إن مما يخشى منه ألا يعرف انقضاء السنة إلا بتغيير التقويم باستبدال تقويم قديم بدلا من الجديد, أو بزيادة المرتب أخر العام -الحلاوة-, بينما يغفل عن التأمل في صحائف الأعمال, وعما سطر فيها وانطوى لأعمال عام كامل. فالقرآن يبين, القرآن يعظ بأننا إن لم نلتفت إلى كتاب أعمالنا ونحاول قراءته بين فترة وأخرى؛ فسوف نقرأه بأنفسنا جزما يوم القيامة...
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1], (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر الإخوة, معاشر المسلمين: في ظل وداع عام مضى طوى صحائفه, وعام جديد مقبل بكل ما فيه من أقدار ينبغي أولا أن نضع قلوبنا على المحك, وننظر في إيمانها ويقينها ومدى توكلها ورضاها بالقدر, هل استفادت من عام مضى؟ هل استزادت من الخير؟ هل كان للأيام أثر نافع على القلب؟ هل أصبحنا أحرص على صلاة الجماعة؟ هل تعاهدنا كتاب الله تلاوةً وتدبراً وحفظاً كما يليق بأعظم كتاب في الخليقة؟ هل فهمنا مقاصد كتاب الله؟ هل استيقظ القلب من غفلته؟!.
فإن المؤمن يستثمر السنين والشهور والأيام بل والساعات والدقائق في التقرب من ربه ومولاه, قال تعالى (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ) [فاطر:37], وفي ابنُ حِبَّانَ والترمذيُّ في جامِعِه أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ: عَن عُمُرِه فيما أفناهُ, وعن جسدِهِ فيما أبلاهُ, وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ, وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيما أنفقَهُ". وفي الترمذي أيضا عن أبي بكرة-رضي الله عنه- أن رجلا قال: يا رسول الله أي الناس خير؟ قال: "مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ"، قال: فأي الناس شر؟ قال: "مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ".
فهل نحن في سني أعمارنا في زيادة من خير الآخرة؟ أم نحن في نقصان كما قال القائل:
تدور بنا الأيام والكل غافل *** وها نحن في التيه البعيد ولا ندري
لولا انتفاض الروح يدفع ركبنا *** ويبعث ما في معدن الترب من تبر
ولولا كتاب الله ينساب نوره *** حياة لبات الكون أشبه بالقبر
ألا أيها الإنسان إنك كادح *** ولابد أن تلقى غدا حاصل العمر
معاشر الإخوة: إن الزمان والعمر معا يمضيان بسرعة فائقة لا يتوقفان عند غافل, ولا يحابيان كل ذاهل, كم مودع من عام مضى من أخ وقريب؟ وكم فقدنا من عزيز وحبيب هزنا خبره وفجعنا نبأه؟ سبقونا للقبور وتركوا عامر الدور والقصور, فإلى متى الغفلة عن حقيقة الدنيا وهل ران عن قلوبنا ما ران أم أننا على خير؟.
إنها المحاسبة, إنها المتابعة, إن الموفق الواعي من سعى لإصلاح حاله ولو كان على خير يسعى لإصلاحها أيضا أكثر وأكثر, فالتنافس لابد منه فلا رضا عن النفس في شأن الآخرة, بل الشوق للجنة يقطع الإعجاب العمل ويورث التواضع والإخبات, ويشهد القلب على التقصير ويصح في صاحبه قول المنادي:
اِلهِي لَسْتُ لِلْفِرْدَوْسِ أهلاً *** وَلاَ اَقْوَى عَلَى نارِ الْجَحِيْمِ
فَهَبْ لِي تَوْبَةً وَ اغْفِرْ ذُنُوْبِي *** فَاِنَّكَ غَافِرُ الذَنْبِ الْعَظِيْمِ
وَعَامِلْنِي مُعامَلة الْكَرِيْمِ *** وثَبِّتْنِي عَلَي النَّهْج الْقَوِيْمِ
فلا محل للسابق بالخيرات إلا للتقدم والارتقاء على أي حال كان, فالتنافس يعني سعي الفاضل للأفضل, والكيس من أدام المحاسبة وأكثر على نفسه المعاتبة؛ فبذلك يجتمع في قلبه رجاء رحمة ربه وخوفه من غضبه وعقابه, فيحيى حياة السعداء ويبوء نزل الشهداء من الكريم ذي المن والعطاء.
أيها الإخوة: نحن في أواخر شهر ذي الحجة وقد أدى الحجاج مناسكهم وقدموا من ديارهم محتسبين تطهيرهم من الذنوب كيوم ولدتهم أمهاتهم، نحسبهم كذلك فهنيئا لهم, لكن ماذا عمن لم يتيسر له الحج؟ كم يا ترى منهم من شغل بالهم همَّ السنة الماضية, فخافوا من ذنوبهم فيها وسيئاتهم!!.
إن مما يخشى منه ألا يعرف انقضاء السنة إلا بتغيير التقويم باستبدال تقويم قديم بدلا من الجديد, أو بزيادة المرتب أخر العام -الحلاوة-, بينما يغفل عن التأمل في صحائف الأعمال, وعما سطر فيها وانطوى لأعمال عام كامل.
فالقرآن يبين, القرآن يعظ بأننا إن لم نلتفت إلى كتاب أعمالنا ونحاول قراءته بين فترة وأخرى؛ فسوف نقرأه بأنفسنا جزما يوم القيامة.
فالقرآن يبين, القرآن يعظ بأننا إن لم نلتفت إلى كتاب أعمالنا ونحاول قراءته بين فترة وأخرى؛ فسوف نقرأه بأنفسنا جزما يوم القيامة (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الإسراء:14] حتى الأمي الذي لا يقرأ سوف يقرأ يوم القيامة. يقول قتادة: "سيقرأ يومئذ من لم يكن قارئا في الدنيا". فلنراجع حياتنا ولنحاسب أنفسنا فهو خير لنا وأقوم.
أيها الأخوة: بداية عام هجري تذكر بالهجرة وأصل الهجرة هجران بلد الشرك والانتقال منه إلى دار الإسلام, قال الإمام النووي: "الهجرة عند جمهور العلماء باقية إلى يوم القيامة". أما قوله -صلى الله عليه وسلم- "لا هجرة بعد الفتح", أي لا هجرة من مكة لأنها صارت دار الإسلام, أو بمعنى لا هجرة فضلها كفضل الهجرة قبل الفتح, قال العلماء: "الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام باقية إلى يوم القيامة".
وكذلك أي أرض لا يأمن المسلم فيها على دينه وكان قادرا على الهجرة منها وجب عليه ذلك, فالهجرة بمعناها الواسع هي الانتقال من شؤم المعصية إلى بركة الطاعة. في سنن أبو داوود بإسناد صحيح من حديث عبد الله الخثعمي لما سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فأي الهجرة أفضل؟" قال: "من هجر من حرم الله عليه". ومن حديث عمرو بن عبثة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل: "يا رسول الله أي الهجرة أفضل؟", قال: "من هجر السوء". وفي صحيح الجامع من حديث معاوية قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة, ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها".
فليس التحدث عن الهجرة بأسلوب قصصي وسرد تاريخي, أو إقامة طقوس والاحتفالات بهذه المناسبة مما يغني القلب عن تدبر معاني الهجرة وغاياتها وأثرها على النفس والسلوك, فإن كثيرا ممن يتحدثون عن الهجرة على رأس السنة لا يفقهون حقيقة معناها ولا يعملون بمقتضاها, بل إنهم يخالفونها في سلوكهم وأعمالهم, فهم يتحدثون عن هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام وتركهم وطن الكفر إلى وطن الإيمان؛ وربما يكونون هم مقيمين في بلاد الكفر التي لا يأمن المسلم فيها على دينه وعياله, وقد يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون عبادة القبور والأضرحة, وهم يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون المعاصي والأخلاق الرديئة.
يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون عادات الكفار بتقليدهم وأعيادهم وهيئاتهم فأين معاني الهجرة وأثارها من تصرفات هؤلاء؟!.
معاشر الإخوة: الهجرة مرتبطة بالمحبة, ولما كانت الهجرة حقة على النفس فلابد أن هناك شيء يعوض المشقة حتى تستهل النفس اقتحام المشاق.
ومن هنا كانت تقوية محبة الله -تعالى- أمرا أساسيا في حدوث الهجرة, سواء هجرة الجسد أو هجرة القلب (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) [البقرة: 165], إذا تحققت محبة الله -تعالى- وأينعت ثمرتها في القلب فإنك ترى العبد مهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبة الله، ومن عبودية غير الله إلى عبودية الله، ومن خوف غير الله إلى خوف الله, ومن رجاء غير الله إلى رجاء الله ومن التوكل لغير الله إلى التوكل على الله، ولذلك نفهم قول الله -جل وعلا- جيدا (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) [الذاريات: 50].
أسأل الله تعالى أن يجعل قلوبنا مطمئنة بحبه مهاجرة إليه لا إلى غيره, أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين المتقين, وأشهد أن محمد عبده ورسوله بلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في سبيل الله حق جهاده حتى أتاه اليقين, وصلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين, وعلى من صار على نهجه واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن السنة إذا عارضت عادة أو صغرت منها فقد تكون قاسية على بعض النفوس لكن الحق أحق أن يتبع, سئل سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله تعالى- عن التهنئة بالعام الهجري الجديد فقال: "فالتهنئة بالعام الجديد لا نعلم لها أصلاً عن السلف الصالح، ولا أعلم شيئًا من السنة أو من الكتاب العزيز يدل على شرعيتها، لكن من بدأك بذلك فلا بأس أن تقول وأنت كذلك، إذا قال لك: كل عام وأنت بخير، أو في كل عام وأنت بخير فلا مانع أن تقول له وأنت كذلك نسأل الله لنا ولك كل خير، أو ما أشبه ذلك، أما البداءة فلا أعلم لها أصلاً".
وسئل العلامة ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- عن الاحتفال بالعام الهجري الجديد فأجاب -رحمه الله- قائلا: "أيها المسلمون: إننا في هذه الأيام نستقبل عاماً جديداً إسلاميا هجريا, ليس من السنة أن نحدث عيداً لدخوله, وليس من السنة أن نهنئ بعضنا بدخوله ولكن التهنئة إنما هي أمر عادي وليس أمراً تعبديا, وليست الغبطة ليست الغبطة بكثرة السنين, كم من إنسان طال عمره وكثرت سنواته ولكنه لم يزدد بذلك إلا بعداً من الله, إن أسوأ الناس وشر الناس من طال عمره وساء عمله, ليست الغبطة بكثرة السنين وإنما الغبطة بما أمضاه العبد من هذه السنين في طاعة الله -عز وجل-, فكثرة السنين خير لمن أمضاه في طاعة ربه شر لمن أمضاه في معصية الله".
نعم ولو تأملنا حديث أبي ذر في صحيح مسلم عنه -صلى الله عليه وسلم- فيما يحكيه عن ربه أنه قال: "يا عبادي: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها, فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه". فقال: "إنما هي أعمالكم.." ولم يقل إنما هي أعماركم، أو سنواتكم.
أسأل الله -تعالى- أن يعمر أيامنا بطاعته حتى نلقاه -سبحانه وتعالى-, اللهم اعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي