اعلم يا بني أن الأيام تبسط ساعات، والساعات تنبسط أنفاساً، وكل نفس خزانة، فاحذر أن يذهب نفس بغير شيء، فترى في القيامة خزانة فارغة، فتندم". هم يحرصون على الأنفاس، وأغلبنا اليوم يحرص على الجواهر والماس، والمتابعة والتجسس على أحوال الناس، فما أكثر أنفسنا الضائعة، وما...
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى، ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أن أنفسهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وزكاه روحًا وجسمًا، وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
معاشر الصالحين: نواصل قطاف الثمار اليانعة، وصيد الفرائض النافعة، من الرسالة الماتعة، رسالة ابن الجوزي -رحمه الله- لابنه أبي القاسم، الموسومة، بـ"لفتة الكبد إلى نصيحة الولد".
وفيها من الفوائد ما ظهر لنا جليلا في الخطبة الماضية، وسيظهر لنا ثمره -إن شاء الله- في الخطبة الآنية، ومعلوم أن هذا يندرج في سياق الحديث عن تربية الأبناء، وحاجتهم إلى الإنقاذ مما يحيط بهم، من ألوان الإغواء، والإضلال والإلهاء.
فأعداء الإسلام يفعلون الأفاعيل من أجل إنشاء جيل تائه ضليل، جيل يتغير ولا يغير، ويصفق ولا يحقق، ويغني ولا يستغني، ويلعب ولا يتعب، ويستهلك ولا يملك، ويقلد ولا يتقلد.
وهذا يحتاج إلى وقفة جادة من الكل، من الآباء، والمؤسسات التعليمية، والهيئات الاجتماعية، لمواجهة هذا المد التخريبي، الذي يستهدف أبناءنا في فكرهم وعقولهم، ومعلوم أن الغزو الفكري هو أخطر أنواع الغزو.
ويمضي ابن الجوزي في توجيهاته ونصائحه؛ حتى يصل إلى أمر غاية في الأهمية، هذا الأمر هو من أعظم ما هو مستهدف من لدن أعدائنا، وهو مسألة الوقت، الزمن وقيمته، مع العلم أن هذا الوقت الذي نعيشه هو رأس مال العبد، هذه الأنفاس المترددة بها، وعليها يترتب الفوز أو الخسران في الدنيا والآخرة، ومع الأسف نراه مهدرا، ينحر في المقاهي والملاهي والعبث -إلا من رحم الله-، ولله در القائل:
والوقت أثمن ما عنيت بحفظه *** وأراه أسهل ما عليك يضيع
يقول ابن الجوزي منبها ابنه إلى هذا لأمر العظيم: "وقد كان السلف الصالح -رحمهم الله- يحبون جمع كل فضيلة، ويبكون على فوت واحدة منها.
قال إبراهيم بن أدهم -رحمه الله-: دخلنا على عابد مريض، وهو ينظر إلى رجليه ويبكي، فقلنا: مالك تبكي؟ فقال: ما غبرتا في سبيل الله.
وبكى آخر، فقالوا: ما يبكيك؟ فقال: على يوم مضى ما صمته، وعلى ليلة ذهبت ما قمتها".
سبحان الله، انظروا على ماذا كانوا يبكون، وانظروا على ماذا نبكي اليوم ونجزع، وقارنوا وإن كانت المقارنة هنا لا تستقيم لوجود الفارق الهائل الكبير، بين الحالتين؟
ولله در القائل:
لا تعرضن بذكرنا عن ذكرهم *** ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
ثم يواصل درره وجواهره، فيقول: "واعلم يا بني أن الأيام تبسط ساعات، والساعات تنبسط أنفاساً، وكل نفس خزانة، فاحذر أن يذهب نفس بغير شيء، فترى في القيامة خزانة فارغة، فتندم".
هم يحرصون على الأنفاس، وأغلبنا اليوم يحرص على الجواهر والماس، والمتابعة والتجسس على أحوال الناس، فما أكثر أنفسنا الضائعة، وما أكثر خزناتنا الفارغة، والله نسأل أن يلطف بنا، فإن حالنا لا تسر الناظرين، ولا تسر السامعين، إلا من رحم رب العالمين.
ثم يقدم ابن الجوزي لابنه نماذج من حرص العارفين بالله على أوقاتهم، فيقول: "وقد قال رجل لعامر بن عبد قيس: قف أكلمك، فقال: أمسك الشمس" يعني أوقف الوقت حتى نتكلم.
وقد قعد قوم عند معروف، وما أدراكم ما معروف، معروف هو معروف الكرخي من أكابر الزهاد والعباد، ويكفي إذا علمنا أنه هو صاحب المقولة الشهيرة: "إذا أراد الله بعبد شرا أغلق عنه باب العمل، وفتح عليه باب الجدل".
قال: "قعد قوم عند معروف الكرخي -رحمه الله- فقال: أما تريدون أن تقوموا، فإن ملك الشمس يجرها لا يفتر".
يقصد أن الوقت يمر لا يقف، فلا يريد أن يضيع لحظة بما لا ينفع.
ثم يواصل فيقول: "وفي الحديث: "من قال: سبحان الله العظيم وبحمده، غرست له بها نخلة في الجنة".
فانظر إلى مضيع الساعات كم يفوته من النخيل؟
وكان أربعون رجلا من السلف يصلون الصبح بوضوء العشاء، وكانت رابعة العدوية تحيي الليل كله، فإذا طلع الفجر هجعت هجعة خفيفة، ثم قالت: "النوم في القبر طويل".
هكذا كانوا، وهكذا عاشوا، وبهذا رفع الله ذكرهم، وخلد آثارهم.
نظروا إلى الدنيا نظرة المتفحص، نظرة اللبيب، فأدركوا أنها ليست الوطن، فرفعوا أبصارهم فتبدت ولاحت لهم معالم دار القرار، فطاقت إليها نفوسهم، وارتفعت نحوها هممهم، قرؤوا القرآن ففهموا المراد، ثم حددوا الهدف، فشمروا عن السواعد، فانطلقوا في طريقهم، لا تصرفهم شهوة، ولا يستسلمون لسهوة، ولله در ابن القيم يوم يقول:
فحيَّ على دار عدن فإنها *** منازلك الأولى وفيه المخيم
وأقول لكم -أيها الأحباب-: هذه الدنيا كم نفقد فيها من حبيب وعزيز؟ كم نسمع فيها من الآلام والأحزان؟ كم نرى من الجنائز؟ كم نسمع من الأمراض؟ كم نسمع من الفتن؟
فالمتعة فيها مقيدة، ومحددة، ومهددة، ضعف وعجز، وفراق للأحبة، وبعد ذلك كله تأتي داهية الدواهي: "الموت" فهل تصلح هذه الدنيا لئن تتخذ معشوقة؟!
لا والله، إنما ذلك شأن البطالين.
ثم يتابع ابن الجوزي، فيقول: "ومن تفكر في الدنيا قبل أن يوجد رأى مدة طويلة".
وكأنه هنا يشير إلى قوله تعالى: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا) [الإنسان: 1].
ثم يقول: "فإذا تفكر فيها بعد أن يخرج منها -يعد أن يغادر ويتركها- رأى مدة طويلة، وعلم أن اللبث في القبر طويل، فإذا تفكر في يوم القيامة علم أنه خمسون ألف سنة، فإذا تفكر في اللبث في الجنة أو النار علم أنه لا نهاية له، فإذا عاد إلى النظر في مقدار بقائه في الدنيا، فرضنا ستين سنة مثلاً، فإنه يمضي منها ثلاثين سنة في النوم، ونحو خمس عشرة في الصبّا، فإذا حسب الباقي كان أكثره الشهوات والمطاعم والمكاسب، فإذا خلص ما للآخرة وجد فيه من الرياء والغفلة كثيراً، فبماذا تشتري الحياة الأبدية، وإنما الثمن هذه الساعات؟".
لله در ابن الجوزي ما أرقى فهمه، وما أجمل إدراكه لحقائق الأمور، يربي في ابنه معرفة قيمة الوقت، ثم يوجهه إلى المصارف السليمة التي يصرف فيها هذا الوقت، واضعا أمامه غاية الغايات، وموضحا له أفضل أنواع الاستثمار، ليصل به بالملموس والمنطق إلى أن الآخرة هي دار القرار.
وفي ذلك من رفع الهمة ما فيه، فكم نضيع وكم يضيع شبابنا اليوم؟ كم نضيع اليوم جميعا شبابا وشيبا من الأوقات في تتبع المباريات مثلا التافهة الفارغة، وتضيع الصلوات، وتهجر المساجد من أجل تتبع هذا اللاعب أو ذاك، وذاك الفريق أو ذاك.
وهذا يتكرر كل عام فيما يسمى بالبطولة، تتابع هذه البطولة حتى تنتهي، وحتى توزع الكؤوس التي هي أشد إلهاءً من كؤوس الخمر، حلقة مفرغة ندور فيها دون معنى، فمتى نستفيق لندرك أن العمر يتقدم، وأن علينا كذلك أن نتقدم، ومن لا يتقدم يتقادم، وأن نعلم أن الملكين يحصيان، وأن القبر ينتظر، وأن الناقد بصير.
جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، آمين، آمين، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله الذي وفق أهل الخير للخير، وأعانهم عليه، ودلهم على طريقه، وقربهم إليه، وجعل تفاضلهم بالتقوى، فجعل الأتقى أحظاهم لديه، والصلاة والسلام على إمام الصالحين، وقدوة المتقين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، أفضل من استثمر الأوقات، وأحسن من سارع إلى الخيرات، وعلى من سار على نهجهم، واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
معاشر الصالحين: ثم ينتقل ابن الجوزي بابنه مبينا له فضل العلم، وأن العلم هو العز والنسب والشرف، فيقول: "وعليك بالعزلة، فهي أصل كل خير، واحذر من جليس السوء، وليكن جلساؤك الكتب، والنظر في سير السلف".
وهنا لا بد من وقفة: كيف حالنا مع الكتاب؟ وكيف حال أبناءنا مع الكتاب؟ وهل تركت المباريات والملاهي والأفلام والمسلسلات لنا وقتا للنظر في الكتاب؟
فالكتاب خير جليس، وأفضل أنيس، وغرس محبته في قلوب الأبناء من أفضل الأمور التي تنشئهم على مكارم الأخلاق، وعلى آداب راقية، وأي بيت يخلو من الكتب فهو بيت يستحكم فيه الجهل، وتسيطر عليه الأمية.
ورغم ما عرفه العالم من تطور في المعلومات تبقى للكتاب مكانته، ولا يستغنى عنه أبداً، فعودوا أولادكم مطالعة الكتب، وخذوهم إلى المكاتب والمعارض، حتى تنشأ رابطة ود، وعلاقة حب، بينهم وبين الكتاب.
وقد قال بعض المفسرين في قوله تعالى في سورة الكهف: (وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا)[الكهف: 82].
قال: "أي: كتب".
وإن كان التفسير مستبعدا لمخالفة قول أغلب المفسرين، فإن الكتب هي الكنز الحقيقي.
ثم يقول ابن الجوزي: "ولا تشتغل بعلم حتى تحكم ما قبله".
هنا يدله على المنهج في الطلب، وهو التدرج من علم إلى آخر، لا أن يجمع الطالب بين كل العلوم في وقت واحد، فيخرج ولم يحصل علما واحدا.
ثم يقول: "وتلمّح سير الكاملين في العلم والعمل، ولا تقنع بالدون، فقد قال الشاعر:
ولم أر في عيوب الناس شيئاً *** كنقص القادرين على التمام
واعلم أن العلم يرفع الأراذل، فقد كان خلق كثير من العلماء لا نسب لهم يذكر، ولا صورة تستحسن، وكان عطاء بن أبي رباح، أسود اللون، مستوحش الخلقة، وجاء إليه سليمان بن عبد الملك وهو خليفة، ومعه ولده، فجلسوا يسألونه عن المناسك، فحدثهم وهو معرض عنهم بوجهه، فقال الخليفة لولديه: قوما ولا تنيا، ولا تكسلا في طلب العلم، فما أنسى ذلّنا بين يدي هذا العبد الأسود.
وكان الحسن البصري مملوكاً، وابن سيرين ومكحول، وخلق كثير، وإنما شرفوا بالعلم والتقوى".
يدل ابنه على أن الرفعة الحقيقية هي رفعة العلم، فهؤلاء كانوا مملوكين، فخلد التاريخ سيرهم، وأسماءهم، ولم يخلد أسماء من كانوا مملكين لهم.
بل إننا اليوم نسمع في المنابر والمنتديات والكتب أسماء العلماء باستمرار؛ من أمثال الإمام مالك وأحمد والشافعي، وابن تيمية وابن القيم، وابن الجوزي، وغيرهم من القامات، ولا نسمع ذكرا، ولا نعرف خبرا للملوك والأمراء في أزمنتهم، إلا ما قل وندر.
فالعلم هو الجاه والنسب وهو الحسب.
وحتى القراء السبعة الذين تنسب إليهم القراءات السبع، خمسة منهم كانوا موالي، أي مملوكين، وقد أشار إلى ذلك الإمام الشاطبي في لاميته المتفردة بقوله:
أبو عمرهم واليحصبي ابن عامر *** صريح وباقيهم أحاط به الولا
لَهُمْ طُرُقٌ يُهْدَى بِهَا كُلُّ طَارِقٍ *** وَلاَ طَارِقٌ يُخْشى بِهاَ مُتَمَحِّلاً
يقصد الخمسة سوى أبي عمرو البصري، وابن عامر الدمشقي، كانوا موالي، وهم: الإمام نافع، وابن كثير، والإمام حمزة، والإمام الكسائي، وعاصم، كلهم كانوا موالي، ومع ذلك رفع الله ذكرهم، وأكمل من ذلك وأتم، قول ربنا الأكرم: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)[المجادلة: 11].
ثم ينتقل ابن الجوزي بابنه إلى أمر غاية في الأهمية، لا غنى لطالب العلم عنه أبداً، ولا حلية ولا جمال ولا كمال لعالم بدونه؛ إنه القناعة، فيقول: "واجتهد يا بني في صيانة عرضك من التعرض لطلب الدنيا، والذلّ لأهلها، واقنع تعزّ، فقد قيل: من قنع بالخبز والبقل لم يستعبده أحد.
ومرَّ أعربي على البصرة، فقال: من سيد هذه البلدة؟ قيل له: الحسن البصري، قال: وبما سادهم؟ قالوا: لأنه استغني عن دنياهم وافتقروا إلى علمه".
نعم أيها الأحباب: القناعة حلية وزينة، وتاج وغطاء وكساء، لذلك وجب على أهل العلم خصوصا وطلبة العلم كذلك، والقراء أهل القرآن، وجب عليهم أن لا يتملقوا لأحد، ولا يتزلفوا لأحد، كائنا من كان، ومهما علت نفسه، فكم يحز في النفس، ونحن نرى أهل القرآن مثلا يذلون أنفسهم، ويتملقون ويتقمصون الذلة للكبراء، من أجل الفتات، وهذا لا يليق أبداً، ولا يجمل أبداً.
ومن هنا أقول لكل أسيادي من أهل القرآن: لا تتملقوا للأغنياء ولا للكبراء، ولا لغيرهم، فما أتاكم الله خيرا مما أتاهم.
نعم للتواضع، نعم للرفق، نعم لخفض الجناح، لكن في غير ذلة ولا مسكنة، واستحضروا قول الله: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)[الذاريات: 58].
وقوله تعالى: (وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء)[محمد: 38].
ثم ينتقل ابن الجوزي بابنه إلى ذخائر الخير، وأرصدة البر، فيقول: "يا بني، متى صحت التقوى؛ رأيت كل خير، والمتقي لا يرائي الخلق، ولا يتعرض لما يؤذي دينه، ومن حفظ حدود الله حفظه الله.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا بن عباس -رضي الله عنهما-: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك".
واعلم يا بني أن يونس -عليه السلام- لما كانت ذخيرته خيراً نجا بها من الشدة، قال الله -عز وجل-: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات: 143-144].
وأما فرعون فلما لم تكن ذخيرته خيراً لم يجد في شدته مخلصاً، فقيل له: (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس: 91].
فاجعل لك ذخائر خير من تقوى تجد تأثيرها".
وهو هنا رحمه الله يشير إلى الأعمال الخفية التي تكون بين العبد وبين ربه، وهي التي أشار إليها بعض السلف بقوله: "من استطاع لكم أن يكون له خبء من عمل فليفعل".
فهذه الأعمال الخفية تكون بمثابة الرصيد الاحتياطي الذي يرجع إليه العبد كلما حلت به ضائقة، أو نزلت به نازلة.
ومن أفضل هذه الذخائر والأعمال المخبوءة التي لها أثر عجيب في جلب الخيرات، ودفع المكاره، وهي "صدقة السر".
فيقول ابن الجوزي مرشدا ابنه إلى بعض هذه الذخائر، قائلا: "واعلم أن أوفى الذخائر، غض الطرف عن محرم، وإمساك اللسان عن فضول الكلمة، ومراعاة لحد، وإيثار الله -سبحانه وتعالى- على هوى النفس".
ثم ينتقل بابنه ليدل على بعض الكتب النافعة، قائلا: "وعليك بكتاب "منهاج المريدين" فإنه يعلمك السلوك، فاجعله جليسك، وتلمح كتاب "صيد الخاطر" -وهو لابن الجوزي- فإنك تقع بواقعات تصلح لك أمر دينك ودنياك، وتحفظ كتاب "جنة النظر" فإنه يكفي في تلقي تلقيح فهمك للفقه".
ثم ذكر له مجموعة من الكتب النافعة.
ثم ينتقل به إلى النظر في عواقب الأمور، قائلا: "وأدّ إلى كل ذي حق حقه، من زوجة وولد وقرابة، وانظر إلى كل ساعة من ساعاتك بماذا تذهب، فلا تودعها إلى أشرف ما يمكن، ولا تهمل نفسك، وعودها أشرف ما يكون من العمل وأحسنه، وابعث إلى صندوق القبر ما يسرك يوم الوصول إليه كما قيل:
أيا من بدنياه انشغل *** وغره طول الأمل
الموت يأتي بغتة *** والقبر صندوق العمل
وراع عواقب الأمور، يهون عليك الصبر عن كل ما تشتهي وما تكره، وإن وجدت من نفسك غفلة فاحملها إلى المقابر، وذكرها قرب الرحيل، ودبر أمرك والله المدبر في إنفاقك من غير تبذير، لئلا تحتاج إلى الناس، فإن حفظ المال من الدين، ولئن تخلف لورثتك خير من أن تحتاج إلى الناس".
ثم يختتم رسالته فيقول لابنه: "وقد آل الأمر إليك فاجتهد أن لا تخيب ظني فيما رجوته فيك، ولك وقد أسلمتك إلى الله -سبحانه وتعالى-، والله أسأل أن يوفقك للعلم والعمل، وهذا قدر اجتهادي في وصيتي، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله مزيد الحامدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين".
اللهم أصلح أحوالنا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي