إذا تأملت -أخي الحبيب- في الكون وجدت أن كل أمر نفيس، ذا شأن لا يدرك إلا بالجهد الجهيد، والمصابرة والصبر، فدون الشهد إبر النحل.
مَا لُؤْلُؤ الْبَحْر وَلَا مرجانه *** إِلَّا وَرَاء الهول من عبابه ومن يخطب الحسناء لم يعيه المهر، والوجد والطرف قاتل للهمم، وعلينا أن نعلم جميعاأن...
لحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى، ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًان وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أن أنفسهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وذكاه روحًا وجسمًا، وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
معاشر الصالحين: تكلمنا في الخطبة الماضية عن مسألة التربية، وخصوصا في الشق المتعلق بالتعليم، وبذات الخط نواصل النسج، فنقول:
إن مسئولية التربية شيء عظيم، وإنها ليسيرة على من يسرها الله عليه، وعلى من سار على نهج سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورأى في أولاده مشروع نجاة، وفوز يوم القيامة.
وتزداد خطورة هذا الأمر عندما تسيطر على المجتمع الشهوات، وتتنازعه الأفكار والأهواء، وتسهل فيه أسباب الهفوات، كما هو حال مجتمعاتنا الإسلامية اليوم التي تخلت عن القيادة والإنتاج، واكتفت بالاستهلاك، فلم تعد تقدم للأمم فكرا ولا تصورا كما هو المفترض فيها، باعتبارها أمة الشهادة، باعتبارها أمة التمام والختام.
بل أصبحت تتلقف كل ما يقدم لها، وإن كان سما على هيئة دسم، ولله در من قال:
كم حسنت لذة للمرء قاتلة *** من حيث لم يدر أن السم في الدسم
والسبب أن الأمة لم يعد لديها منهج تربوي رصين، يقوم على أسس علمية، تتوخى الدقة، وتتحلى بالمصداقية، بل غالبية مناهجها ترتسم بالارتجال والاستعجال.
ولقد كان السابقون الأُول من هذه الأمة، يولون مسألة التوجيه اهتماما عظيما؛ لإحساسهم أولا بعظم المسؤولية، ولتطلعهم ثانيا إلى بناء الأمة، لإدراكهم أن الأمة لا تقوم إلا بالرجال، وأنها بدون رجال مجرد أطلال.
وستكون لنا اليوم -إن شاء الله- وقفات مع علم من أعلام هذه الأمة، وهو يوجه رسالة لابنه، ضمنها كثيرا من الفوائد الغزار، والنصائح الكثار الكبار؛ إنه الإمام ابن الجوزي -رحمه الله- وما أدراكم ما ابن الجوزي؟
إنه الفقيه الحافظ الواعظ، المؤرخ الأديب الزاهد، صاحب التصانيف النافعة، والتواليف الماتعة.
يقول عن نفسه -رحمه الله-: "فإني لما عرفتُ شرفَ النكاح، وفضلَ الأولاد، ختمتُ ختمةً -أي قبل أن يتزوج ختم ختمة- وسألتُ الله -عز وجل- أن يرزقني عشرة أولاد، فرزقني إياهم، فكانوا خمسةً ذكورًا، وخمسةً إناثًا، فمات من الإناث اثنتان، ومن الذكور أربعة، ولم يبق لي من الذكور سوى ولدي أبي القاسم، فسألتُ اللهَ -تعالى- أن يجعل فيه الخلف الصالح، وأن يبلّغني فيه المنى والمناجح...
ثم رأيتُ منه نوعَ توانٍ، أي فتور وكسل- عن الجِد في طلب العلم، فكتبتُ إليه هذه الرسالة أحثه بها على طلب العلم، وأحركه على سلوك طريقي في كسب العلم، وأدله على الالتجاء إلى الموفق -سبحانه-، مع علمي بأنه لا خاذل لمن وفّق، ولا مرشدَ لمن أضلّ، لكنْ قد قَالَ تعالى: (وتواصَوا بالحق تواصوا بالصبر) [سورة العصر: 3].
وقال تعالى: (فذكِّرْ إن نفعتِ الذكرى) [الأعلى: 9].
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ونحن إن شاء الله لن نذكر نص الرسالة كاملة، ولكن سنكتفي بمجرد وقفات معها، اقتناصا لفوائدها، وتتبعا لفرائضها، وقد أسمى رسالته هذه: "لفتة الكبد إلى نصيحة الولد".
بدأ هذه الرسالة بأن بين لولده مسألة السعادة والشقاء في مفهومهما الحقيقي، لا كما أصبح يفهم أغلبنا اليوم، على أنها أموال ومناصب وعقارات، وغير ذلك، فقال رحمه الله: "اعلم يا بني -وفَّقك الله للصواب-: أنه لم يميَّزِ الآدميُ بالعقلِ إلا ليعمل بمقتضاه، فاستحضر عقلك، وأعمِلْ فِكرَك، واخلُ بنفسك، تعلمْ بالدليل أنك مخلوق مكلف، وأن عليك فرائض أنت مطالب بها، وأن الملكين -عليهما السلام- يحصيان ألفاظك ونظراتك".
انظروا -رحمكم الله- كيف يغرس فيه مسألة مراقبة الله، والمراقبة، هي: سبب وصول من وصل.
ثم يواصل فيقول: "وأن أنفاسَ الحي خطوات إلى أجله، ومقدارَ اللُّبث في الدنيا قليل، والحبسَ في القبور طويل، والعذابَ على موافقة الهوى وبيل، فأين لذة أمس؟ قد رحلَتْ وأبقَت ندمًا، وأين شهوة النفس؟ نكّسَت رأسًا وأزلّت قدمًا".
لله در ابن الجوزي يبني في ولده معالم الرجولة التي لا يمكن أن يوصف بها إلا من خالف هواه، وأخضع تمرد شهوته لسلطان عقله، فكم رأينا في واقعنا اليوم ممن أسلموا أنفسهم لشهوة ساعة، فذلوا بعد عزة، وسقطوا بعد رفعة.
أما الذلة فقد ذهبت، وأما الندامة والحسرة فقد بقيت ولازمت، فلو ترسخ في أبناءنا هذا المفهوم، وهذا المعنى، لأثروا ما يبقى على ما يفنى.
ولا يمكن ذلك إلا بترسخ هذا المعنى في نفوس وقلوب الآباء أولا.
ثم يواصل فيقول: "وما سعِد مَن سعِد إلا بمخالفة هواه، ولا شقِي مَن شقي إلا بإيثار دنياه".
وهو هنا يستقي كلامه من قول الله: (فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[النازعات: 37-41].
ثم يمضي في رسالته مذكرا ولده، فيقول: "فاعتبر بمن مضى من الملوك والزهاد، أين لذةُ هؤلاء. وأين تعبُ أولئك؟ بقي الثواب الجزيل، والذكرُ الجميلُ للصالحين، والمقالةُ القبيحة والعقاب الوبيل للعاصين، وكأنه ما شبع مَن شبِع، ولا جاع مَن جاع، والكسلُ عن الفضائل بئس الرفيق، وحبُ الراحة يورث مِن الندم، ما يربو على كل لذة، فانتبه وأتعِبْ نفسَك، واعلم أن أداء الفرائض، واجتنابَ المحارم لازم، فمتى تعدّى الإنسانُ فالنار النار".
وهو هنا يستقي كلامه من قول الله: (وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ)[النساء: 14].
غرس في ابنه قضية التكليف، ودله على مسألة المراقبة، وعلمه الوسائل، وحذره من العاقبة، إن غفل وأهمل، فما أحوجنا نحن قبل أبناءنا إلى هذه النصائح والتوجيهات؟!
ثم ينتقل بابنه إلى مسألة العلم والعمل، فيقول: "ثم اعلم أن طلبَ الفضائل نهايةُ مرادِ المجتهدين، ثم الفضائلُ تتفاوت، فمن الناس مَن يرى الفضائلَ الزهدَ في الدنيا، ومنهم مَن يراها التشاغلَ بالتعبد، وعلى الحقيقة فليست الفضائلُ الكاملةُ إلا الجمعُ بين العلم والعمل، فإذا حُصِّلا رفعا صاحبهما إلى تحقيق معرفة الخالق -سبحانه وتعالى-، وحرّكاه إلى محبته وخشيته والشوق إليه، فتلك الغاية القصوى، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم، وليس كلُ مريدٍ مرادًا، ولا كلُ طالبٍ واجدًا، ولكن على العبد الاجتهاد، وكلٌ ميسَّرٌ لما خُلق له، والله المستعان".
لله در ابن الجوزي حين جعل غاية الفضائل وتمامها الجمع بين العلم والعمل، والأمر كما قال: "فأعظم المراتب، وأجل المناصب: الجمع بين العلم والعمل، فقد ذم الله أقواما حملوا العلم ولم يطبقوه، فقال: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا)[الجمعة: 5].
واليوم -أيها الأحباب الأماجد- من أعظم مشاكلنا ومصائبنا: الفصل بين العلم والعمل -إلا من رحم الله وسلم-، فلقد انتشر العلم اليوم، وأصبح من السهولة الوصول إلى المعلومة، فهذه الكتب، وهذه القنوات قد توفرت، وهذه المواقع ولم يعد يخفى في الغالب على أحد الحلال والحرام.
هذا في الجانب النظري، فإذا ما نظرنا في الجانب التطبيقي وجدنا البون والفرق بين ما نعلم وبين ما نعمل.
فالكل مثلا يعلم أن الربا حرام، ومع ذلك قد عمت بها البلوى، وكلنا يعلم أن الزنا حرام ومع ذلك عمت وانتشرت، وغير ذلك من المعاصي.
وذلك أوقع الأمة في صور من الانفصام الذي يعاني منه الكل على تفاوت في النسب، فانفصام المجتمع لا شك ينتج عنه انفصام الأفراد، وهذا يؤثر أول ما يؤثر على الأبناء باعتبارهم في فترة التلقي.
ولو رأوا –يعني- أبناؤنا انسجاما بين العلم والعمل في آبائهم أولا، وفي المجتمع ثانيا، لنشؤوا أسوياء، فالأبناء انعكاس لآبائهم وللمجتمع، ولله در بعضهم يوم يقول:
وينشأُ ناشئ الفتيانِ فينا *** على ما كانَ عوّدهُ أبوهُ
ومن كان في جحر الأفاعي ناشئا *** غلبت عليه طبيعة الثعبان
جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكر، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، آمين، آمين، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله الرحيم الرحمن، الذي علم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان، والصلاة والسلام على معلم الإنسانية، ومنقذ البشرية، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى من سار على نهجهم، واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
معاشر الصالحين: ثم ينتقل الإمام ابن الجوزي في رسالته لابنه إلى مسألة الهمة العالية، ومعلوم -أيها الأحباب- أنه لا يحاذ السبق في أي أمر إلا بالهمة العالية، وما أحوجنا إلى الهمة في زمن العجز والكسل، الزمن الذي أصبح فيه الكل يريد الوصول إلى الشيء دون عناء، ودون جهد، ودون مكابدة، ساهم في ذلك انتشار وسائل الترف.
وإذا تأملت -أخي الحبيب- في الكون وجدت أن كل أمر نفيس، ذا شأن لا يدرك إلا بالجهد الجهيد، والمصابرة والصبر، فدون الشهد إبر النحل.
مَا لُؤْلُؤ الْبَحْر وَلَا مرجانه *** إِلَّا وَرَاء الهول من عبابه
ومن يخطب الحسناء لم يعيه المهر، والوجد والطرف قاتل للهمم، وعلينا أن نعلم جميعا أن مبدأ: (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) [فصلت: 31] لا يوجد إلا في الجنة، حيث الجزاء، أما الدنيا فدار مكابدة: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ)[البلد: 4].
فلابد فيها من همة عالية، تستسهل الصعب، وترتقي الوعر، فلولا همة الأكابر ما بلغنا هذا الدين، ولا فتحت المدائن، ولا دونت الدواوين.
أيها الأحباب: من كانت همته الدنيا فإن الدنيا زائلة، ومن كانت همته الآخرة فإن الآخرة هي دار القرار، دار الاستقرار.
يقول ابن الجوزي لابنه موجها همته نحو المعالي: "وأول ما ينبغي النظر فيه: معرفة الله -تعالى- بالدليل، ومعلومٌ أن من رأى السماء مرفوعة، والأرضَ موضوعةً، وشاهدَ الأبنية المحكمة، خصوصًا جسدَ نفسِه، علِمَ أن لا بد حينئذ للصَنعة مِن صانعٍ، وللمبني من بانٍ".
الله أكبر، ينمي في ابنه ملكة التأمل والتفكر في ملكوت الله، والوصول إلى الله من خلال آثار عظمته المبسوطة في صفحات الكون، فمن منا يجلس مع أبنائه ويذكرهم بملكوت الله؟ من منا إذا خرج مع أبنائه إلى الجبال ذكرهم بهذه الجبال، على عظمتها ستسير يوم القيامة، وتصير كالعهن المنفوش، من قوة الله وعظمته، وأنها تسبح وتسجد لله؟ من منا إذا نظر للسماء ذكر أبناءه بعظمة هذا البناء المرفوع بلا عُمد، وأخبرهم أن السماء على عظمتها وقوتها ستنفطر وتنشق يوم القيامة من عظمة الله وكبريائه؟.
وغير ذلك من مظاهر العظمة والكبرياء، فإن ذلك ينشأ في الأبناء الهيبة من الله، ويصل بهم إلى مقام التقوى، قال تعالى: (إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ)[يونس: 6].
والمؤسف فينا اليوم أو في أغلبنا أننا نقف عند حدود الصنعة، ولا نصل من خلالها إلى الصانع!.
ثم يواصل ابن الجوزي كلامه وتوجيهه لابنه قائلا: "ثم يتأمل دليل صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليه، وأكبرَ الدلائل القرآنَ الذي أعجز الخلق أن يأتوا بسورة من مثله، فإذا ثبت عنده وجودُ الخالق، وصدقُ الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وجب تسليمُ عِنانِه إلى الشرع، فمتى لم يفعل دل على خللٍ في اعتقاده".
ما أجمله من كلام، وما أنفعه من توجيه، يربط ولده بسيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويبين له أن عدم التسليم والانقياد للرسول -صلى الله عليه وسلم- دليل خلل في الاعتقاد، وهو في هذا التوجيه يستقي من القرآن في قوله تعالى: (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ)[النساء: 80].
وقوله: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا)[النساء: 65].
ما أحوجنا أولا نحن إلى هذا التوجيه، ثم ما أحوج أبناءنا إلى هذه الفوائد، وحاجتهم اليوم أشد وآكد، فإن الفتن قد أطلت برؤوسها، وإن أرباب الإغواء والإضلال، ودعاة التغريب، دعاة التحرر المزيف الذين يصفون السنة بالرجعية والظلامية أصبحت لهم صولات وجولات.
ما أحوجنا إلى أن نحصن أبناءنا، بأن نربطهم برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأن نعرفهم بسنته، وسيرته، وأخلاقه، وشمائله، وفضائله.
ولا يكون ذلك بالتعنيف ولا بالتخويف، وإنما بمنهج الله المبين في قوله: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[النحل: 125].
فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يملك القلوب بالعنف، بل ملكها باللطف، ولم يصل إلى الضمائر بالسيوف والخناجر، وإنما وصل إليها بالبينات والبصائر.
وأحوج الناس إلى اللطف والرفق والبينات والبصائر: أولادنا، وفلذات أكبادنا، يقول سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتأملوا هذا الحديث الشريف: "إذا أحب الله أهل بيت أدخل عليهم الرفق".
ثم يواصل ابن الجوزي، فيقول لابنه: "ثم ينبغي له: أن يعرف ما يجب عليه من الوضوء والصلاة، والزكاةِ إن كان له مال، والحج، وغير ذلك من الواجبات، فإذا عرف قدرَ الواجب وقام به، فينبغي لذي الهمة أن يترقى إلى الفضائل، فيتشاغلَ بحفظ القرآن وتفسيره، وبحديث الرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبمعرفة سِيَرِه وسِيَر أصحابه والعلماء بعدهم، ليتخيّر مرتبةَ الأعلى فالأعلى".
على ضوء هذا الكلام، نقول: كيف حال أبناءنا اليوم مع القرآن؟ بل كيف حالنا جميعا مع القرآن؟ ما هو نصيب القرآن في مناهجنا لتعليم في بلداننا؟ وكيف ينظر إليه؟
إنها أمور تستدعي المراجعة والتدارك، فكلما بعدنا عن القرآن صعب علينا الرجوع، وبعدت علينا الشقة.
ثم كيف يطيب العيش لمسلم دون أن يكون له اتصال وثيق بالقرآن، واتصال وثيق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خلال سنته وسيرته؟
فصدر ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخرب، ومسلم لا يعرف أخبار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسيرته لا يمكن أبداً أن يحس بطعم الإسلام، ولا بلذة الإيمان.
فبدلا من أن نترك أبناءنا ضحية للمقاهي والملاهي والمباريات، والعبث والخطل، علينا أن نربطهم بكتاب الله، والمسئولون تقع عليهم أمانة عظيمة، في التمكين للقرآن، نشرا ونثرا، تحبيبا وترغيبا.
أيها الأحباب: إن حضاراتنا انطلقت من القرآن، فحضاراتنا انطلقت من كلمة: (اقْرَأْ) [العلق: 1] واهتدت: (بِاسْمِ رَبِّكَ) واستعانت، ب: (الَّذِي خَلَقَ) وجعلت غاية النفع للعلم: (خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ) [العلق: 2] وأخذت بيد الإنسان إلى أفاق: (مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق: 5] فبلغت به ما بلغت.
إن من صور هجر القرآن في حياتنا: هجره في مناهج التعليم، وعدم إعطائه المكان الأعلى، والمنزل الأسمى، وعدم الانطلاق منه كأصل للعلوم، ومنير للفهوم، فالقرآن هو الفاتح لما أغلق، وهو المهيمن على ما سبق، ولا يمكن للأمة أن تنهض في مجالاتها، ومجالات رقيها، علما وتعليما، دون الانطلاق من القرآن.
إن القرآن هو الهدف السديد، وإن المؤسسات وخصوصا التعليمية إذا قامت على هدف غير سديد، وعملت على نشره، وملئت به عقول الأجيال، سيكون قاتلا، إما بالرعب والعنف، وإما بالتباطؤ والعجز والإهمال.
والأجيال التي تنشأ دون هدف إلا عبادة الذات، وسيطرة الأنانية، أو دون معنى تعيش له، أو تسعى إليه، تقتل المجمع بالعجز والتكاسل، وتشل قواه؛ لأنها لا تتحرك إلا لمصلحة نفسها، وتحقيق رغباتها وأهوائها.
ولهذا، فإن أعظم إنجاز يقوم به العقلاء اليوم من الآباء والقادة، والهيئات، في ميدان التعليم والمعرفة، وغيرها، هو: تحديد الهدف والغاية بما ينطلق من القرآن ويتفق، وبناء هذه الأمة عقيدة وفكرا، وتاريخا، ومستقبلا، وحضارة، ورسالة.
وستكون لنا -إن شاء الله- فيما يأتي وقفات أخرى، مع رسالة ابن الجوزي لولده، ومن خلالها لأبناء المسلمين.
اللهم وقفنا لطاعاتك...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي