وصف الله نفسه بهذه الصفة، فقال: (وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى) [طـه: 81]. وغضب الله -تعالى- ليس كغضب المخلوقين، بل هو غضب يليق به جل وعلا على هيئة لا شبيه لها: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الشورى: 11].وإنما ذكرت غضب الرب حتى لا يظن ظان أن الغضب صفة...
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الغضب: صفة من صفات الإنفعال التي فطر عليها جميع البشر، والغضب صفة كمال في محله الصحيح، وهيئته الصحيحة، وصفة ذم في محله الخطأ، وهيئته الخطأ.
وقد وصف الله نفسه بهذه الصفة، فقال: (وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى) [طـه: 81].
وغضب الله -تعالى- ليس كغضب المخلوقين، بل هو غضب يليق به جل وعلا على هيئة لا شبيه لها: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الشورى: 11].
وإنما ذكرت غضب الرب حتى لا يظن ظان أن الغضب صفة نقص للضرورة على كل حال، لا، فالله -تعالى- يغضب.
وقد كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ومن سبقه من الأنبياء سلام الله عليهم أيضا يغضبون، ولكن غضبهم كان مقرونا بالحق والعدل.
والمقصود بالحق، أي يغضب لدين الله، فإن الغضب لله عبادة يتقرب بها العبد.
ففي صحيح البخاري: عن أم المؤمنين السيدة عائشة -رضي الله عنها- قالت: "دخل علي النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي البيت قرام -أي ستارة- فيه صور، فتلون وجهه -أي من شدة الغضب- ثم تناول الستر فهتكه، وقال صلى الله عليه وسلم: "من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يصورن هذه الصور".
فهذا غضب في الحق يبديه عليه الصلاة والسلام، لله -تعالى-.
أما العدل: أن لا يترتب على الغضب سواء كان للنفس، أو لله، ظلم، أو مفسدة شرعية يجترأ بها على الدين، أو العرض، أو النفس بغير حق.
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة العدل والحق في الغضب والرضا " الحق والعدل.
وبدون هذين القيدين يصبح الغضب وبالا على صاحبه وعلى الناس؛ لأن الغضب بدون حق ولا عدل مدخل كبير من مداخل الشيطان.
يقول ابن القيم: "اعلم أن المداخل التي يأتي الشيطان من قبلها في الأصل ثلاثة: الشهوة، والغضب، والهوى".
والنبي -صلى الله عليه وسلم- يدرك هذا المدخل الخطير الذي يكون العبد أثناءه ضعيفا مهيئا لكيد الشيطان، وإغواء الشيطان، ولذلك لما استب رجلان عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، فجعل أحدهما تحمر عيناه، وتنتفخ أوداجه، قال عليه الصلاة والسلام: "إني لأعرف كلمة لو قالها هذا لذهب عنه الذي يجد: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" فقال الرجل: هل ترى بي من جنون؟"[أخرجه أبو داود].
فالغضب إما يسيطر عليه صاحبه، وإما يسيطر هو على صاحبه، أي أن من الناس إذا غضب فقد سيطرته على غضبه، فيتلاعب به غضبه، ويفقده التصرف الرشيد، ويحمله الغضب على الظلم والافتراء والكذب والبطش، والمبالغة في الانتقام.
وقد يظن البعض أن في هذا مظهرا من مظاهر القوة، والحقيقة أن هذا النوع من الناس هو الضعيف بعينه، وهو الذي صحح الرسول -صلى الله عليه وسلم- مفهومه الغلط لدى بعض الناس بقوله: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب".
ليست القوة الذي لمن يصرع الناس، إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب.
فالذي يملك نفسه عند الغضب هو ذلك المتمكن من نفسه، القادر على السيطرة على غضبه، هذا هو القوى، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "الصرعة كل الصرعة الرجل يغضب فيشتد غضبه، ويحمر وجهه، ويقشعر شعره، فيصرع غضبه" [رواه أحمد] أي يتغلب على غضبه.
وعن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مر بقوم يصطرعون، فقال: "ما هذا؟" قالوا: فلان ما يصارع أحدا إلا صرعه، قال: "أفلا أدلكم على من هو أشد منه؟ رجل كلمه رجل فكظم غيظه، فغلبه، وغلب شيطانه، وغلب شيطان صاحبه" [رواه البزار بسند حسن].
هذا رجل صرع الذي أمامه، أما الآخر فقد صرع غضبه هو، وصرع غضب صاحبه، وصرع شيطان صاحبه.
ولما كان صلى الله عليه وسلم يعرف الناس حوله، وما يحتاج إليه كل واحد منهم بعينه من تقوم معين، في سلوك معين لديه أكثر من غيره، كان ينصح صاحب هذه المشكلة، بالذات مشكلة الغضب، دون أن يشير إلى غيرها من المشكلات؛ لأن الغضب ذاته باب واسع للعديد من أنواع السلوك الخطأ، ولو أغلق هذا الباب لخمدت معه تلك السلوكيات تباعا.
في صحيح البخاري: جاء رجل إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: أوصني، فقال: لا تغضب، أوصني، قال: لا تغضب، ردد ذلك مرارا والرجل يقول، والنبي يقول: "لا تغضب".
فكأنما الغضب بالنسبة لهذا الرجل هو أكبر مشكلة، ولما لا ونحن نرى الغضب يفعل الأفاعيل في صاحبه، فكم تسبب الغضب في خصومات كبيرة طويلة الأمد مع أقرب الناس، وكم تسبب في الطلاق والافتراق وهدم البيوت، بل كم تسبب الغضب في قتل النفس التي حرم الله بغير حق.
ولذلك قال الرجل الذي وصاه النبي -صلى الله عليه وسلم- في ترك الغضب، قال: تفكرت حين قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ما قال، فإذا الغضب يجمع الشرك كله.
أيها الإخوة: كلنا نغضب لكن كم منا جُل غضبه لله لا لنفسه؟ وكم منا يحكم السيطرة على غضبه إذا غضب؟ كم منا إذا غضب ذكر الله فاستعاذ به من الشيطان؟ كم منا لا يطول به غضبه وإذا ذكر بالله وطلب منه العفو عفا؟ كم...؟
أيها الإخوة: لعلي أذكر ما يعيننا على السيطرة على الغضب:
من الأسباب المعينة: الاستعاذة بالله من الشيطان، وقد تقدم الحديث الذي فيه: "إني لا أعرف كلمة لو قالها هذا لذهب عنه الذي يجد: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم".
وجاء في صحيح الجامع: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا غضب الرجل، فقال: "أعوذ بالله" سكن غضبه".
ومما يعين على السيطرة على الغضب: السكوت؛ صح في مسند أحمد عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "علموا وبشروا ولا تعثروا وإذا غضب أحدكم فليسكت" السكوت يقي اللسان من قول ما مآله الندم.
ومما يعين تغيير الهيئة، في السنن بسند صحيح عن أبي ذر قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لنا: "إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضجع".
ولذلك كان أبو ذر يسقي على حوض فأغضبه رجل فقعد.
ومما يعين: تذكر الأجر العظيم المترتب على كظم الغيظ، وترك الغضب؛ في الطبراني بسند حسن عن عبد الله الثقافي قلت: يا رسول الله قل لي قولا أنتفع به، وأقلل، قال: "لا تغضب ولك الجنة".
وفي الطبراني بسند صحيح قال عليه الصلاة والسلام: "ومن كظم غيظا ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضا يوم القيامة".
وقال أيضا: "من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله -عز وجل- على رؤوس الخلائق يوم القيامة، حتى يخيره من الحور العين ما شاء"[رواه أبو داود].
والله -تعالى- يحب الحلم، قال صلى الله عليه وسلم لأشجَّ عبد القيس: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة"[أخرجه مسلم].
ومما يعين: العناية بالتأسي بهديه صلى الله عليه وسلم الذي هو أحسن الهدي وأكمله؛ عن أنس قال: "كنت أمشي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبه شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم، فضحك، ثم أمر له بعطاء" [أخرجه البخاري].
لقد كان صلى الله عليه وسلم لا ينتقم لنفسه، ولكن إذا انتهكت حرمات الله، لم يقم لغضبه شيء، ولم يضرب بيده خادما ولا امرأة، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وقد خدمه أنس عشر سنين فما قال له: أف قط، هذه كانت حال نبينا -صلى الله عليه وسلم- فكم نصيب نصيبنا من هذه الحال؟
ومما يعين على السيطرة على الغضب: معرفة أن رد الغضب من علامات المتقين المحسنين، قال تعالى: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عمران: 133-134].
وقال تعالى: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) [الشورى: 37].
وقال تعالى أيضا: (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى: 43].
ومما يعين: تأمل الغاضب في نفسه لحظة الغضب، فلو قدر لغاضب أن ينظر لصورته في مرآة حين غضبه لكره نفسه ومنظره، فلو رأى تغير لونه، وشده رعدته، وارتجاف أطرافه، وتغير خلقته، واحمرار وجهه، وجحوظ عينيه، وخروج حركاته عن الوقار؛ لأنف من نفسه، واشمأز من هيأته.
ومما يعين: الدعاء، وتقدم دعاؤه صلى الله عليه وسلم: "وأسألك بكلمة الحق والعدل في الغضب والرضا".
ومما يعين: إدراك أن الصحة تدوم بدوام الهدوء والوقار، وسعة الصدر، أما الغضب والهياج، فهو مسبب لأمراض القلب، وضغط الدم، نسأل الله السلامة والعافية.
قال الحسن رحمه الله: "أربع من كن فيه عصمه الله من الشيطان، وحرمه على النار: من ملك نفسه عند الرغبة، والرهبة، والشهوة، والغضب".
فهذه الأربع التي ذكرها الحسن، هي مبدأ الشر كله.
أسأل الله -تعالى- أن ينزل علينا السكينة والطمأنينة، وأن يصلح أحوالنا أجمعين.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
أما بعد:
فقد سبق أن تكلمنا مرارا وتكرارا عن الحمق الذي غلب على شباب حصروا الدين كله في فوهة بندقية، وولوا ظهورهم لفتاوى أهل العلم، وكبار طلبة العلم، واستغنوا عنها بأقوال فلان وفلان، لا لأنه القول الحق، لا، بل لأنهم وجدوا في قوله ما يوافق أهواءهم ونظرتهم، ولو عارض أهواءهم لتركوه، وبحثوا عن غيره.
سبحان الله العظيم، كيف ركبت عقول هؤلاء، يتقربون إلى الله بقتل النفس التي حرم، يتقربون إلى الله بتسببهم في تضييق الخناق على الدعوة والأنشطة الخيرية، يتقربون إلى الله بافتعالهم للتبريرات التي بها يمنع الدعم الخيري، يتقربون إليه بتشويه الإسلام، يتقربون إلى الله بتهيئة الجو للعلمانيين للنيل من التدين والصيد في الماء العكر.
لكن هذا كله لا يهم عندهم، لا يهم، الذي يهم هو قتلهم للنفوس المعصومة والمستأمنة، والمصيبة أن يقترف أفعالهم وجرائمهم تلك باسم الإسلام.
في يوم الاثنين الثامن من شهر صفر الجاري، قرب مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عائلات فرنسية مسلمة، رجال ونساء وأطفال، وقفوا يستريحون في طريقهم إلى المدينة المنورة، ومنها: إلى أداء مناسك العمرة، ذنبهم الوحيد أنهم ذوو بشرة بيضاء، وشعر أشقر، ولهجة غربية، وهي صفات كافية تؤهلهم لأن يكونوا هدفا سهلا لأولئك المتهورين، وحدثت الفاجعة، فقتلوا منهم أربعة من الرجال أمام نسائهم وأطفالهم، ليتهم قاتلوا في مواطن الجهاد، ليتهم قاتلوا المعتدين على أعراض المسلمين وأرواحهم، ألا ما أتعس الجهل إذا جنى على أهله: فقه غريب، وحماس في غير محله، وعاطفة عمياء، وعناد محكم، وكبر مركب، كل هذه الخصال دفعت بهؤلاء إلى اقتراف جريمتهم، حتى طالت إخوانهم المسلمين.
إن الله توعد القاتل بغير حق بأشد العقوبات، قال الله -تعالى-: (مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ)[الأنعام: 151].
وقال تعالى أيضا: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء: 93].
ما الذي يظنون أنهم حققوه بهذه الجريمة؟ كيف سيقابلون ربهم بأيد ملطخة بدماء بريئة؟
لكن ما لنا إلا الدعاء بأن يكفينا الله شرهم، ويهديهم صراطه المستقيم.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم اغفر لنا ولموتانا وموتى المسلمين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي