عباد الله: من أعظم الأمانات وأكبر المسئوليات، والتي منها تتخرج الأجيال، وتصنع العقول، ويربى الأبناء، فيه تصنع القدوات، ومنه تسير الأخلاق، وعنه تنبع القدرات: أمانة البيت. إنها أمانة البيت، ومن المسئول عنها إلا أنتم -أيها الآباء-، وقضيتنا المطروحة اليوم سؤال مهم آباء غافلون عن البيوت لماذا؟!
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه...
اتقوا الله: فإن تقوا الله عليها المعول، وعليكم بما كان عليه سلف الأمة والصدر الأول.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحـج: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70- 71].
ثم أما بعد:
عباد الله: عندما نستشعر الأمانة، ونتذكر عظم الحمالة، ويدور في الخلد عظم المسألة، وتعلم أن الحمل ثقيل، وأن العقبة كؤود، وأن الناقد بصير، وأن الرب محيط خبير.
إذا علمنا ذلك، وتذكرناه، تفكرنا في الحياة وفنائها، والقيامة وحسابها، وأن الكل موقوف، ومن علم أنه موقوف فليعلم أنه مسئول، ومن علم أنه مسئول فليعد للسؤال جوابا، وللجواب صوابا، وللصواب صواب نية وإخلاص عمل، فربنا غني عن عمل الطائعين، فضلا عن عمل المرآئين: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه".
وفي رواية: "فأنا منه بريء، هو للذي عمله" [رواه مسلم].
وروي عن شداد بن أوس: "أنا خير قسيم لمن أشرك بي شيئا، من اشرك بي شيئا فإن عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك بي، أنا عنه غني"[رواه الطيالسي].
وروي أيضاً عن أنس: "يُجاء يوم القيامة بصحف مختمة، فتنصب بين يدي الله تعالى، فيقول الله تعالى للملائكة: ألقوا هذا واقبلوا هذا، فتقول الملائكة: وعزتك ما رأينا إلا خيرا، فيقول الله -عز وجل- وهو أعلم: إن هذا كان لغيري، ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما كان ابتغي به وجهي"[أخرجه الإمام أحمد].
وفي رواية: "إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من عمل لغير الله فليطلب ثوابه ممن عمل له".
نسأل الله العفو والعافية، وإخلاص العمل، والفوز في الدنيا والآخرة.
عباد الله: من أعظم الأمانات وأكبر المسئوليات، والتي منها تتخرج الأجيال، وتصنع العقول، ويربى الأبناء، فيه تصنع القدوات، ومنه تسير الأخلاق، وعنه تنبع القدرات: أمانة البيت.
إنها أمانة البيت، ومن المسئول عنها إلا أنتم -أيها الآباء-، وقضيتنا المطروحة اليوم سؤال مهم آباء غافلون عن البيوت لماذا؟!
غفلة غياب، أو غفلة متابعة، فآباء حاضرون حاضرون، وآخرون حاضرون غائبون، وآخرون غائبون غائبون.
إذا ما رأس أهل البيت ولى *** بدا لهم من الناس الجفاء
إن دور الأبوة ليس الاهتمام بالغذاء والدواء، أو العناية بالألبسة والسفريات، أو وسائل الترفيه والنزهات.
تلك شيء من الحقوق، وذلك نوع من الوفاء، ولكن الأهم والأجل والأعظم هو التربية، تربية على الدين والأخلاق، والتعامل والتواضع، واحترام الآخرين، وصحبة الصالحين، وتجنب طريق المفسدين، والعفة عما في أيدي العالمين، والألفة مع سائر المسلمين.
"كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته".
(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب: 72].
إذا كان هذا الواجب فقولوا بربكم كيف يقوم بهذا من جل أوقاته غائب عن بيته في الاستراحات، أو طرق المخدرات، أو في اللهو والمقاهي والتنزهات، أو في الأعمال والأسواق والأصحاب وسائر الانشغالات، بكثرة السفريات يتهرب من البيت بلا مبالاة، فإما هارب وإما نائم.
"آباء" عن بيوتهم "غرباء" كيف يقومون بالرسالة، أو يحملون مسئولية، أو يضعون جبلا؟
إذا كان رب البيت بالطبل ضارباً *** فشيمت أهل البيت كلهم الرقص
نساء تشتكي عزوف وغربة الأزواج، وأطفال يفتقدون الحنان، وشباب ينشدون التربية والتوجيه، وفهم الخطاب.
"إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، ولجسدك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه"[أخرجه الترمذي وغيره].
إن أولادنا اليوم بأمس الحاجة إلى فهم المرحلة، فمن الآباء من يرغب أن يعيش أبناؤه كما يعيش هو الآن.
بقاء في المنزل ونوم مبكر *** ولبس منضبط وأكل معَين
وغير ذلك من رغبات كبار السن.
لا شك أن حصول هذا أمر محمود، وطيب ومرغوب، ولكن الأب الكريم لو راجع أيام شبابه لوجد أن له هفوات ورغبات، كانت تتعارض مع أراء والده لاختلاف المرحلة، مرحلة العمر، فمتطلبات والد في الأربعين تختلف عن مطالب شاب في العشرين، ووالد في الستين تفترق رغباته عن شاب الثلاثين، فلنع ذلك جيداً.
أيها الآباء: فقه مرحلة العمر ومتطلباتها يجب أن نعيه جيدا لتجاوز الخلافات والشقاق والنزاعات، بين الآباء والبنين والبنات، مع الضبط بضوابط الأخلاق والشرع، ووسطية التعامل، دون إسراف أو تقتير: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) [الإسراء: 29].
فقبض العصا من الوسط، أفضل أسلوب، وأكمل مرغوب.
إن الأب يأذن في المباحات ولمصلحة كبرى يفوت المكروهات، لكنه يكون سدا منيعا عن المحرمات، وتسرب الممنوعات، ودخول الفضائيات، وتسيب البنات، وضابطا لشبكات الإنترنت، حادا من التوسع في دخولها، والإفراط فيها، منعاً للأفكار السيئة، والأب قدوة لأولاده.
مشى الطاووس يوما باعوجاج *** فقلد شكل مشية بنوه
فقال علام تختالون؟ قالوا *** بدأت به ونحن مقلدوه
فخالف سيرك المعوج وأعدل *** فإنا إن عدلت معدلوه
أما تدري أبانا كلُ فرع *** يجاري بالخطى من أدبوه
وينشأ ناشئ الفتيان منا *** على ما كان عوده أبوه
أيها الآباء الكرام: إن من الآباء ودعوني أكون صريحاً من لا يعرف أين أولاده، ولا مع من يسيرون، ولا مع من يركبون، أو مع من يسهرون، أو متى إلى البيت يأوون، أو من يصحبون، ولا يعلم في أي سنة يدرسون.
إن من هذا حاله قد ضيع أولاده، وخان أمانته، وفرط في أهله، وتركهم مع الشيطان في طريقه إلى الجحيم.
من الآباء من لا ينفق على أولاده، فهو عليهم من المقترين، ولطلباتهم وحاجياتهم من الرافضين، يتركهم عالة على زوجة، أو أجداد، أو قرابة، أو صحبة، يعطي هذا، ويمنع ذاك، ومن أعطى مرة منع مرات، ومن بذل مرة حرم مرات: (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) [الطلاق: 7].
أيها الآباء: لا أقول: انفق على ابنك فحسب، بل أقول: اغنه عن أصحاب السوء، وعن الناس، حتى لا يحرفوه عن الصراط المستقيم.
من ترك أولاده فلمن يتركهم؟! من لم ينفق على أولاده فمن ينفق عليهم؟! من لا يربي أولاده من يريد أن يربيهم؟! ومن لا يحرص على أولاده من سيحرص عليهم؟!
أيها الآباء: اتقوا الله، اتقوا الله في أولادكم، في أبنائكم وبناتكم، ربوهم صغاراً، واحرصوا عليهم شباباً، وصاحبوهم كباراً.
اغرسوا فيهم الصدق والأمانة والوفاء، ومكارم الأخلاق والتواضع، ولين الجانب، وصلة الأرحام، واحترام الصغار، وتوقير الكبار، وكف الأذى، وطلب الفضائل، والبعد عن الرذائل.
ازرعوا القيم والأخلاق بالقدوة الحسنة، ازرع الثقة والرجولة، وتحمل المسئولية.
ولكن بأسلوب مقبول، هين لين، يتلائم مع الأعمار، مع الرحمة والشفقة، وإظهار المودة والثناء.
الثناء الثناء، فهو من أهم الوسائل لاحتواء قلوب الشباب، مع التوسط والموازنة، مزح مرة، وهدية أخرى، وثناء ثالثه، والله المعين، وبه التوفيق.
ومن المؤسف والمؤسف جداً أن من الآباء من يطرد ابنه لخطأ أو لآخر، فيخرجه من منزله، ولكن ليذهب إلى أين؟! نعم إلى أين؟!
إن بعض من طرد من بيوت آبائهم وجد في سبيل المخدرات والمسكرات، أو طرق الانحرافات.
أيها الأب: إياك ثم إياك ثم إياك أن تطرد ابنك ولو كان كافرا بالله، فعسى الله أن يهديه يوماً ما.
وتأمل قول نوح -عليه السلام- لابنه الكافر: (يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ) [هود: 42].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)[التغابن: 14ــ 15].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
عباد الله: خير الهدي هدي محمد بن عبدالله، صلوات ربي وسلامه عليه، فمن هديه: صحبتهم ومحبتهم، والأنس بهم، وتعليمهم وتوجيههم، وتربيتهم والعطف عليهم.
يحمل هذا، ويقبل هذا، ويبقى ساجداً لهذا، ويكني هذا، ويمدح هذا، ويمزح مع هذا، ويراعي لعب هذا، وعمر هذا، ويحمي الصفات السيئة عن هذا: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [الممتحنة: 6].
وهو الذي رسم طريقة صلاح الأولاد بدءاً باختيار الزوجة المتربية في أسرة طيبة، مروراً بالذكر عند الوصال، وطيب المال للنفقات، وتحصينه بالأذكار والحلقات، تربيته صغيراً، وتوجيهه كبيراً، عاقا عنه، داعياً له، محسناً لاسمه، خلافاً لأصحاب الأسماء الأجنبية، أو القبيحة، والتي تنعكس على سلوكيات أطفالا، فالأسماء قوالب المسميات، ولكلٍ من اسمه نصيب.
أيها الأبناء: إن جزءاً كبيراً من المسئولية يقع على عواتقكم، متى غاب الآباء، أو قصر الآباء، أو تخلى الآباء، فإن أباءاً قد ماتوا، وحفظ الله لهم الأبناء، فكم من يتيم أصبح فارسا، أو عالما، أو خليفة، أو ملكا، أو نبيا: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) [الضحى: 6].
(وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا)[الكهف: 82].
فإياكم والطيش والانحراف، والتطرف واللهو، وصحبة الأشرار، والبعد عن الأخيار، وإياكم وسيء الأخلاق، والأقوال والأفعال، وكثرة السهر واللعب بالحديد والسيارات، فإن اللعب بالنار يحرق صاحبها.
فليس الفتى من قال كان أبي *** إن الفتى من قال ها أنا ذا
وعليكم بالعلم والفقه.
فالعلم زين وتشريف لصاحبه *** فاطلب هديت فنون العلم والأدبا
كم سيدٍ بطلٍ آباؤه نجب *** كتنوا الرؤوس فأمسى بعدهم ذنبا
ومقرف خامل الآباء ذي أدب *** نال المعالي بالآداب والرتبا
العلم كنز وذخر لا فناء له *** نعم القرين إذا ما صبُ صحبا
اللهم وفق الآباء للقيام بشؤون بيوتهم، وأعنهم على أمور دنياهم ودينهم، وسدد على الخير خطاهم، رد غائبهم، وفطن حاضرهم، واهد ضالهم.
اللهم آمين، آمين يارب العالمين.
اللهم أصلح لنا الذريات والنيات.
(رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان: 74].
ألا وصلوا وسلموا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي