أيها الأحبة: لننظر إلى مردود التوبة على أنفسنا، فلقد جازى الله -تعالى- عبده التائب توبة نصوحا بالفرحة والسرور واللذة، فالجزاء من جنس العمل، فلما تاب العبد إلى الله ففرح الله بتوبته، أعقب الله التائب فرحا عظيماً. وهذا الفرح من الله بتوبة عبده لم يأت نظيرا له في غير التوبة من الطاعات، وهذا دليل على عظم قدر التوبة وفضلها عند الله، وأن التعبد لله بها من...
أما بعد:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) [التحريم: 8].
أي: تُوبُوا توبة صادقة جازمة، تمحو ما قبلها من السيئات، وتلم شعث التائب وتجمعه، وتكفه عما كان يتعاطاه من الدناءات.
التّوبة -أيها الأحبة-: هي الرّجوع عمّا يكرهه اللّه ظاهراً وباطناً إلى ما يحبّه ظاهراً وباطناً.
التّوبة: هي حقيقة دين الإسلام، والدّين كلّه داخل في مسمّى التّوبة.
وبهذا استحقّ التائب أن يكون حبيب اللّه، فإنّ اللّه يحبّ التّوّابين ويحبّ المتطهّرين.
التوبة: غاية كلّ مؤمن، وبداية الأمر وخاتمته، وهي الغاية الّتي وجد لأجلها الخلق.
وأكثر النّاس لا يعرفون قدر التّوبة ولا حقيقتها، فضلا عن القيام بها علماً وعملاً وحالاً.
والتوابون: هم خواصُّ الخلق لدى الله، ولم يجعلْ اللّهُ -تعالى- محبّته إلّا لهم [ملخصا من كلام ابن القيّم -رحمه الله تعالى- في مدارج السالكين].
أيها الإخوة: لقد بين شيخ الإسلام -رحمه الله- خطأً يقع فيه بعضنا، قال: "وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَسْتَحْضِرُ عِنْدَ التَّوْبَةِ إلَّا بَعْضَ المَعَاصِي الْمُتَّصِفَاتِ بِالْفَاحِشَةِ، أَوْ مُقَدِّمَاتِهَا، أَوْ بَعْضَ الظُّلْمِ بِاللِّسَانِ أَوْ الْيَدِ، وَقَدْ يَكُونُ مَا تَرَكَهُ مِنْ الْمَأْمُورِ الَّذِي يَجِبُ لِلَّهِ عَلَيْهِ فِي بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَحَقَائِقِهِ أَعْظَمَ ضَرَرًا عَلَيْهِ مِمَّا فَعَلَهُ مِنْ بَعْضِ الْفَوَاحِشِ؛ فَإِنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ الَّتِي بِهَا يَصِيرُ الْعَبْدُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا؛ كَحُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَهي أَعْظَمُ الْحَسَنَاتِ الْفِعْلِيَّةِ، وفعلها أَعْظَمَ نَفْعًا مِنْ نَفْعِ تَرْكِ بَعْضِ الذُّنُوبِ الظَّاهِرَةِ".
وَالنَّاسُ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ لَا يَتُوبُونَ تَوْبَةً عَامَّةً مَعَ حَاجَتِهِمْ إلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ التَّوْبَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ فِي كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ دَائِمًا يَظْهَرُ لَهُ مَا فَرَّطَ فِيهِ مِنْ تَرْكِ مَأْمُورٍ، أَوْ مَا اعْتَدَى فِيهِ مِنْ فِعْلِ مَحْظُورٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ دَائِمًا.
ولذلك ثبت في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم قال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ".
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قال: "كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَجْلِسِ يَقُولُ: "رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ" مِائَةَ مَرَّةٍ"[رواه أحمد وغيره وهو صحيح].
التوبة إلى الله -أيها الإخوة-: أول منازل السائرين، وأوسطها، وآخرها، فلا يفارقها العبد السالك إلى الله ولا يزال فيها إلى الممات، فهي بداية العبد ونهايته، قال الله -تعالى-: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النور: 31].
أما المفرط الذي لم يتب فقال الباري عنه: (.. وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات: 11].
فالناس إما ظالم لنفسه غير تائب، وتائب مفلح، وإطلاق الله -سبحانه- اسم الظالم على من لم يتب؛ لأنه لا أظلم منه لجهله بربه وبحقه سبحانه، ولعدم معرفته لعيب نفسه وآفات أعماله.
أيها الإخوة: التوبة محبوبة إلى الله -تعالى- محبة عظيمة؛ لمحبته سبحانه للكرم، فإنه يحب أن يعفو، وأن يغفر أحب إليه من أن ينتقم ويؤاخذ؛ فعن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دَويِّةٍ مُهلِكةٍ، معه راحلته عليها طعامُه وشرابُه فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها، حتى اشتد عليه الحر والعطش، أو ما شاء الله، قال -الرجل- أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ فإذا راحلتُهُ عنده، عليها زادُهُ وشرابُهُ، فاللهُ أشدُّ فرحاً بتوبَةِ العبدِ المؤمنِ من هذا براحلتِه وزاده".
وفي رواية لمسلم عن أنس عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "فأتى الشجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك، إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح".
أيها الإخوة: هذا الفرح لا يمكن أن يتصوره أحد إلا من وقع في مثل هذه الحال؛ لأنه فرح عظيم؛ فرح بالحياة بعد الموت، فرح بالنجاة بعد الهلكة، وهل فرح يمر على الإنسان أعظم من الفرح بالحياة بعد أن عاين سبب الموت المحتم أمامه شاخصا خليا، وليس موتا سريعا يجهز عليه ويصعقه فلا يفكر بهوله؛ إنه موت بطيٌ شديد الوطأة، وذلك أن حاجة الإنسان إلى الطعام والشراب ليست مفاجئة وإنما تزيد شيئا فشيئا، ثم إن هذا المحتاج ليس بين أهله ومحبيه ليصبروه ويواسوه؛ إنه في أرض مهلكة دوية لا أنيس فيها ولا أحد؛ ولذلك كان فرحه بالراحلة فرح لا يعدله فرح، فقد أخذ بخطام الناقة وقال: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك" أراد أن يثني على الله فيقول: اللهم أنت ربي وأنا عبدك ولكن من شدة فرحه أخطأ، فقلب العبارة.
فهل نتأمل هذه الصورة العجيبة؟! ثم نسعى لمحبوب ربنا وسببَ فرحه وهو التوبة ونفعله.
أسأل الله لنا جميعا ذلك.
أيها الأحبة: لننظر إلى مردود التوبة على أنفسنا، فلقد جازى الله -تعالى- عبده التائب توبة نصوحا بالفرحة والسرور واللذة، فالجزاء من جنس العمل، فلما تاب العبد إلى الله ففرح الله بتوبته، أعقب الله التائب فرحا عظيماً.
وهذا الفرح من الله بتوبة عبده لم يأت نظيرا له في غير التوبة من الطاعات، وهذا دليل على عظم قدر التوبة وفضلها عند الله، وأن التعبد لله بها من أشرف التعبدات؛ يقول ابن القيم -رحمه الله-: "وهنا دقيقة قل أن يتفطن لها إلا فقيه في هذا الشأن، وهي أن كل تائبٍ لا بد له في أول توبته من عصرة وضغطة في قلبه، من هم أو غم أو ضيق أو حزن، ولو لم يكن إلا تألمه بفراق محبوبه، فينضغط ُ لذلك وينعصر قلبه ويضيق صدره، فأكثر الخلق رجعوا من التوبة ونكسوا على رؤوسهم لأجل هذه المحبة، والعارف الموفق يعلم أن الفرحة والسرورَ واللذة الحاصلة عقيب التوبة تكون على قدر هذه العصرة، فكلما كانت أقوى وأشد كانت الفرحة واللذة أكملُ وأتمَ.
ولذلك أسباب عديدة؛ منها: أن هذه العصرة والقبض دليلٌ على حياة قلبه، وقوة استعداده، ولو كان قلبه ميتاً واستعداده ضعيفا لم يحصل له ذلك.
وأيضا فإن الشيطان لص الإيمان واللص إنما يقصد المكان المعمور، وأما المكان الخراب الذي لا يرجو أن يظفر منه بشيء فلا يقصده، فإذا قويت المُعارضاتُ الشيطانية والعصرة دل على أن في قلبه من الخير ما يشتد حرصُ الشيطان على نزعه منه.
وأيضا كلما عظم المطلوب كثرت العوارضُ والموانع دونه، هذه سنة الله في خلقه".
ثم قال رحمه الله: "والمقصود أن هذا الأمرَ الحاصلَ بالتوبة لما كان من أَجَلِ الأمور وأعظمِها نُصبَتْ عليه المعارضاتُ والمحن، ليتميز الصادق من الكاذب، وتقع الفتنة، ويحصل الابتلاءُ، ويتميز من يصلح ومن لا يصلح؛ قال تعالى: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)[العنكبوت: 1-3].
وقال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك: 2].
ولكن إذا صبر على هذه العصرة قليلاً أفضت به إلى رياض الأنس، وجنات الانشراح، وإن لم يصبر لها انقلب على وجهه، والله الموفق لا إله غيره ولا رب سواه.
بارك الله لي ولكم...
أيها الإخوة: لا تكتمل التوبة إلا بالعزم الجازم على فعل المأمور والإتيان به.
وقد يقول قائل: أريد أن أتوب ولكنَ ذنوبي كثيرة جدا، ولم أترك نوعاً من أنواع الذنوب والفواحش إلا فعلته فهل يغفر لي؟
نقول لهذا وأمثاله: اسمع إلى قول الله -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53].
وقال عمرو بن العاص -رضي الله عنه-: "لَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ عَمْرَو: فَقَبَضْتُ يَدِي، فقَالَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟ قَالَ قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ؟ قَالَ: تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟ قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ"[رواه مسلم].
ومن أعجب المواقف هذه الحادثة: عَنْ أبي طَوِيلٍ شَطَبٍ الْمَمْدُودِ -رضي الله عنه- أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلا عَمِلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا وَلَمْ يَتْرُكْ مِنْها شَيْئاً، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَمْ يَتْرُكْ حَاجَّةً وْلَا دَاجَّةً -أي لم يترك صغيرة ولا كبيرة من الذنوب- إِلا اقْتَطَعَهَا بِيَمِينِهِ؛ فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فقَالَ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ أَسْلَمْتَ؟" قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "نَعَمْ، تَفْعَلُ الْخَيْرَاتِ وَتَتْرُكُ السَيئاتَّ، فَيَجْعَلُهُنَّ اللَّهُ -عز وجل- لَكَ خَيْرَاتٌ كُلِّهِنَّ" فقَالَ الرَجُلُ: وَغَدَرَاتِي وَفَجَرَاتِي!؟ قَالَ: "نَعَمْ" قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ حَتَّى تَوَارَى. [رواه الطبراني والبزار وصححه الألباني].
أيها الأحبة: بابَ التوبةِ باب واسع، قال عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ لِلتَّوْبَةِ بَابًا، عَرْضُ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْهِ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، لا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا" [الطبراني عن صفون بن عسال قال: الألباني حسن].
وعند الترمذي وحسنه الألباني: "إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ بِالْمَغْرِبِ بَابًا عَرْضُهُ مَسِيرَةُ سَبْعِينَ عَامًا لِلتَّوْبَةِ لاَ يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ قِبَلِهِ".
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ"[رواه مسلم].
وقَالَ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ -عز وجل- لَيَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ" أي بالموت [رواه ابن ماجة والترمذي وقال: الألباني حسن].
رَبِّنا اغْفِرْ لِنا وَتُبْ عَلَيَّنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي