هيئاتنا تاج على هاماتنا

إبراهيم بن صالح العجلان
عناصر الخطبة
  1. أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفضلهما .
  2. فوائد القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
  3. عقوبات ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
  4. الإشادة برجال الحسبة .
  5. محاسن رجال الحسبة .
  6. مشكلة هيئة الحسبة مع فئتين أقليتين .
  7. رجال الحسبة ليسو معصومين .
  8. واجبنا نحو رجال الحسبة .
  9. فضل عشر ذي الحجة .
  10. بعض الأعمال المشروعة في عشر ذي الحجة .

اقتباس

إخوة الإيمان: وحينما تروج ثقافة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعُزُّ سوقها فهنيئاً للمجتمع هذا الفخر، وتلك الخيرية، وذاك الأمان الموعود، فبإحياء هذه الشعيرة، تموت البدع، وتصان الأعراض، وتحمى الحرمات، وتحاصر الجريمة، فيكون الأمن، وتصلح الأحوال، وتعيش سفينة المجتمع حياتها الطيبة ببركة إحياء هذه الشعيرة المباركة. أما حينما يتخلى المجتمع عن هذه الشعيرة، فيطوي بساطها، ويقل أنصارها، فيندر الناصحون، ويشح…

الْخُطْبَةُ الْأُولَى:

هُوَ الْحِصْنُ الْحَصِينُ، وَالْوَثَاقُ الْمَتِينُ الَّذِي بِهِ تَتَمَاسَكُ عُرَى الدِّينِ، وَتُحْفَظُ حُرُمَاتُ الْمُسْلِمِينَ.

بِفُشُوِّهِ وَتَأْيِيدِهِ تَظْهَرُ أَعْلَامُ الشَّرْعِ وَالشَّرِيعَةِ، وَبِتَرْكِهِ وَالتَّقْصِيرِ فِيهِ تُنْشَرُ الرَّذَائِلُ وَالرَّذِيلَةُ، وَبِالْقِيَامِ بِهِ يَتَمَاسَكُ الْمُجْتَمَعُ، وَتَسْمُو أَخْلَاقُهُ، وَتَعْلُو آدَابُهُ، وَيَأْمَنُ أَفْرَادُهُ، وَتَصْلُحُ أَحْوَالُهُ.

هُوَ وَظِيفَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) [الأعراف: 157].

وَهُوَ أَبْرَزُ صِفَاتِ عِبَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [التوبة: 71].

وَبِسَبَبِهِ اسْتَحَقَّتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ الْخَيْرِيَّةَ بَيْنَ أُمَمِ الْبَشَرِ: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران: 110].

وَبَشَّرَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَكَرَ مِنْ صِفَاتِهِمْ أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.

وَوَعَدَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالْعِزِّ وَالتَّمْكِينِ، وَجَعَلَ مِنْ شَرْطِهِ الْقِيَامَ بِهَذَا الْوَاجِبِ الْكَبِيرِ: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) [الحـج: 41].

وَوَصَفَ رَبُّ الْعِبَادِ أَهْلَ هَذِهِ الْوَظِيفَةِ السَّامِيَةِ بِالْفَلَاحِ: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104].

وَغَضِبَ الْجَبَّارُ عَلَى أُمَمٍ سَالِفَةٍ، فَاسْتَحَقُّوا الطَّرْدَ وَاللَّعْنَ بِسَبَبِ تَعْطِيلِ هَذِهِ الشَّعِيرَةِ الْوَاجِبَةِ: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة: 78- 79].

وَبِالْقِيَامِ بِهِ حَقَّ الْقِيَامِ تُسْتَدْفَعُ الْعُقُوبَاتُ وَالنِّقَمُ: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) [هود: 116].

وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ" [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ].

إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: وَحِينَمَا تَرُوجُ ثَقَافَةُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَعِزُّ سُوقُهَا فَهَنِيئًا لِلْمُجْتَمَعِ هَذَا الْفَخْرُ، وَتِلْكَ الْخَيْرِيَّةُ، وَذَاكَ الْأَمَانُ الْمَوْعُودُ، فَبِإِحْيَاءِ هَذِهِ الشَّعِيرَةِ تَمُوتُ الْبِدَعُ، وَتُصَانُ الْأَعْرَاضُ، وَتُحْمَى الْحُرُمَاتُ، وَتُحَاصَرُ الْجَرِيمَةُ، فَيَكُونُ الْأَمْنُ، وَتَصْلُحُ الْأَحْوَالُ، وَتَعِيشُ سَفِينَةُ الْمُجْتَمَعِ حَيَاتَهَا الطَّيِّبَةَ بِبَرَكَةِ إِحْيَاءِ هَذِهِ الشَّعِيرَةِ الْمُبَارَكَةِ.

أَمَّا حِينَمَا يَتَخَلَّى الْمُجْتَمَعُ عَنْ هَذِهِ الشَّعِيرَةِ، فَيُطْوَى بِسَاطُهَا، وَيَقِلُّ أَنْصَارُهَا، فَيَنْدُرُ النَّاصِحُونَ، وَيَشِحُّ الْمُنْكِرُونَ، فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْأَخْيَارِ مِنَ الْفُجَّارِ، وَوَيْلٌ لِلصَّالِحِينَ مِنْ سَفَهِ الْجَاهِلِينَ.

إِذَا تَعَطَّلَتْ هَذِهِ الْفَرِيضَةُ أَوْ عُطِّلَتْ، شَاعَتِ الضَّلَالَةُ، وَفَشَتِ الْجَهَالَةُ، وَكَثُرَ الْمُتَلَصِّصُونَ عَلَى الْأَعْرَاضِ، وَالْمُتَجَرِّئُونَ عَلَى الْحُرُمَاتِ، وَرَاجَتْ ثَقَافَةُ التَّنَكُّسِ الْأَخْلَاقِيِّ، وَانْتَظِرْ حِينَهَا وَبَعْدَهَا عُقُوبَةَ السَّمَاءِ: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: "نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ".

إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: إِنَّ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ –تَعَالَى- عَلَى مُجْتَمَعِنَا وُجُودُ جَهَازٍ مُخْتَصٍّ لِلْحِسْبَةِ، وَمَرَاكِزَ لِلْهَيْئَةِ، يَعْمَلُ فِيهِ رِجَالَاتٌ يَدْعُونَ إِلَى النَّجَاةِ، وَيُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ.

فَأَهْلُ الِاحْتِسَابِ هُمْ –وَاللَّهِ- شَامَةُ الْمُجْتَمَعِ، وَرِجَالُهَا الْأُمَنَاءُ يَعْمَلُونَ بِصَمْتٍ بَعِيدًا عَنِ الْعَدَسَاتِ وَالْمُفَاخَرَةِ، يَسْعَوْنَ لِلصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ، وَيُصَارِعُونَ الْفَسَادَ، وَيُدَافِعُونَ الْإِفْسَادَ. فَكَمْ مِنْ سِحْرٍ أَبْطَلُوهُ! وَسَاحِرٍ هَتَكُوهُ! كَمْ مِنْ مَصْنَعٍ لِلْخَمْرِ أَرَاقُوهُ! وَمُرَوِّجٍ ضَبَطُوهُ! وَكَمْ مِنْ عِرْضٍ حَفِظُوهُ! وَوَلِيٍّ غَافِلٍ أَيْقَظُوهُ! وَكَمْ مِنْ صَاحِبِ شَهْوَةٍ مَسْعُورَةٍ أَرْكَسُوهُ! وَشَابٍّ تَائِهٍ لِلْحَقِّ وَلَّوْهُ!

هُمْ أَحَدُ أَسْبَابِ اسْتِتْبَابِ أَمْنِنَا، وَدَفْعِ الشُّرُورِ عَنَّا، لَهُمْ جُهُودٌ لَا تُنْكَرُ، وَعَطَاءٌ جَزِيلٌ يُذْكَرُ فَيُشْكَرُ، إِنْجَازَاتُهُمْ فَوْقَ إِمْكَانَاتِهِمْ، وَيُمْضُونَ فِي الْعَمَلِ جُلَّ أَوْقَاتِهِمْ، وَخَارِجَ دَوَامَاتِهِمْ، وَقْتُهُمْ لِلْجَمِيعِ مُتَاحٌ، لَا يَبْغُونَ مِنْ أَحَدٍ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا.

نَحْنُ لَا نُدَافِعُ عَنِ الْهَيْئَاتِ وَرِجَالَاتِهَا، فَأَفْعَالُهُمْ تُحَامِي عَنْهُمْ، وَبَصَمَاتُهُمْ تَحْكِي جُهُودَهُمْ، وَآثَارُهُمْ تَذُبُّ دُونَهُمْ.

فَحَسْبُهُمْ أَنَّهُمُ السَّاهِرُونَ وَالنَّاسُ نَائِمُونَ، حَسْبُهُمْ أَنَّهُمْ قَامُوا غَيْرَةً عَلَى الدِّينِ وَالنَّاسُ بِدُنْيَاهُمْ مَشْغُولُونَ، حَسْبُهُمْ أَنَّهُمْ يَبْذُلُونَ وَالنَّاسُ يَلُومُونَ.

يَا مَنْ إِذَا نِمْنَا بِثَوْبِ أَمْنِنَا *** فَتَحُوا الْعُيُونَ النَّاعِسَاتِ لِتَسْهَرَا

وَحِينَمَا يَتَكَلَّمُ الْعَقْلُ، وَتَنْطِقُ الْحُجَجُ، وَتَتَحَدَّثُ لُغَةُ الْأَرْقَامِ، فَلَا تَسْمَعُ عَنِ الْهَيْئَاتِ إِلَّا إِشَادَةَ مَجْلِسِ الشُّورَى، وَثَنَاءَ وَزَارَةِ الدَّاخِلِيَّةِ، وَتَزْكِيَةَ أُمَرَاءِ الْمَنَاطِقِ، وَإِطْرَاءَ قَادَةِ الْأَمْنِ، وَمُكَافَحَةِ الْمُخَدَّرَاتِ، عَلَى جُهُودِهِمُ الْمَبْذُولَةِ، وَعَطَائَاتِهِمُ الْمَلْمُوسَةِ.

هَؤُلَاءِ هُمْ رِجَالَاتُ الْحِسْبَةِ، وَهَذَا أَثَرُهُمْ وَجَمِيلُهُمْ عَلَى الْمُجْتَمَعِ وَالْأَمْنِ، عَرَفَهُ الْعُلَمَاءُ، وَالْوُلَاةُ، وَالْمَسْؤُولُونَ، وَعَرَفَهُ أَيْضًا كُلُّ مُسْلِمٍ عَاقِلٍ غَيُورٍ يَنْشُدُ الصَّلَاحَ، وَيَسْعَى إِلَى الْإِصْلَاحِ.

هَذَا الْجَهَازُ الشَّرْعِيُّ الْمُبَارَكُ، وَالْوَاضِحُ أَثَرُهُ فِي صِيَانَةِ الْأَخْلَاقِ، وَتَحْجِيمِ الْفَسَادِ، مِنَ الطَّبِيعِيِّ أَنْ لَا يَرْضَى عَنْهُ أَقْوَامٌ يَسْتَبْشِرُونَ بِالْمُنْكَرِ، وَيَشْمَئِزُّونَ مِنَ الْمَعْرُوفِ؛ وَلِذَا يَتَعَرَّضُ هَذَا الْجَهَازُ لِحَمَلَاتٍ إِعْلَامِيَّةٍ غَيْرِ نَزِيهَةٍ، تَلُوحُ فِي الْأُفُقِ حِينًا بَعْدَ حِينٍ، حَمَلَاتٍ تُنَادِي صَرَاحَةً بِتَحْجِيمِ دَوْرِ الْهَيْئَةِ، وَتَحْجِيمِ صَلَاحِيَّاتِهَا.

بَرَامِجُ وَأُطْرُوحَاتٌ تُصَوِّرُ هَذَا الْجَهَازَ بِصُورَةٍ بَشِعَةٍ مُنَفِّرَةٍ، حَتَّى لَكَأَنَّ هَذَا الْجَهَازَ هُوَ مَجْمُوعَةُ أَخْطَاءٍ لَيْسَ إِلَّا.

وَكَأَنَّ الْمُجْتَمَعَ بَعْدَ هَذَا التَّضْخِيمِ الْإِعْلَامِيِّ فِي صِرَاعٍ دَائِمٍ مَعَ الْهَيْئَةِ، وَأَنَّ هَذَا الْجِهَازَ يُسَابِقُ لِلتَّشَاكُسِ مَعَ النَّاسِ.

لَقَدْ سَئِمْنَا –وَاللَّهِ- هَذَا الْهُرَاءَ، وَهَذَا الزُّورَ الْإِعْلَامِيَّ، وَهَذَا التَّحَيُّنَ الْمُسْتَمِرَّ لِكُلِّ خَطَأٍ يُسْمَعُ عَنِ الْهَيْئَاتِ؛ لِيُجْعَلَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَادَّةً خَصْبَةً لِلْأَفَّاكِينَ وَالْأَفَّاكَاتِ.

لَقَدْ ضَاقَتْ صُدُورُهُمْ عَنْ نَشْرِ مَحَاسِنِ رِجَالِ الْحِسْبَةِ، وَجُهُودِهِمُ الْبَيْضَاءِ عَلَى الْمُجْتَمَعِ وَالْبِلَادِ، وَاتَّسَعَتْ صُدُورُهُمْ عَلَى تَحَسُّسِ الْأَخْطَاءِ، وَتَلَمُّسِ الْمَزَالِقِ، وَالسَّيْرِ بِهَا فِي الْآفَاقِ، حَتَّى لَيَصْدُقَ فِيهِمْ قَوْلُ الْقَائِلِ:

إِنْ يَسْمَعُوا سُبَّةً طَارُوا بِهَا فَرَحًا *** هَذَا وَمَا سَمِعُوا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوا

نَعَمْ لِلْهَيْئَةِ مُشْكِلَةٌ، وَلَكِنْ لَيْسَ مَعَ الْمُجْتَمَعِ. مُشْكِلَةُ الْهَيْئَةِ مَعَ فِئَتَيْنِ أَقَلِّيَّتَيْنِ:

الْفِئَةُ الْأُولَى: هُمْ أَرْبَابُ الشَّهَوَاتِ، الَّذِينَ تَقِفُ الْهَيْئَةُ حَاجِزًا دُونَ أَهْوَائِهِمُ الْمُنْحَطَّةِ وَشَهَوَاتِهِمُ الْهَائِجَةِ، وَأَمَانِيِّهِمُ الْمُحَرَّمَةِ: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) [النساء: 27].

وَالْفِئَةُ الثَّانِيَةُ: هُمْ بَعْضُ الْمَوْتُورِينَ فِكْرِيًّا، وَالَّذِينَ لَدَيْهِمْ أَصْلًا مُشْكِلَةٌ، وَعَدَمُ قَنَاعَةٍ مَعَ شَعِيرَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ فَعَمَلُ الْهَيْئَةِ فِي مَنْطِقِهِمْ مُصَادِمٌ لِلْحُرِّيَّاتِ الشَّخْصِيَّةِ، وَالْهَيْئَةُ فِي تَخَيُّلِهِمْ تَقِفُ فِي وَجْهِ التَّقَدُّمِ، وَحَقِّ الْمَرْأَةِ، فَتَنْهَى عَنِ الِاخْتِلَاطِ، وَتَأْمُرُ بِالْحِجَابِ.

وَنَسَوْا أَوْ تَنَاسَوْا أَنَّ الدِّينَ وَالدَّوْلَةَ قَدْ أُمِرَا بِالرِّقَابَةِ عَلَى الْقِيَمِ الشَّرْعِيَّةِ، وَحِفْظِ أَخْلَاقِ الْمُجْتَمَعِ مِنَ الِانْفِلَاتِ وَالتَّفَلُّتِ، وَأَنَّ الْهَيْئَةَ أَيْضًا تَسِيرُ فِي تَوَجُّهِهَا وَعَمَلِهَا عَلَى فَتْوَى عُلَمَائِهَا، وَوَصَايَا وَتَوْجِيهَاتِ مُؤَسِّسِ بَلَدِهَا، فِي النَّهْيِ عَنِ التَّبَرُّجِ وَالِاخْتِلَاطِ، وَمُحَارَبَةِ الْفَسَادِ، وَتَحْجِيمِ الْمُنْكَرَاتِ.

مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ: "إِنَّ الْهَيْئَةَ فَوْقَ النَّقْدِ وَلَيْسَ عِنْدَهَا أَخْطَاءٌ" فَهَذَا قَوْلٌ لَا يَتَفَوَّهُ بِهِ عَاقِلٌ، وَالْخَطَأُ وَارِدٌ مَعَ كُلِّ عَامِلٍ.

نَعَمْ لِلْهَيْئَةِ أَخْطَاءٌ، وَلِأَفْرَادِهَا تَجَاوُزَاتٌ، فَهُمْ بَشَرٌ لَا نَدَّعِي لَهُمُ الْكَمَالَ، وَلَا نَعْصِمُهُمْ مِنَ الْخَلَلِ.

وَإِذَا وُجِدَ الْخَطَأُ فَالْعَقْلُ وَالْمَنْطِقُ وَالْعَدْلُ أَنْ يُوضَعَ الْخَطَأُ فِي مَكَانِهِ الطَّبِيعِيِّ، وَيُحَاسَبَ فَاعِلُهُ، وَلَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَضْلًا عَنِ الْجَهَازِ كُلِّهِ.

وَفِي رِئَاسَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ لِجَانُ تَحْقِيقٍ وَمُتَابَعَةٍ وَمُحَاسَبَةٍ عَلَى هَذِهِ الْأَخْطَاءِ وَالتَّجَاوُزَاتِ.

وَلَوْ كَانَتْ عُقُوبَةُ الْخَطَأِ الْإِلْغَاءَ أَوِ التَّحْجِيمَ لَمَا بَقِيَ لَنَا عَمَلٌ وَلَا عَامِلٌ وَلَا مُؤَسَّسَةٌ حُكُومِيَّةٌ وَلَا أَهْلِيَّةٌ.

نَتَمَنَّى مِنْ صُحُفِنَا وَإِعْلَامِنَا أَنْ يَتَعَامَلَ مَعَ أَخْطَاءِ الْهَيْئَةِ كَتَعَامُلِهِ مَعَ أَخْطَاءِ الْآخَرِينَ.

مَحَاكِمُنَا مَلِيئَةٌ بِقَضَايَا مُوَظَّفِينَ عَسْكَرِيِّينَ وَمَدَنِيِّينَ عَلَى الْأَمْوَالِ وَالْأَرْوَاحِ وَالْأَعْرَاضِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ نَرَ الصُّحُفَ تُشَهِّرُ بِهَا وَتَنْشُرُهَا كَمَا تَفْعَلُ مَعَ أَخْطَاءِ الْهَيْئَةِ!

نَتَمَنَّى مِنْ صُحُفِنَا وَكُتَّابِنَا إِذَا كَانَ الْمَجَالُ مَجَالَ أَخْطَاءٍ وَغَيْرَةٍ عَلَى الْمُجْتَمَعِ وَالْوَطَنِ أَنْ يُشَهِّرُوا وَيَنْشُرُوا أَخْطَاءَ مَنْ يَطْعَنُ فِي تُرَاثِ الْأُمَّةِ، وَيَهْزَأُ بِثَوَابِتِهَا وَقِيَمِهَا.

نَتَمَنَّى مِنْ دُعَاةِ الْحُرِّيَّةِ الصَّحَفِيَّةِ أَنْ يَنْشُرُوا فَقَطْ مَنْ يَنْتَقِدُ وَيُحَذِّرُ مِنْ أَخْطَاءِ مُلَّاكِ الْقَنَوَاتِ، الَّذِينَ أَمْطَرُوا مُجْتَمَعَاتِ الْمُسْلِمِينَ بِوَابِلٍ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ.

وَنَتَمَنَّى أَيْضًا بَعْدَ ذِكْرِ الْأَخْطَاءِ أَنْ نَتَذَكَّرَ مَعَهَا وَبَعْدَهَا سُبُلَ عِلَاجِهَا: مِنْ زِيَادَةِ عَامِلِيهَا، وَتَعْدِيلِ رَوَاتِبِ سُلَّمِ مُوَظَّفِيهَا، وَتَوْفِيرِ وَسَائِلِ التَّقْنِيَةِ بَيْنَ أَفْرَادِهَا، مَعَ إِقَامَةِ الدَّوَرَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالتَّرْبَوِيَّةِ فِي كَيْفِيَّةِ مُوَاجَهَةِ الْأَخْطَاءِ، وَطُرُقِ عِلَاجِهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الطُّرُقِ الْعِلَاجِيَّةِ الَّتِي تَدْعَمُ الْهَيْئَاتِ وَتُطَوِّرُهَا، وَتَضْمَنُ اسْتِمْرَارَهَا وَدَيْمُومَتَهَا.

وَبَعْدُ، إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: فَإِنَّ مِنْ حَقِّ رِجَالِ الْحِسْبَةِ وَمِنْ رَدِّ شَيْءٍ مِنْ جَمِيلِهِمْ عَلَيْنَا أَنْ يُشَدَّ مِنْ أَزْرِهِمْ، وَتُحْفَظَ مَكَانَتُهُمْ، وَتُرْفَعَ مَعْنَوِيَّاتُهُمْ، مَعَ إِعَانَتِهِمْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَمُوَاسَاتِهِمْ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ وَالْبَلْوَى.

وَأَنْ لَا نَسْمَحَ أَنْ تَكُونَ أَعْرَاضُهُمْ كَلَأً مُبَاحًا لِلْمُغْرِضِينَ وَالْمُغْرِضَاتِ.

وَسَتَظَلُّ الْهَيْئَةُ وَرِجَالُهَا الصَّادِقُونَ مَعْلَمًا مِنْ مَعَالِمِ تَمَيُّزِنَا، وَحُبُّهُمْ دَمًا يَجْرِي فِي عُرُوقِنَا، وَمَحَلُّهُمْ سُوَيْدَاءَ قُلُوبِنَا، وَسَنَظَلُّ نُدَافِعُ عَنْهُمْ، وَنُصَحِّحُ أَخْطَاءَهُمْ، وَنُخْلِصُ النُّصْحَ لَهُمْ، وَنَدْعُو اللَّهَ بِبَقَائِهِمْ وَإِعَانَتِهِمْ.

سَنَظَلُّ نَذْكُرُكُمْ وَنَذْكُرُ بَذْلَكُمْ *** فَلَقَدْ بَنَيْتُمْ فِي الْقُلُوبِ قَوَاعِدَا

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِمَا مِنَ الْآيَاتِ وَالْحِكْمَةِ.

قُلْتُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

أَمَّا بَعْدُ:

فَيَا إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: وَهَا نَحْنُ نَتَحَيَّنُ مَوْسِمًا مِنْ مَوَاسِمِ الرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ، أَيَّامٌ يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَرْضَاهَا، وَيَجْزِي أَهْلَهَا الْجَزَاءَ الْمُضَاعَفَ.

لَقَدْ عَمَّ فَضْلُ اللَّهِ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ وَطَابَ، بِهَذِهِ الْعَشْرِ الْمُبَارَكَاتِ الَّتِي أَوْدَعَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْخَيْرِيَّةِ وَالْفَضَائِلِ مَا لَمْ يُودِعْهُ فِي غَيْرِهَا، وَيَكْفِي اسْتِشْعَارًا لِفَضْلِهَا أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ -وَالَّذِي هُوَ ذِرْوَةُ سَنَامِ الْإِسْلَامِ، وَأَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهِ مِئَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ- لَا يُعَادِلُ أَجْرُهُ وَثَوَابُهُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَيَّامِ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي هَذِهِ" قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ؟! قَالَ: "وَلَا الْجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ" [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ].

فَهَذِهِ الْأَيَّامُ الْغَالِيَةُ حَقُّهَا أَنْ يُفْرَحَ وَيُحْتَفَى فِي اسْتِقْبَالِهَا، حَقُّهَا أَنْ تُجَدَّدَ فِيهَا التَّوْبَةُ الصَّادِقَةُ مَعَ اللَّهِ، فَكُلُّنَا مُقَصِّرٌ، وَكُلُّنَا ذَلِكَ الْخَطَّاءُ.

حَقُّ هَذِهِ الْأَيَّامِ الثَّمِينَةِ أَنْ تُمْلَأَ بِالذِّكْرِ وَالْقُرْآنِ، وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ. وَمِنْ وَصَايَا نَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهَا: "فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَالتَّحْمِيدِ".

وَثَبَتَ عَنْ حَبِيبِنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ" [رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ].

فَأَيَّامُكُمُ الْقَادِمَةُ قَلِيلٌ زَمَانُهَا، لَكِنَّهَا مَلْأَى بِكُنُوزِ الْحَسَنَاتِ، وَعَظِيمِ الْأُجُورِ، فَلْيَكُنْ شِعَارُنَا وَلِسَانُ حَالِنَا: لَعَلِّي لَا أَلْقَاكِ بَعْدَ عَامِي هَذَا.

اللَّهُمَّ أَعِنَّا لِعَمَلِ الصَّالِحَاتِ، وَجَنِّبْنَا الْمُنْكَرَاتِ، وَاهْدِنَا لِسَبِيلِ الرَّشَادِ، وَوَفِّقْنَا لِلِاسْتِعْدَادِ لِيَوْمِ الْمَعَادِ.

وَصَلُّوا عَلَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ، وَأَزْكَى الْبَشَرِيَّةِ...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي