التشاؤم بالأزمنة أو بالأشهر أو ببعض الأيام أمرٌ يبطله الإسلام، وشهر صفر شهرٌ من أشهرِ الله، وزمانٌ من أزمنةِ الله، لا يَحصُل فيه إلاَّ ما قضاه الله وقدَّره، فالأزمنةُ لا دخلَ لها فيما يُقدِّرُهُ الله –سبحانه تعالى-. لقد وقعت في شهرِ صفرَ أحداثٌ عظامٌ، وتواريخ جليلة، منها: غزوةُ الأبواء، وهي أوَّلُ...
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
عبادَ الله: إنَّ أوجبَ الواجباتِ على العباد: معرفةُ توحيدِ اللهِ -عز وجل-، وما يناقضُهُ من الشِّركِ والخرافاتِ والبدع؛ لأنَّ التوحيدَ هو الأساسُ في دين الإسلام، وهو الأصلُ الذي خُلقنا لأجله، ودعا إليه جميع الأنبياء والرسل، وقبولُ الأعمالِ متوقفٌ على تحقيقه، وكمالُ تحقيقِهِ من أسبابِ دخول الجنة بلا حسابٍ ولا عذاب.
معاشر المؤمنين: إن مما يضاد التوحيد: ما يعتقده بعضُ أهلُ الجاهليَّةِ وأتباعُهُم في هذا الزَّمان من اعتقادات وبدع، ومنها: التطير والتشاؤم، وهذا لم يكن حادثًا عند العرب في جاهليتهم؛ بل كان موجودًا في الأمم التي سبقتهم، فقوم صالحٍ -عليه السلام- تشاءموا منه، وقالوا: (اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ)[النمل: 47].
وأصحاب القرية تشاءموا بالمرسلين: (قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) [يــس: 18].
وآلُ فرعون تشاءموا بموسى ومن آمن معه كما أخبر الله -تعالى- عنهم بقوله: (فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) [الأعراف: 131].
وكفارُ مكة كانوا يتشاءمون من دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وينسبون إليها ما يصيبهم من شر؛ كما قال الله عنهم: (وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ)[النساء: 78].
والمنافقون في هذا العصر يتشاءمون من أهل العلم والخير والصلاح، وينسبون إليهم كلَّ مصائب الأمة؛ فتارة ينسبون التخلف إلى تمسكنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتارة يتهمون حلق تحفيظ القرآن الكريم بالإرهاب، ويسمون العلماء والدعاة بالرجعيين، بل إن أكثرهم -والعياذ بالله- يتشاءمون من دين الإسلام، ويزعمون أنه سببُ تأخر المسلمين، فأولئك هم أتباع المشركين الأوائل، يجمعهم العِدَاءُ للتوحيد خاصة، وللدين عامة.
وكثير من الرافضة يكرهون التكلم بلفظ العَشَرَة، أو فعل شيء يكون فيه عشرة، حتى البناءُ لا يبنون على عشرة أعمدة؛ لكونهم يبغضون خيار الصحابةِ وهم العشرةُ المشهود لهم بالجنة.
ومن الناس من يتشاءم ببعض الأيَّام، أو بعض الشُّهور، أو بعض الأرقام، فمنهم من يتشاءم من شهر صفر، كما كان أهل الجاهلية، فأبطل النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك وقال: "لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ".
فالتشاؤم بالأزمنة أو بالأشهر أو ببعض الأيام أمرٌ يبطله الإسلام، وشهر صفر شهرٌ من أشهرِ الله، وزمانٌ من أزمنةِ الله، لا يَحصُل فيه إلاَّ ما قضاه الله وقدَّره، فالأزمنةُ لا دخلَ لها فيما يُقدِّرُهُ الله –سبحانه تعالى-.
لقد وقعت في شهرِ صفرَ أحداثٌ عظامٌ، وتواريخ جليلة، منها: غزوةُ الأبواء، وهي أوَّلُ غزوةٍ غزاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفيه فُتحت خيبر على يدي النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وبعض الناس يمتنعون عن السفر في صفر، أو الزواج فيه، أو الخِطبة، أو إجراء العقد، وبعضُ التجار لا يُمضي فيه صفقة؛ تشاؤمًا به.
وهذا كُلُّهُ من الطِّيَرَةِ المنهيّ عنها، وهو قادح في التوحيد.
فمن تشاءم من ساعاتٍ أو أيامٍ أو شهور، أو أصوات أو طيور، أو حيوانات أو رؤية أقوام، أو أرقام، أو من نعيق البوم والغراب، أو رؤية الأعور والأعرج، والعليل والمعتوه، ونحو ذلك، فقد انخرم توحيده.
وقال صلى الله عليه وسلم: "الْعِيَافَةُ وَالطِّيَرَةُ وَالطَّرْقُ مِنَ الْجِبْتِ".
وروى ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الطِّيَرَةُ شِرْكٌ الطِّيَرَةُ شِرْكٌ" ثَلاَثًا "وَمَا مِنَّا إِلاَّ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ".
فالتوكلُ على الله علاجٌ للطيرة، فعلى المسلم أن يمضيَ فيما عزم عليه، ويُبعد عن وساوس الشيطان، ولا يستسلم لخطراته، ويوقنَ بأن الأمورَ بيد الله -سبحانه وتعالى-، وأن القدرَ مكتوبٌ لا تردُّه الطيرة، قال صلى الله عليه وسلم: "من ردته الطيرة من حاجة فقد أشرك" قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: "أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك".
وذُكرتِ الطيرةُ عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أَحْسَنُهَا الْفَأْلُ وَلاَ تَرُدُّ مُسْلِمًا، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ لاَ يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلاَّ أَنْتَ، وَلاَ يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إِلاَّ أَنْتَ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِكَ".
نسألك اللهم أن تحفظ لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا.
اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين غير خزايا ولا مفتونين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله...
أما بعد:
فاتقوا الله -تعالى- وأطيعوه: (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].
عبادَ الله: قد يعمد بعض الناس إلى مخالفة أهل الجاهلية في تشاؤمهم، فيقع في بدعة أخرى، من ذلك: أن بعض الناس عندما يؤرخ يكتب: في شهر صفر الخير، وهذا يدخل في بابِ مدافعةِ البدعةِ بالبدعة؛ كما يقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "فهذا الشهرُ ليس شهرُ خيرٍ ولا شر، إنما هو كغيره من الشهور والأيام".
ومما أنكره بعض السَّلف -رحمهم الله- قولَ من سمع نعيقَ بومةٍ: خيرًا إن شاء الله، فلا يقال: خيرٌ ولا شر، بل هي تنعق كبقية الطيور.
ومن ذلك أيضا: ما اعتاده كثير من الناس من استعمال كلمة: "خير يا طير"، وإن كان لا يقصد بها الطيرة المنهي عنها شرعًا؛ لكن ينبغي للمسلم له أن يُنَزِّهَ لسانَه عن الألفاظ التي فيها شُبْهَة.
أيها المسلمون: لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتفاءل ويعجبه الفأل، والكلمة الحسنة؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: "لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ" قِيلَ: وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: "الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ".
فالكلمة الطيِّبة تُعْجِبُه صلى الله عليه وسلم لما فيها من إدخال السرور على النفس، والانبساط والمضيّ قُدُمًا لما يسعى إليه الإنسان، وهذا مما يشجعُ الإنسان ويزيده طمأنينة وإقدامًا وإقبالاً.
قال ابن الأثير -رحمه الله تعالى-: "وإنما أحب النبي -صلى الله عليه وسلم- الفأل؛ لأن الناس إذا أمّلوا فائدة من الله، ورجوا عائدته عند كل سبب ضعيف أو قوي فهم على خير، وإن لم يدركوا ما أمّلوا فقد أصابوا في الرجاء من الله وطلب ما عنده، وفي الرجاء لهم خير معجل، أما إذا قطعوا أملهم ورجاءهم من الله كان ذلك من الشر، والطيرة فيها سوء ظنٍّ، وقطعٌ للرجاء، وتوقُّعٌ للبلاء، وقنوطٌ من الخير، وذلك مذموم بين العقلاء، منهي عنه في الشرع".
ومما ينبغي أن يعلم: أن الطيرة لا تضر إلا المتطيّر، والشؤم لا يضر إلا المتشائم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا طِيَرَةَ والطَّيَرَةُ على من تَطَيَّر، وإنْ تَكُ في شَيءٍ فَفِي الدَّارِ والفَرَسِ والمرأَةِ".
فالتشاؤم يُقعد عن العمل، ويُصيبُ بالإحباط واليأس، فيظل أسير الأوهام والشكوك والظنون الفاسدة، ويفتح بابا للدجالين والكهان والعرافين والمنجمين، ومن استعان بهم في أمر يريده وقع في الشرك، ولن يجني إلا ما كتب الله -تعالى- له.
فاتقوا الله -تعالى- ووحدوه، واحذروا الشرك واجتنبوه، فإن الله -جل وعلا- قد يغفر للعبد جميع الذنوب، إلا الشرك فإن الله لا يغفره: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء)[النساء: 48].
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على إمام الموحدين، وقدوة الخلق أجمعين، من بعثه الله رحمة للعالمين، فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي