا ومدارسنا ومخابزنا ومطاعمنا التي بمجموعها ربما تقضي علينا بكثير من الوبال، أو تمنع عنا كثيرا من الخير الذي يرسله الله -سبحانه وتعالى-.
الظلم فاشٍ -يا سادة- في علاقة الكثيرين بمكفوليهم، وصوره متعددة، والله تعالى حرّم الظلم على ذاته المقدسة، حرم الظلم على نفسه وجعله بين العباد محرما: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا"، (وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ)، (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:40].
ثَمَّ ظلم واقع لا نستطيع أن ننكره، لا نستطيع أن نمارس سياسة النعام ودسّ الرؤوس في التراب، لا نستطيع أن ندّعي مثالية زائفة وأننا شعب الله المختار وأننا نعامل هؤلاء العمالة كما كان يعاملهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أو سيدة بيت رسول الله عائشة أو أحد الصحابة.
صور من الظلم واقعة، من أقلها الظلم القولي، الازدراء، الاحتقار، نظرة الدون. لماذا تناديه: يا رفيق، يا صديق! هل ترضاها لنفسك؟ حتى لو كانت هذه المفردات جميلة في معناها الذي لم يتلبس بمعنى آخَر يحمل معنى الدون والازدراء والاحتقار.
الله -عز وجل- تفرد بالكبرياء لنفسه، بالعلو لذاته، فمَن نازعه شيئا منهما عاقبه الله تعالى، "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، نسمع في مجريات الأحاديث أحيانا أحدهم يقول بما بات مألوفا في أسماعنا: "شفت أجنبي بإقامة راكب لكزس!"، "شفت أجنبي بإقامة راكب لينكون". لماذا تستكثر عليه نعمة الله؟! لماذا تزدريه؟! والله -عز وجل- مقسم للأرزاق موزعها بحكمته البالغة.
شيئان نحمد الله أنهما بيده لا بيد غيره: الآجال والأرزاق؛ لأنهما لو كانتا بيدي وبيدك لافترينا وتجبرنا!
والظُّلْمُ مِن شِيَمِ النفوس فإنْ تَجِدْ *** ذَا عِـــفَّةٍ فَلِعِــلَّةٍ لا يَظْــلِمُ
الاحتقار والازدراء لا يجوز، الظلم القولي، أن تستكثر عليه حتى الزي الوطني! ما المشكلة في أن يلبس الأجنبي شماغا وغترة وعقالا وبشتا؟ لماذا تستكثره عليه؟ عن المعرور بن سويد قال: لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك فقال: إني ساببت رجلا فعيرته بأمه، فقال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا ذر، أعيّرتَه بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية".
يا هندي يا أجنبي، يا رفيق، يا صديق، يا ها...! لماذا كل هذا الاحتقار؟! كل من يفعل ذلك امرؤ فيه جاهلية، كبر أم صغر، تقدم أو تأخر، اغتنى أم افتقر، هذا حكم عام لم يسلم منه الصحابي الجليل أبو ذر -رضي الله عنه-! "يا أبا ذر، أعيّرتَه بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية"، "إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمَن كان أخوه تحت يده فلْيُطْعِمْهُ مما يأكل، ولْيُلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم".
إذا؛ الأرز واللحم اقسم له منه ولا تعطه ما قل من الطعام، إذا جئت بذبيحة فاجعل لهذا العامل نصيبا منها، إذا دخلت على أولادك بالفاكهة فاقسم له نصيبا منها، لا عذر يوم القيامة، (يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر:52]، (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) [غافر:18].
ثمة ألفاظ حسَنة، لا تُسَمِّهِ أجنبيا، سَمِّهِ واحدا، سمه ضيفا، سمه مغتربا، سمه مقيما، لا تسمه بهذا الاسم الذي لا يُحبه ويُشعِرُه بالعنصرية.
ألا وإن من صور الظلم الظلم الفعلي، وأشد أنواع الظلم الفعلي، الاستطالة بالضرب، النبي -عليه الصلاة والسلام- كما في حديث مسلم مر على أبي مسعود البدري، قال أبو مسعود: كنت أضرب غلاما لي بالسوط فسمعت صوتا من خلفي: "اِعْلَمْ أبا مسعود، اعلم أبا مسعود"، قال: فلم أعِ الصوت مِن الغضب، فلما دنا مني إذا هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: فسقط السوط هيبة لرسول الله -صلوات ربي وسلامه عليه-، فقلت: "يا رسول الله، لا أضرب مملوكا بعده أبداً"، قال: ثم قلت -في رواية أخرى-: "يا رسول الله، هو حُرٌّ لوجه الله"، قال فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "والله! لو لم تفعل؛ للفحتك النار"، أو "لمسَّتْك النار"
من صور الظلم الفعلي: إخلاف العقد، أتى به من الهند من باكستان من مصر من الشام أتي به بوظيفة معينة ثم غيرها، أتي به على راتب فإذا به يتغير حين وصل، استقدمه محاسبا فوجد نفسه سائقا أو بائعا أو حارسا، استقدمه على خمسة آلاف فإذا راتبه ألفان! إلى غير ذلك، والله تعالى يقول: (وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) [الإسراء:34].
من صور الظلم الفعلي تأخير الرواتب أو الانتقاص، منها والله تعالى يقول: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) [البقرة:188].
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -عليه الصلاة والسلام- نهى عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره.
الراتب حقه، ليس لك فيه ناقة ولا جمل، من أعجب ما سمعت أن بعض أرباب الأعمال يعطي هذا الأجير من زكاة ماله لا من حُر ماله! أكان يظن أن خدمته واجبة على العبيد، أو أنه يجري على عروقه الدماء الزرقاء من بين سائر الناس؟!.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: "قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره".
كم عدد الذين يؤخرون العمالة بالشهرين والثلاثة؟ كم عدد العاملات اللاتي ينتحرن مما يجدنه من الضيق والعنت؟!.
ألا إن من الظلم الفعلي أن يُسكن مكفوله في مكان لا يستطيع هو أن يسكنه، في غرفة أشبه ما تكون بالزنزانة!.
أدعوكم -حتى لا تقولوا إن الخطيب متحمس ويتكلم بما لا وجود له- أدعوكم لزيارة أي شقة معروضة فيها غرفة خادمة، انظروا إلى هذه الغرفة التي يجتمع فيها الحمام والمطبخ في مساحة لا تعدل (تسعة أمتار مربعة) في أحسن الأحوال!.
أحد الكفلاء كان يحبس مكفوله في الرياض في قضية عاصرتها أنا، كان يحبس مكفوله في غرفة فيها حمام، هذا المكفول غير مسلم من الجنسية الأثيوبية، خمسة أشهر وهو على هذا الحال، ثم فر بنفسه، استلمته مكاتب دعوة الجاليات فأسلم الرجل فجيء به إلى كفيله وقد تغير حاله، بل تحول إلى داعية أسلم على يديه كثير من أبناء جلدته، ولم يتغير من حال الكفيل شيء وأصر على بلاغه!.
من صور أذى الفعل أن بعضهم يحجز جواز المكفول، يمنعه من السفر وزوجته تستنجد به في بلاده تنتظر عفتها، تنتظر حنو زوجها، وأبناؤه يتشوقون ينتظرون قدوم والدهم، يحبس جوازه! ألم يمر على ذهن هذا الكفيل الظالم حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- الذي يقول فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "دخلت امرأة النار في هِرّةٍ حبستها، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض".
تأدية الحقوق من أعظم الواجبات، النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: "لَتُؤَدُّنَ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، والله بأبلغ من ذلك يقول: (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [غافر:17].
قدر من الظلم الواقع يكرسه الضغط المعرفي العام، تكرسه بعض وسائل الإعلام، قرأت مقالا منشورا في جريدة الرياض في رمضان الفائت يقول فيه الكاتب: لماذا يكره المواطن الأجنبي؟ ثم خلص إلى شحن المواطن بمزيد من العنصرية! شبه هذا الوافد بأنه غول يستنزف مقدرات البلد ويحرق مليوني برميل من النفط وأنه يتسلط على السلع التي تدعمها الدولة!.
كثير من هذا الكلام حق؛ لكن هذا الوافد هو الذي يستأجر من المواطن! وهو الذي يشتري منه السلعة، وهو الذي يعلم أبناءه ويبني طريقه ويعلي مبانيه! هو الذي ساهم في نهضة البلد، أيكون هذا تقديره؟!.
إننا مطالبون بإشاعة الأخوة، لا سيما إذا كان هذا الوافد مسلما، " إخوانكم خولكم"، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) إلى غير ذلك.
من صور الظلم: الظلم النفسي، التهديد بالترحيل، التهديد ببلاغ الهروب، إلى غير ذلك؛ والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: "كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لتضعيفهم من شديدهم؟".
إذا كنتُ قد ذكرت صورا موجودة في المجتمع فليس ذلك لأنني مغرق في السوداوية، ليس معنى ذلك أنه ليس في المجتمع كفلاء وأرباب عمل يمثلون نموذجا متحضرا، نموذجا إسلاميا، بل هم موجودون وبين أظهرينا، يحنون على المكفول ويقومون بمساعدته، بل بعضهم يتجاوز البحار والنجاد ويصل إلى بلد المكفول وتربطه به علاقة لا تنتهي ولا تنتفي.
هذه هي الصور التي نريد أن نشيعها، هذه هي الصور التي ينبغي أن تكون طافحة على السطح طافية عليه، لا صور الظلم والاستبداد، انظروا إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- المثل الأعلى: يحكي أنس -رضي الله عنه- أنه خدم النبي -عليه الصلاة والسلام- عشر سنين، إذاً؛ هذه التجربة تروي حكاية عقد من الزمن، فيه ما فيه من حرب وسلم، حل وترحال، جوع وشبع، فرح وترح، إقبال وإدبار، وغنى وافتقار، مع ذلك يقول: "خدمت النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين ما قال لي لشيء فعلته لما فعلته، ولا لشيء لم أفعله لما لم تفعله". رضي الله عن أنس وصلى الله وسلم على رسوله.
إذا كان أنس خادما جاء به ذووه طوعا ليخدم النبي؛ فإن زيدا كان مملوكا جيء به كرها ليكون عبدا مملوكا، ومع ذلك شرف بخدمة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فجاء أبوه وعمه لينتشلاه من حياة الرق إلى فضاء الحرية، لينقلاه من خدمة النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى أن يخدم في أهله وذويه، فأبى وقال: "لحياة الخدمة مع محمد -صلى الله عليه وسلم- أحب إلي من حياة الحرية مع غيره"! لِما أنِس من حنو النبي، من إشفاقه، من بركته، من رحمته.
النبي -عليه الصلاة والسلام- يدخل على بريرة، وبريرة كانت مملوكة أعتقها أهلها، ساعدتها على العتق عائشة فأصبح ولاؤها لعائشة، وصارت تخدمها، دخل عليها وعندها لحم في البرمة، قال: "ما هذا؟" قالت: " صدقة تُصُدِّقَ بها علينا"، قال: "يا بريرة، هو لك صدقة، ولنا منك هدية" فأكل منها.
يلاطف خدامه -صلى الله عليه وسلم-، يعاملهم المعاملة الحسنة، يطعمهم مما يأكل ومما يشرب صلى الله عليه وآله وسلم.
من حقك أن تقول: إن هذه الرتبة رتبة علية، وإن القياس بمحمد -صلى الله عليه وسلم- شأنه عظيم! فأقول: فتشبّهوا إن لم تكونوا مثلَهُم *** إن التشبُّهَ بالكرام فلاحُ
زين الدين العابدين علي بن الحسين -رضي الله عنه وأرضاه- كان عنده أمة مملوكة جاءت بشواء حار، تعثرت فسقط الشواء على ابن زين العابدين، بيت النبوة، بيت الطهر والنقاء، سقط على رأسه فمات، غضب؛ لأن هذا فلذة كبده، قالت: "يا مولاي، والكاظمين الغيظ!" قال: "كظمت غيظي"، قالت: "يا مولاي، والعافين عن الناس"، قال: "عفوت عنكِ"، قالت: "والله يحب المحسنين"، قال: "اذهبي فأنتِ حُرَّةٌ لوجه الله".
ما أحوجنا في العمل لأن نعلق هذه القصة على أروقته وأنْ نصدّر بها خطاباتنا الرسمية!.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والمواعظ والذكر الحكيم، وأقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه.
الحمد لله على إنعامه، والشكر له على تفضله وامتنانه، ولا إله إلا الله تعظيما لشانه، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه محمد وعلى آله وصحابته وإخوانه.
أما بعد: حدّثْتَنَا عن المشكلة، ألا حدثتنا عن الحل؟.
الحل -أيها الإخوة- أن يكون مقدر رقاب الخلق بيد جهات لا أفراد، أن تكون كفالة الوافدين على الدولة لا على أحد الأفراد، أو على مؤسسات وهيئات لا على أشخاص، وهي خطوة سابقة سبق إليها بعض الجيران في الخليج، وآمل أن تصل إلى هذا البلد المبارك بإذن الله.
اللهم إنا نسألك وندعوك ونرجوك ونتوسل إليك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى وأنت الحي الذي لا يموت، يا من جل جلاله وعلا سلطانه ولا إله غيره ولا نحصي ثناء عليه: اغفر لنا، وارحمنا، وتجاوز عن سيئاتنا، وتب علينا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي