الغيبة والمغتابون

راشد بن مفرح الشهري
عناصر الخطبة
  1. الغيبة داء عضال .
  2. خطر الغيبة والتحذير والتنفير منها .
  3. أهمية الصمت وفضله .
  4. خوف السلف من الغيبة وتحذيرهم منها .
  5. زجر المغتاب ورد غيبته .
  6. من اغتاب الناس عندك سيغتابك غدا .
  7. تحذير النساء من الغيبة .
  8. محاسبة النفس على الغيبة .
  9. فضل الذب عن أعراض المسلمين .

اقتباس

حديثنا اليوم عن مرض خطير ومستعصي، عجز فيه الأطباء، وانتشر في الناس انتشار النار في يابس الحطب. مهما حاولت فحصه بالأشعة لا يظهر، وبالتحاليل لا يبين، رغم أن الجميع يعرفه، ويعرف أنه مرض وبلاء، ولكن قل من يسلم منه، والله المستعان. اعتذر عن علاجه أطباء الأبدان لعدم التخصص، ووعظ فيه أطباء القلوب، ولكن...

الخطبة الأولى:

الحمد لله كتب الفناء على هذه الدار، وجعل الجنة عقبى الذين اتقوى وعقبى الكافرين النار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يفنى ولا يبيد، ولا يكون إلا ما يريد، لا تدركه الأوهام، ولا تبلغه الأفهام، ولا يشبه الأنام، حي لا يموت، قيوم لا ينام.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، نبيه المصطفى، وخليله المجتبى، كل دعوة للنبوة بعده فغي وهوى، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.

اتقوا الله: فإن تقوا الله عليها المعول، وعليكم بما كان عليه سلف الأمة، والصدر الأول.

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:  70- 71].

ثم أما بعد:

عباد الله: كلنا ذوو خطأ، فمن يتذكر بعد نسيانه، ويفوق بعد سهوه؟!.

وما أكثر سهونا، وما أكثر غفلتنا، نحصد الحسنات فنذهبها بالسيئات، ونقوم بالطاعات، والأعمال الصالحات، ونبددها بالشهوات، وتنكب المنكرات.

وما حالنا إلا كحال من يصب الماء في إناء مخروم، ويكف اللبن في وعاء معلول.

عباد الله: أرأيتم من يكتب الخير دقائق، ثم يمسح الخير ساعات؟ أرأيتم من يبني الليل وجله، ثم يصبح فيهدم النهار أو جله؟

أرى ألف بان لا يقوم لهادم *** فكيف ببان خلفه ألف هادم

حديثنا اليوم عن مرض خطير ومستعصي، عجز فيه الأطباء، وانتشر في الناس انتشار النار في يابس الحطب.

مهما حاولت فحصه بالأشعة لا يظهر، وبالتحاليل لا يبين، رغم أن الجميع يعرفه، ويعرف أنه مرض وبلاء، ولكن قل من يسلم منه، والله المستعان.

اعتذر عن علاجه أطباء الأبدان لعدم التخصص، ووعظ فيه أطباء القلوب، ولكن قل من يجيب الخطيب: (وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)[الأعراف: 164].

عباد الله الكرام: أسري بنبينا -صلى الله عليه وسلم- إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماء، فرأى عجباً، وسمع عجباً عن أولئك.

رأى قوماً يعذبون أنفسهم بأنفسهم، ولكن لماذا؟

إن ما يعذبون له وعنه لا يكاد يخلو منه أحد اليوم، كلنا فيه واقعون، وكلنا عنه لسنا خالون، كلنا في حمأته سائرون، وفي لغطه متكئون، فماذا رأى صلى الله عليه وسلم؟

لقد قال عليه الصلاة والسلام-: "لما عرج بي ربي -عز وجل- مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ من هؤلاء يا جبريل؟

قوم يخمشون وجوههم وصدورهم؟! من هؤلاء يا جبريل؟ قال: "هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم، هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أراضهم"[رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني].

قولوا بربكم من منا اليوم ينجو من الكلام في أعراض الناس ومن أكل لحومهم؟

مجالسنا، بيوتنا، لقاءتنا، مهاتفاتنا، رسائلنا، لا تخلو من الغيبة والنميمة، وأكل لحوم الناس، والوقوع في أعراضهم، إلا من رحم الله، وقليل ما هم.

وفي رواية: "فنظرت في النار فإذا قوم يأكلون الجيف، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس"[رواه أحمد].

الغيبة والاستطالة في أعراض الناس ربا، بل هو أربى الربا، قال أنس  -رضي الله عنه- خطبنا صلى الله عليه وسلم، فذكر الربا، وعظم شأنه، فقال: "إن الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ست وثلاثين زينة يزينها الرجل، وإن أربى الربى استطالة الرجل في عرض أخيه".

كلام لا نتنبه له، فنقع في الإثم، كلام لا نلتفت إليه، فتكون الكبيرة، لما رجم رسول الله ماعزاً في الزنا، قال رجل لصاحبه: هذا أقعص كما أقعص الكلب، فمر صلى الله عليه وسلم بجيفة، وهما معه، فقال: "انهشا منها" فقال: لا يا رسول الله، ننهش جيفة؟ فقال: "ما أصبتما من أخيكما أنتن من ذلك"[أبو داود والنسائي].

إنا لله وإنا إليه راجعون، مصيبة كبرى، ماذا نقول عن أنفسنا ومجالسنا صباح مساء غيبة ونميمة؟

عباد الله الكرام: يا من حفظ ما بين فكيه، ما بين لحيتيه، هنيئاً ثم هنيئاً لك: "كف عليك هذا"[رواه الترمذي وصححه الألباني].

أهل الصمت ملوك وأمراء، نعم كيف هذا؟ الله أكبر، ما أعظمه من خلق كريم.

فزلة حصان ولا زلة لسان، والصمت عبادة، فعن أنس -رضي الله عنه- قال: لقي رسول الله أبا ذر، فقال: يا أباذر ألا أدلك على خصلتين هما أخف على الظهر، وأقل في الميزان من غيرهما؟ قال: بلى، قال: "عليك بحسن الخلق، وطول الصمت، فو الذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلها".

لقد أقضت الغيبة مضاجع السلف الصالح، فمنها حذروا، ولأسبابها اجتنبوا.

قال أبو هريرة منكراً على أهلها: "يبصر أحدكم القذى في عين أخيه، ولا يبصر الجذع في عين نفسه".

وقال الحسن: "والله للغيبة أسرع في دين الرجل المؤمن من الأكلة في الجسد".

وقال أحدهم: وقد سمع رجلاً يغتاب رجلاً، فقال: "إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس".

وقال عمر -رضي الله عنه-: "عليكم بذكر الله فإنه شفاء، وإياكم وذكر الناس فإنه داء".

عباد الله: ما عذاب الغيبة وجزاؤها؟

قال قتاده: ذكر لنا عذاب القبر ثلاثة أثلاث: ثلث من الغيبة، وثلث من النميمة، وثلث من البول.

وقفة يسيره -أيها الناس-: كم في صحائفك من الغيبة لقرابتك لجيرانك لإخوانك المسلمين؟! كم في يومك وليلتك كل اتصال هاتفي؟! كم تغتاب فيه وكل مجلس مع الناس نغتاب فيه؟!.

لو وضعت معك مسجلاً لتسجيل كلامك، وقبل النوم استعمت كم ستجد من غيبة للناس؟! وهل ذلك يرضيك؟!

فالله الله، فاليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل.

أعرف أحد طلبة العلم لا يسمح بالغيبة في مجلسه أبداً، بل يذب عن الأعراض، حتى فعرف بهذا، فلا يُغتاب أمامه أحد أبدا؛ لخوفه من إنكاره عليه.

تلك –والله- القوة في دين الله، والحفاظ على الأعراض والحسنات.

لماذا نجلس معاً ونضحك في الوجوه، ثم يخرج الخارج فيغتابه الباقون، ثم تدعي الصحبة والأخوة؟ أي أخوة هذه؟ والله المستعان.

أنى يكون أخاً أو ذا محافظة *** من أنت من غيبه مستشعراً وجلاً

إذا تغيبت لم تبرح تظن به *** ظناً وتسأل عما قال أو فعلا

فلا عداوته تبدو فتعرفها *** منه ولا وده يوماً له اعتدلا

 أما مستمع الغيبة: فأيها المستمع للغيبة: أيها المستمعون الذين لا يغتابون إنكم مغتابون، نعم مغتابون، ولو كنت تسمع فقط، نعم، ولو كنت تسمع فقط، فلولا سماعك وإنصاتك لما اغتاب المغتاب، ولما استطرد المستطيل، في أعراض الناس أبدا.

فالسمع في الإثم كالمتكلم، وأقرأوا وتأملوا قول ربكم -جل في علياه-: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[الأنعام: 68ٍ].

سبحان الله، المغتاب ظالم، وإياك ومجالس الظلمة.

(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) [النساء: 140].

نعم: (إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ) [النساء: 140].

أيها المسلم: لا تفرح بالمغتاب، فمن اغتاب الناس اليوم اغتابك غداً، ومن همز أخاك اليوم لمزك غداً؛ لأنه: (هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ) [القلم: 11].

يظهر لك الحسنى، ويخفي عنك العسرى، وأنت مخدوع به، ومن حفظ الناس حفظك في حضورك وغيبتك.

كم صديق كنتُ منه في عمى *** غرني منه زمانا منظره

كان يلقاني بوجه طلق *** وكلام كاللآلئ ينشره

فإذا فتشته في غيبة *** لم أجد ذاك لوجد يضمره

فدع الإخوان إلا كل من *** يضمر الود كما قد يظهره

فإذا فزت بمن يجمع ذا *** فاجعلنه لك ذخراً تذخره

فصديقك من صدقك لا من صدَّقك، فالله الله في الصدق في الإخوة.

إن الذي ينم اليوم لك ينم غداً عليك.

من نمَ على الناس لم تؤمن عقاربه *** على الصديق ولم تؤمن أفاعيه

كالسيل بالليل لا يدري به أحد *** من أين جاء؟ ولا من أين يأتيه

فالويل للعهد منه كيف ينقضه *** والويل للودِ منه كيف يفنيه

عبد الله: عودك نفسك كلما بدأ أحد في غيبة أن تقول له: رحمك الله دعنا في عيوبنا، ودع عيوب الناس، متى قلت ذلك مرة، فو الله إن مجلس تجلسه بعد ذلك معه، أو من علم بخبره أن يكفوا الألسن، ويكون مجلساً خال من الغيبة والنميمة.

أيها المسلم: ترفع عن الغيبة وعن جلسائها، وقل كما قال القائل:

يا هند إن سواد الرأس يصلح لل*** دنيا وإن بياض الرأس للدينِ

لست امراً غيبة الأحرار من شيمي*** ولا النميمة من طبعي ولا ديني

أيها المسلمون: حذروا النساء، فالغيبة بينهن مصيبة كبرى، يصلين ويصمن، ويتصدقن ويحفظن

من القرآن، وينثرن الحسنات في ساحة قيل وقال، وفلان فعل، وقد كان لفلان.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) [الحجرات: 12].

الخطبة الثانية:

عباد الله: من منا اليوم يأخذ على نفسه وعداً وعهداً وميثاقاً أن لا يسمح لنفسه لسماع غيبة، أو قول غيبه، أو نميمة؟

يأخذ على نفسه وعداً وميثاقاً كلما زل لسانه أن يعود ويتوب، كلما زل لسانه أن يتذكر: (وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [الأنعام: 68].

من منا يأخذ على نفسه عهداً كلما سمع مغتاباً أن يقول له: كف، أن يقول له: اتق الله، أن يقول له: دعنا في عيوبنا، واترك عيوب الناس؟

من منا من اليوم يعتزل مجالس الغيبة، ويغير صحبة، أو يحذرهم فإن انتهوا وإلا أعتزلهم؟

أيها السامع للغيبة: ذب عن أعراض المسلمين؛ ففي الحديث: "من اغتيب عنده أخوه المسلم وهو يستطيع نصره فنصره، نصره الله في الدنيا والآخرة، فإن استطاع نصره فلم ينصره أدركه الله به في الدنيا والآخرة"[أخرجه ابن وهب وابن أبي الدنيا].

أيها السامع للغيبة: ذب عن أعراض المسلمين، واسمع لهذه البشارة لك من رسول الله، هنيئاً –والله- هنيئاً، والله هنيئاً والله لمن كان من أهلها، ولو لم يلق الله إلا بها لكفاه.

عن أسماء بنت يزيد -ماذا يا أسماء حدثينا أخبرينا؟- قالت عن رسول الله: "من ذب عن عرض أخيه بالغيبة" ما أجره؟ اسمعوا -أيها المسلمون- "من ذب عن عرض أخيه بالغيبة كان حقاً على الله أن يعتقه من النار"[رواه أحمد وابن أبي الدنيا والطبري وصححه الألباني].

وماذا يا أبا الدرداء هل لديك من خبر؟

نعم، أبو الدرداء لديه خبر آخر، يحدثنا عن رسول الله  -صلى الله عليه وسلم-: "من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة"[رواه الترمذي وصححه الألباني].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي