لن يخرج أحد من هذه الحياة الدنيا حتى يرى الحسن من عمله والسيئ منه، وإنما الأعمال بالخواتيم، وما الليل والنهار إلا مطيتان فأحسنوا السير فيهما إلى الآخرة، ولتحذروا التسويف والتفريط، ولا تكونوا ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة لطول الأمل، فإن الآجال مغيبة، والموت يأتي بغتة، فلا يغترنّ أحدكم بحلم الله عز وجل فإن الله يمهل ولا يهمل، وإن الجنة والنار أقرب ..
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، وتقربوا إليه -جل وعلا- بصالح الأعمال وكثرة التوبة والاستغفار؛ فإن الله -تعالى وهو اللطيف الخبير- قد علم ما في الخلق من ضعف، وما هم عليه من قصور ونقص قد يحملهم على ارتكاب الذنوب، واقتراف المعاصي، ففتح لهم -سبحانه- باب الأمل والرجاء في العفو والمغفرة، وأمرهم أن يلجؤوا إلى ساحات كرمه وخزائن فضله، فهو -سبحانه- رحيم بمن رجاه، قريب ممن دعاه، والخطأ والتقصير مما جبل عليه البشر، والسلامة من ذلك مما لا مطمع فيه لأحد، فقد قال -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه مسلم في صحيحه: "والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله -تعالى- بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله -تعالى- فيغفر لهم".
وإن شأن الكمّل من أهل التقوى وأرباب الهدى أنهم إذا أذنبوا استغفروا، وإذا أخطؤوا تابوا كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون" رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما .
وإن من واسع فضل الله على العباد أنه يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وأنه -تعالى- يغفر الذنوب كلها؛ فعلى العبد ألا يقنط من رحمة ربه وإن عظمت ذنوبه وكثرت آثامه، فقد قال -عز وجل-: (وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ) [الحجر:56].
وروى الترمذي وغيره عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "قال الله -تعالى-: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة".
ولقد أمر الله -تعالى- رسوله -صلى الله عليه وسلم وهو أتقى الخلق- بإخلاص الدين وإدامة الاستغفار، فقال -عز وجل-: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) [محمد:19].
فكان -صلى الله عليه وسلم- ملازماً للاستغفار آناء الليل وأطراف النهار، حتى قال عن نفسه -صلى الله عليه وسلم-: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة" رواه البخاري في صحيحه.
وروى أبو داود والترمذي وصححه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كنا نعد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المجلس الواحد مائة مرة يقول: "ربِّ اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم".
وهكذا شأن أرباب العزائم وأهل الإيمان الخلّص، يلجؤون إلى الله على الدوام، ويكثرون التوبة والاستغفار، صادقين مخلصين غير يائسين ولا مصرين، قد ملأت خشية الله قلوبهم، ورسخت في مقام الإحسان أقدامهم، فهم بين مراقبة ربهم وشهود أعمالهم (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ) [آل عمران:16-17].
أولئك هم العارفون المتقون، يؤدون الفرائض، ويكثرون من الطاعات والنوافل، ثم يسارعون إلى الاستغفار خشية التقصير أو الإخلال فيما قدموا من صالح الأعمال (كَانُواْ قَلِيلاً مّن الَّليْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات:17،18].
ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن فرغ من تبليغ رسالة ربه وبلغ البلاغ المبين أمره ربه أن يكثر من الذكر والاستغفار فقال -سبحانه-: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً * فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوابَا) [النصر:1-3].
وكان -عليه الصلاة والسلام- إذا فرغ من صلاته بادر إلى الاستغفار، وحجاج بيت الله الحرام مأمورون بالاستغفار بعد الإفاضة من عرفة والمشعر الحرام (ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [البقرة:199].
عباد الله: إن من رحمة الله بكم ومزيد فضله عليكم ما رتب على الاستغفار من عظيم الجزاء وسابغ الفضل والعطاء؛ فإن كثرة الاستغفار والتوبة من أسباب تنزل الرحمات الإلهية، والألطاف الربانية، والفلاح في الدنيا والآخرة، كما قال -سبحانه-: (لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [النمل:46]، وقال -عز وجل-: (وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور:31].
وإذا كثر الاستغفار في الأمة وعم أفرادها، وصدر عن قلوب موقنة مخلصة دفع الله به عن العباد والبلاد ضروباً من البلاء والنقم، وصنوفاً من الرزايا والمحن؛ كما قال -عز وجل-: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال:33].
وإن من آثار الاستغفار أنه سبب لنزول الغيث المدرار، وحصول البركة في الأرزاق والثمار، وكثرة النسل والنماء؛ كما قال -سبحانه- حكاية عن نوح -عليه السلام-: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً) [نوح:10-12].
والمستغفرون يمتعهم ربهم متاعاً حسناً، فيهنؤون بحياة طيبة، ويسبغ عليهم -سبحانه- مزيداً من فضله وإنعامه: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) [هود:3].
وفي ملازمة الاستغفار تفريج الكرب والهموم، والمخرج من ضائقات الأمور، وحصول الرزق من حيث لا يحتسب العبد؛ ففي الحديث عند الإمام أحمد وأبي داود وابن ماجه: "من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب".
فهذه -يا عباد الله- بعض فضائل الاستغفار ومنافعه جلاّها لنا ربنا في كتابه، وأفصح عنها رسوله -صلى الله عليه وسلم- فيما صح من خبره، تحمل أهل الإيمان وأرباب التقوى على البدار بالتوبة وكثرة الاستغفار، غير أن هذه المنح الإلهية والفضائل الربانية إنما تحصل للمستغفرين الله -تعالى- حقاً وصدقاً؛ إذ الاستغفار ليس بأقوال ترددها الألسن، وعبارات تكرر بين الحين والآخر فحسب، وإنما الاستغفار الحق ما تواطأ عليه القلب واللسان، وندم صاحبه على ما بدر منه من ذنوب وآثام، وعزم ألا يعود على اقتراف شيء من ذلك؛ إذ هذه أركان التوبة النصوح التي أمر الله -تعالى- بها العباد، ووعد عليها تكفير الخطيئات والفوز بنعيم الجنات، فقال -عز شأنه-: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) [التحريم:8].
قال الإمام القرطبي – رحمه الله -: "قال علماؤنا: الاستغفار المطلوب هو الذي يحل عقد الإصرار، ويثبت معناه في الجنان، وليس التلفظ بمجرد اللسان، فمن استغفر بلسانه، وقلبه مصرّ على معصيته، فاستغفراه يحتاج إلى استغفار"، وقال بعض العلماء: "من لم يكن ثمرة استغفاره تصحيح توبته فهو كاذب، والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه".
فاتقوا الله -عباد الله- وتذكروا أن في حوادث الزمان، وفجائع الأيام ما يحمل أولي الألباب والنهى وذوي الإيمان والتقى على الاعتبار والإدكار، والعودة إلى الله الواحد القهار، والاعتصام بهدي القرآن، واقتفاء هدي سيد الأنام، والإقبال على طاعة الله ومرضاته وكثرة التوبة والاستغفار؛ فإن ذلك من أعظم الأسباب لحلول الأمن في البلاد، وإضفاء الطمأنينة في نفوس العباد، وهو وحده الكفيل بحفظ أمة الإسلام في كافة بلادها، ومختلف مجتمعاتها من كل ما تخشى وتحاذر.
فأقبلوا على ربكم وأطيعوه، واستغفروه وتوبوا إليه، فقد قال -عز شأنه-: (قُلْ يا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ) [الزمر:53-54].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه, وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102] ، وتذكروا أنه لن يخرج أحد من هذه الحياة الدنيا حتى يرى الحسن من عمله والسيئ منه، وإنما الأعمال بالخواتيم، وما الليل والنهار إلا مطيتان فأحسنوا السير فيهما إلى الآخرة، ولتحذروا التسويف والتفريط، ولا تكونوا ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة لطول الأمل؛ فإن الآجال مغيبة، والموت يأتي بغتة، فلا يغترنّ أحدكم بحلم الله -عز وجل- فإن الله يمهل ولا يهمل، وإن الجنة والنار أقرب إلى أحدكم من شراك نعله.
وإن من نفاذ البصيرة، وصدق الإيمان كثرة التوبة والاستغفار على الدوام، فذلك هدي رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- مع أن الله -تعالى- قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يقول أبو هريرة -رضي الله عنه-: "ما رأيت أكثر استغفاراً من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
وإن مما صح عنه -عليه الصلاة والسلام- من جوامع أدعية الاستغفار، ومما وجه الأمة إليه ما روى البخاري في صحيحه عن شداد بن أوس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني، وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استعطت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها من النهار موقناً فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة".
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه؛ غفرت ذنوبه وإن كان قد فرّ من الزحف" رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه.
وفي الصحيحين: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي", وروى مسلم في صحيحه أن من آخر ما كان يقول -صلى الله عليه وسلم- في صلاته قبل التسليم: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر, لا إله إلا أنت".
فاتقوا الله -عباد الله- وبادروا بالتوبة، ولازموا الاستغفار، وتعرضوا لنفحات ربكم في الجهر والإسرار.
وصلوا وسلموا على سيد المستغفرين وخاتم النبيين ...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي