الصحابة (1)

الشيخ د عبدالرحمن السديس
عناصر الخطبة
  1. عقيدتنا في صحابة رسول الله   .
  2. من أصول أهل السنة: عدم الخوض فيما شجر بين الصحابة, الترضي عن جميع الصحابة .
  3. تفسير آية (محمد رسول الله) .
  4. آيات في فضائل الصحابة .

اقتباس

إن من أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما وصفهم الله به في قوله: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) [الحشر: 10], وطاعة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "لا تسبوا أصحابي, فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحد ذهباً؛ ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه". فهم يترضون عن الصحابة جميعاً ولا...

الخطبة الأولى:

عباد الله: إن من أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما وصفهم الله به في قوله: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر: 10]وطاعة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله:  "لا تسبوا أصحابي, فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحد ذهباً؛ ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه".

فهم يترضون عن الصحابة جميعاً ولا يحملون غلاً في قلوبهم لأحد منهم -كما هو حال الذين في قلوبهم مرض-, لا يسبون أحداً منهم ويكفون عما شجر بينهم من خلاف ويعتقدون أنهم جميعاً مجتهدون, فالمصيب منهم له أجران، والمخطئ له أجر واحد، وذنبه مغفور بفضل سابقته وجهاده مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلهم من الحسنات الماحية للسيئات الشيء الكثير, قال الله تعالى في فضائلهم: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 117

 فصرح جل وعلا ها هنا بتوبته على جميع من شارك في جيش العسرة، وهو الذي يقول فيه كعب بن مالك وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا: "ولقد رأيتني وما أرى في المدينة أحداً تخلف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا منافق معلوم النفاق, أو رجلاً ممن عذر الله -عز وجل-". فهم الذين ذهبوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أن قعد عنه المنافقون وخذلوا عنه قائلين لا تنفروا في الحر، وكانت غزوة تبوك في الصيف الشديد الحرارة, حين طابت الثمار وبعدت شقة السفر من المدينة إلى تبوك, كما قال تعالى: (وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) [التوبة: 42], وقال تعالى في فضائل الصحابة: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100].

فصرح جل وعلا في هذه الآية بأنه قد رضي على المهاجرين والأنصار وأنه أعد لهم الجنة، ولذلك فأصل السنة والجماعة إذا ذكروا أحداً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ترضوا عليه، وقال تعالى في فضائلهم: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح: 29], فأثنى الله عليهم بشدتهم على الكفار, وهم في ذلك يمتثلون قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [التوبة: 123], وقد أثنى الله -جل وعلا- على من كان هذا شأنهم بقوله: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) [المائدة: 54], ثم قال جل وعلا في وصف أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح: 29], وهم بذلك يمتثلون قوله -صلى الله عليه وسلم-:  "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد, إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ". وقوله:  "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً, وشبك -صلى الله عليه وسلم- بين أصابعه". ثم قال جل وعلا: (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) [الفتح: 29], وهو السمت الحسن والخشوع والتواضع يبدو على وجوههم.

قال جل وعلا: (ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ) [الفتح: 29], أي ما سبق ذكره من صفاتهم هي صفاتهم المذكورة في التوراة ثم قال: (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ) [الفتح: 29], أخرج شطئه أي أخرج فراخه فآزره أي شده فاستغلظ أي شب وطال، (فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) [الفتح: 29], أي فكذلك أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- آزروه وأيدوه ونصروه فهم معه كالشطؤ مع الزرع (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ) [الفتح: 29], أي ليغيظ الله بالصحابة الكفار، ومن هنا انتزع الإمام مالك -رحمة الله عليه- القول بتكفير من يبغضون الصحابة -رضي الله عنهم-، قال -رحمة الله عليه-:  "لأنهم يغيظونهم، ومن غاظه الصحابة فهو كافر".

قال ابن كثير -رحمه الله-: ووافقه كثير من العلماء على ذلك". ثم قال جل وعلا: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الفتح: 29], فذنوبهم مغفورة وحسناتهم جزيلة مبرورة، فرحمهم الله ورضي عنهم، نصروا رسول الله وآمنوا به وعزروه واتبعوا النور الذي أنزل معه فهم المفلحون حقا.

اللهم أرض عنهم، والعن من لعنهم أو أبغضهم، اللهم اجمعنا بهم في دار كرامتك.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فيا عباد الله: من الآيات العظيمات التي ذكرها ربنا -جل وعلا- في الثناء على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قوله سبحانه: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) [الحديد: 10], قال الإمام ابن حزم -رحمة الله-: "عليه وقد دلت هذه الآية على أن جميع الصحابة في الجنة؛ لأنهم إما منفق قبل الفتح ومقاتل, أو منفق بعد الفتح ومقاتل، وقد وعد الله الفريقين بالجنة بقوله سبحانه: (وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى), والحسنى هي الجنة".

ومن ذلكم قول الله سبحانه: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) [الفتح: 18] وقوله سبحانه: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [النور: 36، 38] ويدخل في هذه الآية دخولاً أولياء أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-.

وقوله سبحانه: ( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) [التوبة: 108]. ومن ذلك ما صح عنه -صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم- من قوله:  "وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ".

والآيات في مدح والثناء على أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- والأحاديث والآثار في ذلك كثيرة تكفي من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

فنسأل الله العلي العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلي أن يحشرنا في زمرتهم ويجمعنا بهم في دار كرامتهم.

اللهم صلِ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، سبحانك ربنا رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي