ومن تأمل سير الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم بان له أنهم كانوا دعاة خير وهدى، وأن معارضيهم كانوا أرباب شر وهوى، وأن من أراد السير على هدي المرسلين فلا بد أن يكون من المحتسبين على الناس: يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، كما تدل سير الأنبياء مع أقوامهم على أن من عارض الحسبة أو حارب أهلها فهو ينتحل مذاهب أعداء الرسل عليهم السلام، وينتظم في صفوف المفسدين في الأرض من أهل الأهواء الضالة ..
الحمد لله رب العالمين؛ هدى عباده إلى دينه القويم، ودلهم على صراطه المستقيم؛ فمنهم من قبل عن الله تعالى هدايته، وأقبل على عبادته، وأخذ بدينه، ولزم شريعته، فكان من المفلحين، ومنهم من تنكب طريقه، وأعرض عن دينه، ورفض شريعته، فكان من الخاسرين ( فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الله وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ) [الأعراف:30] نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ تفرد بالأمر الكوني والأمر الشرعي، فهو الخالق المدبر، وهو الآمر الناهي ( أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ ) [الأعراف:54] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان أحسن الناس خلقا، وأسمحهم نفسا، وأرقهم قلبا، وألينهم جانبا، ولكنه كان أشد الناس غضبا إذا انتهكت محارم الله تعالى، فينتصر لله تعالى، ولا يغضب لنفسه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ كانوا أئمة هدى يُقتدى بهم، ودعاة خير يُقتفى أثرهم، اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه فكانوا خير صحب لخير نبي، فرضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وأطيعوه ( وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) [البقرة:123].
أيها الناس: من حكمة الله تعالى في عباده أن ابتلى بعضهم ببعض، وقسمهم إلى فريقين: دعاة خير وهدى، وأرباب شر وهوى؛ فأهل الخير والهدى يؤمنون بالله تعالى، ويدعون لدينه، ويقيمون شريعته، ويحتسبون على الناس فيأمرونهم بالمعروف، وينهونهم عن المنكر ( وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ ) [التوبة:71].
وهؤلاء هم خيار الناس، وأفاضل البشر بقول الله تعالى: ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله ) [آل عمران:110].
وأما أرباب الشر والهوى فهم الذين يصدون عن سبيل الله تعالى، ويحاربون دينه، ويعادون أولياءه، ويأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف، وينشرون الفساد في الناس ( المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ ) [التوبة:67].
ومن تأمل سير الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم بان له أنهم كانوا دعاة خير وهدى، وأن معارضيهم كانوا أرباب شر وهوى، وأن من أراد السير على هدي المرسلين فلا بد أن يكون من المحتسبين على الناس: يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، كما تدل سير الأنبياء مع أقوامهم على أن من عارض الحسبة أو حارب أهلها فهو ينتحل مذاهب أعداء الرسل عليهم السلام، وينتظم في صفوف المفسدين في الأرض من أهل الأهواء الضالة، والآراء المنحرفة.
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان إمام المحتسبين، وأمرنا بالاحتساب على الناس، وحذرنا من التهاون في هذا الجانب المهم من دين الله تعالى فقال عليه الصلاة والسلام: " والذي نفسي بيده لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أو لَيُوشِكَنَّ الله أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَاباً من عِنْدِهِ ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ فَلاَ يَسْتَجِيبُ لَكُمْ "رواه أحمد.
ومن نظر في السنة النبوية يجد أن النبي صلى الله عليه وسلم نوَّع في الإنكار على المخالفين بما يحقق المصلحة، ويزيل المنكر، ولا يُخلِّف مفسدة أكبر، وكانت هذه الأحوال منه عليه الصلاة والسلام في التعامل مع المنكر وأهله تشريعا لأمته؛ ليسيروا على هديه، ويلزموا طريقته.
فكان تارة يغير المنكر بيده ويبين سبب ذلك؛ ليعلم صاحب المنكر لِمَ غيَّره؛ كما في حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: دخل عَلَيَّ النبي صلى الله عليه وسلم وفي الْبَيْتِ قِرَامٌ فيه صُوَرٌ فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّتْرَ فَهَتَكَهُ وَقَالَ: " من أَشَدِّ الناس عَذَابًا يوم الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هذه الصُّوَرَ " رواه الشيخان. ومرة رَأَى خَاتَمًا من ذَهَبٍ في يَدِ رَجُلٍ فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ وقال صلى الله عليه وسلم: " يَعْمِدُ أحدكم إلى جَمْرَةٍ من نَارٍ فَيَجْعَلُهَا في يَدِهِ " رواه مسلم.
ولربما ظهر على حاله صلى الله عليه وسلم شدةٌ وغضب في إنكاره للمنكر، غيرة لله تعالى، وتربية لمن يرونه أن لا يتهاونوا بالمنكر؛ لأن تهاونهم به يؤدي إلى اعتياده ثم ألفته وهو عند الله تعالى عظيم عن عُقْبَةَ بن عَامِرٍ رضي الله عنه قال: أُهدي لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَرُّوجُ حَرِيرٍ فَلَبِسَهُ ثُمَّ صلى فيه ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَزَعَهُ نَزْعًا شَدِيدًا كَالْكَارِهِ له ثُمَّ قال: " لا يَنْبَغِي هذا لِلْمُتَّقِينَ " رواه الشيخان.
فجمع عليه الصلاة والسلام في هذه الحوادث المتعددة بين إزالة المنكر، والإنكار بالقول، وبيان سبب الإنكار لإفادة المحتسَب عليهم وتعليمهم.
وأما الإنكار باللسان فسنته عليه الصلاة والسلام وسيرته مليئان بذلك، وكل ما نهى عنه في سنته فهو إما نهي عن المنكر قبل وقوعه، أو إنكار له بعد وقوعه، ، ولا يكاد ذلك يحصى من كثرته.
إن رسولنا محمدا صلى الله عليه وسلم كان لا يرى منكرا، أو يسمع به إلا بادر إلى الإنكار على صاحبه كائنا من كان، وتنوعت أساليبه في الإنكار باللسان؛ فتارة يخص صاحب المنكر بالإنكار، فيخاطبه مباشرة كما في حديث عَبْدِ الله بن عَمْرِو رضي الله عنهما قال: رَأَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ فقال: " إِنَّ هذه من ثِيَابِ الْكُفَّارِ فلا تَلْبَسْهَا " وفي رواية قال: " أَأُمُّكَ أَمَرَتْكَ بهذا؟ " قلت: أَغْسِلُهُمَا؟ قال: " بَلْ أَحْرِقْهُمَا " رواه مسلم.
وربما أغلظ صلى الله عليه وسلم في القول على صاحب المنكر، وكرر ذلك؛ لبيان فداحة فعله، وللمبالغة في التحذير مما وقع فيه، ومن ذلك أن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قتل رجلا بعد ما نطق بالشهادتين قال أسامة رضي الله عنه فقال لي صلى الله عليه وسلم: " يا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ ما قال لَا إِلَهَ إلا الله؟ " قال: قلت: يا رَسُولَ الله، إنما كان مُتَعَوِّذًا، قال: "أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ ما قال لَا إِلَهَ إلا الله؟ " قال: فما زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حتى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لم أَكُنْ أَسْلَمْتُ قبل ذلك الْيَوْمِ " وفي رواية قال: " فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلا إِلَهَ إلا الله إذا جَاءَتْ يوم الْقِيَامَةِ؟ " قال: يا رَسُولَ الله، اسْتَغْفِرْ لي، قال: " وَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلا إِلَهَ إلا الله إذا جَاءَتْ يوم الْقِيَامَةِ؟ " قال: فَجَعَلَ لا يَزِيدُهُ على أَنْ يَقُولَ: " كَيْفَ تَصْنَعُ بِلا إِلَهَ إلا الله إذا جَاءَتْ يوم الْقِيَامَةِ؟ " رواه الشيخان.
ولربما صعد المنبر فخطب خطبة لأجل إنكار منكر وقع فيه الناس أو بعضهم؛ ليُحذرهم صلى الله عليه وسلم مما وقعوا فيه، ومن ذلك ما بلغه صلى الله عليه وسلم من خطأ في معاملاتهم باشتراط شروط ليست صحيحة، فصعد المنبر لإنكار هذا المنكر فقال صلى الله عليه وسلم: " ما بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا ليست في كِتَابِ الله؟! من اشْتَرَطَ شَرْطًا ليس في كِتَابِ الله فَلَيْسَ له وَإِنْ اشْتَرَطَ مِائَةَ مَرَّةٍ " رواه الشيخان.
وفي بعض الأحيان يعلن براءته من المنكر، ومن ذلك أن خالد بن الوليد رضي الله عنه قتل بعض الأسرى فأُخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: " اللهم إني أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدُ بن الْوَلِيدِ مَرَّتَيْنِ " رواه البخاري.
وفي بعض المنكرات يوجه أصحابه رضي الله عنهم إلى الشدة والغلظة في الإنكار؛ كما في حديث أبي بن كَعْبٍ رضي الله عنه أن رَجُلاً اعْتَزَى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعَضَّهُ ولم يُكَنِّهِ فَنَظَرَ الْقَوْمُ إليه، فقال لِلْقَوْمِ: إني قد أَرَى الذي في أَنْفُسِكُمْ إني لم أَسْتَطِعْ إلا أن أَقُولَ هذا إن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَنَا إذا سَمِعْتُمْ من يَعْتَزِي بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ وَلاَ تَكْنُوا رواه أحمد.
وروى هَمَّامُ بن الْحَارِثِ أَنَّ رَجُلا جَعَلَ يَمْدَحُ عُثْمَانَ فَعَمِدَ الْمِقْدَادُ فَجَثَا على رُكْبَتَيْهِ وكان رَجُلا ضَخْمًا فَجَعَلَ يَحْثُو في وَجْهِهِ الْحَصْبَاءَ فقال له عُثْمَانُ: ما شَأْنُكَ؟ فقال: إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا رَأَيْتُمْ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا في وُجُوهِهِمْ التُّرَابَ " رواه مسلم
وهو صلى الله عليه وسلم مع هذا الإنكار باليد واللسان، وتوجيه أصحابه إلى الأنسب في الإنكار لم يكن صلى الله عليه وسلم يقتصر على الإنكار بالقلب وحده إلا لتحصيل مصلحة راجحة، أو لدفع منكر أعظم، وليس مداهنة للخلق، أو خوفا منهم، فكان منهجه في الإنكار وسطا بين المفَرِّطين الذين يرون حرمات الله تعالى تنتهك فلا ينكرون، ولا تتحرك قلوبهم لذلك، وبين المفْرِطين الذين يغالون في الإنكار دائما، وربما خَلَّفوا بإنكارهم منكرات أعظم؛ لجهلهم بالهَدِي النبوي أو عدم التزامهم به.
وواجب على المحتسبين أن يشتدوا في الإنكار في مواطن الشدة، ويلينوا في مواطن اللين، وواجب على عموم المسلمين أن يحتسبوا على أهل المنكرات فيأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر؛ لئلا يُعذب العامة بأفعال الخاصة من أهل الفساد والمنكرات، وسكوت البقية عنهم ( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ ) [الأنفال:25]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الحمد لله حمدا يليق بجلاله وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله ربكم ( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) [البقرة:281].
أيها المسلمون: إن وظيفة الاحتساب على الناس في منكراتهم ومخالفاتهم هي وظيفة الرسل عليهم السلام، وإن محاربة الحسبة وأهلها هو عمل المشركين والمنافقين والمفسدين في الأرض من عهد نوح عليه السلام إلى يومنا هذا؛ ولذا نجد في عصرنا هذا اتفاقَ اليهود والنصارى والملاحدة في الخارج، مع المفسدين في الداخل من المنافقين والجهلة والشهوانيين على المطالبة بإلغاء جهاز الحسبة؛ لأن في إلغائه تعطيلا لأعظم شعيرة نالت بها هذه الأمة خيريتها.
ورغم أن أعداء الإسلام في دولهم الكبرى، ومنظماتهم الأممية يزعمون أنهم مع تقرير الشعوب لمصيرها، ودعمهم لما تختار من حرياتها فإنهم لا يتركون الشعوب إن اختارت الإسلام، ورضيت بأحكامه، ويتواصون في منظماتهم على إطفاء وهج الإسلام بالقضاء على شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنها أكبر حصن يحفظ الأمة من الانحراف، ويمنع الفساد، وينشر الإسلام.
لقد تواصى المفسدون من قوم لوط في نواديهم على الفضيلة، وتنادوا بنشر الرذيلة، وقالوا ( أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) [النمل:56] وتنادى المفسدون -في عصرنا هذا- كما تنادى أسلافهم من قبل؛ فقضوا على الفضائل، ونشروا الرذائل، وشرَّعوا لها في إعلامهم المنحرف، وأعلنوا حربهم على أهل الصلاح والاحتساب، وتمنوا اليوم الذي يرون فيه الناس كالحُمُرِ ينزو بعضها على بعض.
إن المفسدين في هذا الزمن قد فرضوا الاختلاط على الناس، وسَخِروا من الحجاب، وأفسدوا نساء المسلمين وبناتهم بالإعلام، ومرَّدوهن على أُسرهن وعلى المجتمع، وحاربوا الحسبة والمحتسبين، وما بقي من إفسادهم إلا الإجهاز الكامل على جهاز الحسبة، فطالبوا بإلغائه، وحاولوا دمجه في غيره، ويسعون جاهدين لتحجيم صلاحياته، وإفراغه من مهمته الحقيقية عبر ما يسمونه تنظيما وتطويرا، وما هو إلا إفساد وتدمير لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إن انتشار الفساد سببُه غياب الرقيب والعقاب، وإذا نُشر الفساد عمَّ معه الإجرام، فلا يأمن الناس على أعراضهم وأموالهم، وذلك مؤذن بخراب الديار، وتنزل العقوبات؛ فإن الله تعالى يغار على حرماته أن تنتهك، فإذا انتهكها المفسدون وجاهروا بها، ولم يكن في الناس من يحتسب عليهم، حقت عليهم سنن الله تعالى، واستحقوا العذاب.
إن أكثر الناس لا يهتمون بشعيرة الحسبة، ولا يلقون لها بالا، ولا يرفعون بها رأسا مع أنها سببٌ مهمٌ للأمن ورغد العيش، بل بعضهم يتمنى زوالها ولا يعلم ما هي العواقب التي تنتج عن ذلك، وأمة بني إسرائيل ما حُرِّف دينُها، وسُلبت خيريتَها، وتنزلت عليها العقوبات إلا لما داهن رهبانهم في دين الله تعالى، ولم يحتسبوا على الناس، وعطلوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فحذار حذار أن نسير سيرتهم وقد نهانا الله تعالى عن ذلك بقوله سبحانه: ( وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ) [الحديد:16].
فكونوا -رحمكم الله تعالى- مع الحسبة والمحتسبين؛ فإن في ذلك حسنة الدنيا والآخرة، واحذروا مشاريع المنافقين والمفسدين؛ فإنهم يوردون المهالك، والله تعالى قد حذرنا منهم، ونهانا عن طاعتهم ( وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ المُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ ) [الشعراء:151-152].
وأيُّ فساد أعظم من فساد من يريدون تبديل دين الله تعالى، وتعطيل شريعته، وصدَّ الناس عن عبادة ربهم إلى اتباع أهوائهم بإبطال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقضاء على جهاز الحسبة الذي يقوم بذلك، وتحجيم صلاحياته، وجعله شكلا بلا مضمون، واسمًا بلا مسمى، وترك الناس وما يهوون على طريقة المشركين الذين حاربهم الرسل عليهم السلام، وأبطلوا مذهبهم، ردَّ الله تعالى كيد المفسدين إلى نحورهم، وحفظ البلاد والعباد من شرورهم، ونصر أهل الصلاح والإصلاح عليهم، إنه سميع مجيب.
وصلوا وسلموا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي