إن في الاجتماع في ذلك المكان الواحد، والزمان الواحد، تذكيرا للجميع، تذكيرا لأهل الموقف، وتذكيرا لغير أهل الموقف، تذكيرا للجميع، بحال وقوف الخلائق بين يدي الله –تعالى- يوم القيامة، منذ خلق الله آدم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقوف الخلائق يوم القيامة بين يدي الله -عز وجل-، وما هم فيه في ذلك اليوم العظيم الرهيب العصيب، من الأهوال، منتظرين ما يقضى عليهم من...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، ومن تبعهم واكتفى، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله -عز وجل- وأطيعوه، واجتهدوا -رحمكم الله- في فعل ما يقربكم من ربكم -سبحانه وتعالى-، فما هذه الحياة الدنيا إلا مزرعة للآخرة، والسعيد حقا من استثمر أيامه ولياليه، ولاسيما الأوقات الشريفة، والأزمنة الفاضلة، في التزود من الأعمال الصالحة، والعبادات والطاعات التي تقربه من ربه -عز وجل-، وتكسبه رضا مولاه، وعمر الإنسان أيام محدودة، وساعات معدودة، عما قريب تنتهي تلك الأيام والساعات، وتنقضي ويودع العبد دنياه، ويفارق أهله إلى أولى مراحل الآخرة، بيت الوحدة والظلمة، وما انتقل العبد من دنياه إلى آخرته بزاد خيرا وأبقى من زاد التقوى، زاد الإيمان والأعمال الصالحة، زاد الإحسان والحسنات.
فيا سعادة من عمرت صحائفه، وملئت دواوينه، بما يسره ويفرحه يوم لقاء ربه، ويا شقاوة من لم يجد في صحائفه وسجلات عمله إلا ما يحزن قلبه، ويأسف نفسه، وما أعظم قول الحق -سبحانه وتعالى-: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ)[عبس:38-42].
جعلني الله وإياكم من أهل طاعته، والمنضمين في سلك ولايته، إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم.
أيها الإخوة المسلمون: إنكم تعيشون أياما فاضلة أيام عظيمة: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام" قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء".
إنكم عما قريب تستقبلون درة هذه الأيام، وأفضل هذه الأيام، تستقبلون يوما عظيما، يوما مشهودا من أيام الله المباركة، ألا وهو: يوم عرفة، الذي يوافق اليوم التاسع من هذا الشهر، هذا اليوم الذي قال فيه الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-: "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم عرفة".
هذا اليوم الذي أنزل الله -عز وجل- على رسوله -صلى الله عليه وسلم- قوله سبحانه وتعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)[المائدة : 3].
عن طارق بن شهاب قال: قالت اليهود لعمر -رضي الله عنه-: إنكم تقرؤون آية لو نزلت فينا -أي معشر اليهود- لاتخذناها عيدا، أي لاتخذنا ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدا: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) فقال عمر -رضي الله عنه وأرضاه-: "إني لأعلم حيث أنزلت وأين أنزلت وأين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أنزلت، نزلت يوم عرفة، وإنا والله بعرفة يوم جمعة".
يوم عرفة -أيها الإخوة المسلمون-: هو اليوم الذي أخذ الله الميثاق على ذرية آدم -عليه السلام-، الميثاق بتوحيده سبحانه وتعالى، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان يوم عرفه، وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه، كالذر، ثم كلمهم، فقال: (أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ)[الأعراف: 17]".
يباهي الله -عز وجل- ملائكته بأهل عرفة- ويقول سبحانه: "انظروا إلى عبادي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا".
يوم عرفة يوم العتق من النار؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا أو أمة من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ماذا أراد هؤلاء؟".
فعظموا ذلك اليوم، عظموه -رحمكم الله- بالأعمال الصالحة، والقربات النافعة، واحرصوا على صيامه، وتصويم أهليكم وأولادكم؛ فقد جاء في فضل صيام يوم عرفة أجر عظيم، يقول صلى الله عليه وسلم عن صيامه: "إني لأحتسب على الله أن يكفر السنة الماضية، والسنة اللاحقة".
أكثروا في هذه الأيام وفي يوم عرفة من التوبة النصوح، والاستغفار والتهليل، والتكبير والتحميد، تضرعوا بالدعاء إلى رب الأرض والسماء، فإن الدعاء في الأيام الفاضلة والأزمنة الشريفة، وبخاصة يوم عرفة تتأكد إجابته، إذا توفرت الدواعي، وزالت الموانع.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت والنبيين من قبلي: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير".
ليس فضل الدعاء -أيها الإخوة المسلمون- في يوم عرفة خاص بأهل الموقف، بل إنه يشمل أهل الموقف وغيرهم من أهل الأمصار في شرق الأرض وغربها، وفضل الله -عز وجل- واسع وكرمه عميم، فاجتهدوا -أيها الإخوة المسلمون-: فيما بقي من أيام العشر ولياليه، وبخاصة يوم عرفة، ويوم النحر، اجتهدوا في اغتنامها في الإكثار من الدعاء، والذكر، من تكبير، وتهليل، وتسبيح وتحميد، وتضرعوا إلى ربكم -عز وجل- بقلوب خاشعة، واثقة بكرم الله -عز وجل-، وادعوا ربكم -جل وعلا- وأنتم موقنون بالإجابة، ادعوا لأنفسكم ولأهليكم وأولادكم صلاحا وقوة في الإيمان، وحسن خاتمة، وتوفيقا للأعمال الصالحة، والقربات النافعة، ادعوا الله أن يرفع البأساء والضراء عن المستضعفين من عباد الله -عز وجل-، وأن يرد كيد أعداء المسلمين في نحورهم، اجتهدوا في هذه الأدعية الخاصة، والأدعية العامة، لعلكم توافقون ساعة إجابة، فيكتب الخير لكم، ولأهليكم، ولسائر المسلمين.
أيها الإخوة المسلمون، أيها الإخوة المؤمنون: إن في اجتماع الحجيج في عرفات من كافة أقطار الدنيا على اختلاف أجناسهم، واختلاف ألوانهم، وتعدد لهجاتهم، وتفاوت درجاتهم إن اجتماعهم في ذلك الصعيد في صعيد واحد في مكان واحد، وفي وبموسم واحد، غنيهم وفقيرهم، رئيسهم ومرؤوسهم، شريفهم ووضيعهم.
إن في الاجتماع في ذلك المكان الواحد، والزمان الواحد، تذكيرا للجميع، تذكيرا لأهل الموقف، وتذكيرا لغير أهل الموقف، تذكيرا للجميع، بحال وقوف الخلائق بين يدي الله –تعالى- يوم القيامة، منذ خلق الله آدم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقوف الخلائق يوم القيامة بين يدي الله -عز وجل-، وما هم فيه في ذلك اليوم العظيم الرهيب العصيب، من الأهوال، منتظرين ما يقضى عليهم من جنة أو نار.
تذكر -أيها الأخ المسلم-: بانتظار أهل عرفة في ذلك اليوم غروب الشمس انتظار أهل المحشر فصل القضاء، ومجيء الرب -عز وجل- للفصل بين الخلائق يوم القيامة.
تذكر -أيها الأخ-: بأحوال الناس يوم عرفة، وهم بين راكع وماشي وعاجز، حالهم يوم القيامة منهم من يحشر راكبا على النجائب، ومنهم من يحشر ماشيا، ومنهم من يحشر على وجهه.
تذكر: انصراف الحجيج من عرفة إلى مزدلفة انصراف الناس يوم المحشر إلى منازلهم، بعد فصل القضاء، سعيدا إلى الجنة، وشقا إلى النار .
فنسأل الله -عز وجل- أن يوفقنا لاغتنام ما بقي من أيام هذه العشر ولياليها، وأن يجعلنا فيها من المقبولين، كما نسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لاغتنام ما بقي من أعمارنا في أعمال صالحة، وقربات نافعة، تكون لنا بعد رحمة الله -عز وجل- ذخرا نتقرب به يوم الوقوف بين يديه سبحانه وتعالى.
نسأل الله -عز وجل- أن يقبل من حجاج بيت الله الحرام حجهم، وسائر أعمالهم، وأن يمن علينا وعليهم بقبول الأعمال، وتكفير السيئات، وأن يحفظهم في برهم وبحرهم وجوهم، وأن يجعلهم يؤدون مناسكهم في أمن وصحة واستقرار.
أيها الإخوة المؤمنون: يستقبل المسلمون بعد يوم عرفة أول أيام عيد الأضحى المبارك يوم النحر، الذي هو الحج الأكبر، يجتمع للمسلمين في يوم النحر عبادات عظيمة، كما يجتمع لأهل الموقف مناسك وشعائر عظيمة، من رمي الجمرة الكبرى، والحلق والتقصير، وذبح الهدي والقرابين، والطواف بالبيت العتيق، والسعي بين الصفا والمروة، وكلها مناسك شرعت من أجل غاية عظيمة، ومقصد نبيل: إقامة ذكر الله -عز وجل-.
وأما أهل الأمصار، فلهم في يوم عيد الأضحى عبادات عظيمة؛ فمنها: صلاة العيد واجتماعهم رجالا ونساءً لشهود الخير، ودعوة المسلمين.
ومنها: التكبير المطلق في سائر الأوقات، ويتأكد في يوم العيد، وفي أيام التشريق إلى غروب شمس يوم الثالث عشر من ذي الحجة، الذي هو اليوم الرابع من أيام العيد.
كما يتأكد التكبير المقيد لأهل الأمصار، والذي يبدأ من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر يوم من أيام التشريق، عقب الصلوات المكتوبات، فبعد أن يقوم المصلي ويسلم من صلاته، ويقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، يرفع صوته في التكبير المقيد: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، يكرر ذلك مرارا، حسب قدرته واستطاعته، ثم يعود بعد ذلك إلى تسبيحه وتحميده المعتاد.
يشرع: التكبير في أيام التشريق؛ لأنها أيام أكل وشرب وذكر لله -عز وجل-.
وإن من أفضل ما يتقرب به الناس يوم العيد: ذبح الأضاحي، والتقرب إلى الله -عز وجل- بإراقة دمائها، تأسيا بالخليلين: إبراهيم ومحمد -عليهما وعلى سائر أنبياء الله ورسله الصلاة والسلام-.
الأضحية -عباد الله-: مشروعة في كتاب الله -عز وجل-، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وإجماع المسلمين، يقول الله -عز وجل-: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)[الكوثر:2].
ويقول سبحانه: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ)[الحج:34].
وقد ثبتت مشروعية الأضحية في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ففي الصحيحين عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "ضحى النبي -صلى الله عليه وسلم- بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا".
وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "أقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة عشر سنين يضحي" [رواه الإمام أحمد والترمذي وحسنه].
وقد كره كثير من أهل العلم للإنسان المستطيع ترك الأضحية.
ومما ينبغي أن يعلم: أن ذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها؛ حتى وإن زاد الثمن؛ لأن نفس الذبح، وإراقة الدم مقصودا في يوم العيد، تقربا لله -عز وجل-.
ومما يدل على أن ذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها: أنه عمل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعمل المسلمين من زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى زماننا هذا، ولو كانت الصدقة بالثمن أفضل لفعلها النبي -صلى الله عليه وسلم-.
والأصل في الأضحية -أيها الإخوة المسلمون-: الأصل في مشروعيتها أنها للحي كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يضحون عن أنفسهم وأهليهم، وكذلك يضحي عن الميت بموجب وصيته إن أوصى، أو بتشريكه مع الأحياء كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يضحي، ويقول: "اللهم هذا عن محمد وآل محمد ومن آل من مات سابقا" كبعض بناته وزوجاته.
فاجتهدوا -أيها الإخوة-: في إحياء هذه السنة النبوية الإبراهيمية المحمدية، واعلموا أن فضل الله -عز وجل- واسع، وكرمه عظيم، فأضحية واحدة تكفي عن الإنسان وأهل بيته الأحياء والأموات، بل وله أن يشرك معهم غير أهله ممن أحب من سائر المسلمين.
نسأل الله -عز وجل- أن يتقبل منا ومنكم سائر أعمالنا وأقوالنا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الحج:36].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أيها الإخوة المسلمون: اتقوا الله -عز وجل-، واستثمروا ما بقي من هذه الأيام العشر ولياليها، فإنكم لا تدرون أتعود عليكم أيام هذه العشر أم لا؟
والمحروم –والله- من تمر عليه مواسم الخير فلا يزداد إيمانه فيه، ولا تكثر حسناته، ولا ينشط بالتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة، والقربات النافعة، نسأل الله -عز وجل- أن يعيننا على ذكره وشكره، وحسن عبادته، نسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا للأعمال الصالحة، وأن يرزقنا الاجتهاد والجد والنشاط في اغتنام ما بقي من أيام هذه العشر المباركة.
أيها الإخوة المسلمون: إن الأضحية عبادة مؤقتة لا تجزئ قبل وقتها على كل حال، ولا تجزئ بعدها إلا على سبيل القضاء، إذا كان التأخير لعذر.
وأول وقت الذبح بعد صلاة العيد لمن يصلون كأهل البلدان، أو بعد قدر صلاة العيد من يوم العيد لمن لا يصلون صلاة العيد؛ كالمسافرين، وأهل البادية، فمن ذبح قبل الصلاة يوم العيد فشاته شاة لحم، وليست بأضحية، ويجب عليه ذبح بدلها على صفتها بعد الصلاة؛ لما روى البخاري عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله وليس من النسك في شيء".
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه، وأصاب سنة المسلمين".
والأفضل تأخير الذبح حتى ينتهي الإمام من خطبة العيد؛ لأن ذلك فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعلى هذا فينبغي للإنسان أن يتأكد من أن أضحيته قد ذبحت بعد الصلاة، وبخاصة إذا كان يوكل من يذبحها عنه؛ كمن يجعلونها عند المطابخ والمطاعم ونحوهم، بل الأفضل أن لا تذبح حتى يخرج صاحبها، ويرى ذبحها، ويشرف عليها، ويطمئن على أنها ذبحت في الوقت الشرعي.
وينتهي وقت الذبح بغروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق، وهو اليوم الرابع من أيام العيد، والذبح يوم النحر أفضل من غيره، ويجوز الذبح ليلا ونهارا إلا أن الذبح نهارا أفضل.
ويشترط للأضحية: أن تبلغ السن المعتبر شرعا بأن تكون ثّنيّة إن كان من الإبل أو البقر أو الماعز، وجذعا إن كان من الضأن.
والثّنيّ من الأبل ما تم له خمس سنين، والثّنيّ من البقر ما تم له سنتان، والثّنيّ من الماعز ما تم له سنة كاملة.
والجذع ما أكمل ستة أشهر ودخل في السابع، والتضحية بالجذع من الضأن جائزة، لكن الأفضل التضحية، والثّنيّ من الضأن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جزعة من الضأن" [رواه مسلم].
كما يشترط في الأضحية: أن تكون سالمة من العيوب المانعة من الإجزاء، فلا تجزئ الأضحية بالعوراء البين عورها، وهي التي انخسفت عينها، أو برزت، أما لو كانت عوراء لا تبصر بعينها ولكن عورها غير بين فإنها تجزئ، لكن السليمة من ذلك أولى، كما لا تجزئ الأضحية بالعمياء من باب أولى.
ولا تجزئ الأضحية كذلك بالمريضة البين مرضها، مثل الجرب الظاهر المفسد لحمها، أو المؤثر في صحتها، ونحو ذلك مما يعده الناس مرضا بينا.
ولا تجزئ الأضحية بالعرجاء البين ضلعها، وهي التي لا تستطيع مجارة السليمة في المشي، فإن كان عرجها يسيرا لا يمنعها من معانقة السليمة أجزأت، والسليمة من العرج أولى.
وكذلك لا تجزئ الأضحية بالكسيرة، أو العجزاء، وهي الهزيلة التي ليس فيها مخ، فهذه عيوب لا تجوز معها الأضحية ولا تصح.
وهناك عيوب لو وجدت كرهت التضحية بالبهيمة، لكنها عيوب لا تمنع الإجزاء؛ كمقطوعة الأذن، أو القرن، ومقطوعة الذنب من الإبل، أو البقر، أو الماعز، فإنه يكره التضحية بها، ولكنها تجزئ.
وأما مقطوعة الذنب من الضأن، فلا تجزئ التضحية بها ، وكذلك يكره التضحية بالهتماء وهي التي سقط بعض أسنانها.
وأما الخصي، فلا تكره التضحية به؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ضحى به، ولئن الخصاء يزيد في سمنه، وطيب لحمه.
ومما يجب التنبه عليه بعض الأحكام المتعلقة بالذكاة، فيشترط في المذكي: أن يكون مسلما، أو من أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وأما الوثني كالبوذي أو الهندوسي فلا تصح تذكيته، لكن لو ذبحها المضحي، ثم أوكل إلى ذلك البوذي أو الهندوسي، سلخها وتقطيعها، فلا حرج في ذلك، إنما الممنوع أن يتولى ذبحها، أو نحرها.
كما يشترط للتذكية أن يسمي الله عليها؛ لقول الله –تعالى-: (فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ)[الأنعام:118].
وقوله عز وجل: (وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ)[الأنعام: 121].
كما يشترط في التذكية إنهار الدم، أي إجراره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل".
والإنهار يكون في الرقبة إذا كان الحيوان مقدورا عليه.
ويحصل تمام ذلك بقطع الحلقوم، وهو مجرى النفس، وقطع المريء، وهو مجرى الطعام والشراب، وقطع الوجدين، وهما: عرقان غليظان بجانب الحلقوم والمريء، والرقبة كلها محلا للذكاة، فلو ذكى من أعلى الرقبة، أو أسفلها، أو وسطها حلت الذبيحة، لكن الأفضل نحر الإبل، وذبح ما سواه من البقر والضأن والماعز ، والنحر في الإبل يكون في أسفل الرقبة مما يلي الصدر في الوهدة التي بين الصدر والعنق، والذبح فيما فوق ذلك إلى اللحيين.
هذه بعض شروط الذكاة التي لا تحل الذكاة بدونها.
وهناك آداب تستحب فعلها، ولكن تحل المذكاة بدونها، ومنها: استقبال القبلة، فيستحب استقبال القبلة عند الذبح والنحر.
والإحسان إلى الذبيحة بعمل كل ما يريحها عند الذكاة بأن تكون الذكاة بآلة حادة، وأن يمرها على محل الذكاة بقوة وسرعة.
ومن السنة نحر الإبل قائمة معقودة يدها اليسرى، وذبح ما عدا الإبل مضجعة على جنبها، ويضع رجله على صفحة عنقها، ليتمكن منها، ويكون الاضطجاع على الجنب الأيسر؛ لأنه أسهل للذبح، فإن كان الذابح أيسر وهو الذي يعمل بيده اليسرى عمل اليد اليمنى، وكان الأيسر له أن يضجعها على الجنب الأيمن، فلا بأس، فإن المهم إراحة البهيمة والتمكن من ذبحها بيسر وسهولة.
وينبغي أن يمسك برأسها ويرفعه قليلا ليبين محل الذبح، وأما الإمساك بيد الذبيحة ورجليها عند ذبحها لئلا تتحرك فظاهر الأحاديث يدل على أنه لا يستحب ذلك؛ لأنه لم يذكر أن أحدا أمسك بها، لكن إن احتاج الذابح إلى ذلك فلا حرج، ثم يترك رجليها ويديها بعد الذبح.
ويسن أيضا عند ذبحها كما قلت عدم إمساك يديها ورجليها؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعل ذلك، ولو كان مشروعا لفعله النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولنقل إلينا لأهميته، كما نقل عنه صلى الله عليه وسلم، وضع قدمه على صفاحهما، فلما لم ينقل عن أحد إمساكه بيدي الذبيحة ورجليها؛ دل على أن ذلك غير مشروع.
ومن فوائد عدم إمساك الأيدي والأرجل: أن حركتها بعد الذبح تزيد في إنهار الدم، وإفراطه من الجسم، وأما لي يد الذبيحة وعنقها كما يفعل بعض الجهلة، فلا أصل له، ولا ينبغي عمله؛ لأنه تعذيب للبهيمة.
ومن السنة: أن يواري عنها السكين، فيسترها عنها بحيث لا تراها إلا ساعة ذبحها، قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "يقاد إلى الذبح ذبحا رفيقا، وتوارى السكين عنها، ولا يظهر السكين إلا عند الذبح أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك أن توارى الشفار".
وفي مسند الإمام أحمد عن معاوية بن قرة عن أبيه: أن رجلا قال: يا رسول الله إن لأرحم الشاة أن أذبحها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن رحمتها رحمك الله".
وفي الحديث: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء".
وفي الحديث الآخر: "من لا يرَحم لا يرُحم".
ومن السنة: التكبير بعد التسمية، فالتسمية شرط لصحة الذكاة، والتكبير سنة، فيقول: "بسم الله، والله أكبر" ولا تشرع الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- عند الذبح، ولا ذكر أوراد أخرى.
ومن السنة: أن يسمي عند الذبح من هي له، فيقول: "بسم الله، الله أكبر، اللهم إن هذا عن فلان وفلان، اللهم هذا عن فلان ووالديهم، ونحو ذلك ممن أراد تشريكهم في الثواب والأجر.
ومن السنة كذلك: أن يدعو بالقبول عند الذبح، فيقول: "اللهم تقبل مني"، "اللهم تقبل من فلان..." إن كانت الذبيحة لغيره يسمي نفسه، أو يسمي من هي له، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم تقبل من محمد وآل محمد وأمة محمد".
هذه بعض الأمور المتعلقة بالأضحية.
نسأل الله -عز وجل- أن يتقبل من الجميع، وأن يرزقنا جميعا الإخلاص والمتابعة للرسول -صلى الله عليه وسلم-.
هذا، وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبدالله، فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
وقال عليه الصلاة والسلام: "من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا".
اللهم صل وسلم وبارك...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي