حماية الثوابت من زيف الديمقراطية

ناصر بن محمد الأحمد

عناصر الخطبة

  1. إشغال الأمة عن قضاياها المصيرية
  2. زيف الديمقراطية
  3. هل الديمقراطية طريق للحكم الإسلامي؟
  4. المآخذ الشرعية على الديمقراطية
  5. معالم عامة في مجال الدعوة
  6. عوامل تحكم الفشل
  7. الوضوح في الدعوة
  8. بعض الأمثلة على وضوح النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته والفوائد المستفادة منها
  9. مخالفة الدين سبب لضعف المسلمين

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله…

أما بعد:

أيها المسلمون: يشهد العالم الإسلامي في وقتنا الراهن أحداثاً كبيرةً وضخمةً تجعل الحليم حيرانا، يعجز المسلم عن متابعتها فضلاً عن تحليلها، وقراءة ما وراء سطورها، وكلما حصل حدث جديد انشغل الناس عن سابقتها، وإن كانت أعظم منها.

لقد تشاغل الناس عما يجري في فلسطين بعد ما اندلع ما يسمى بالربيع العربي، وخصوصاً بعدما اشتعلت ثورة سوريا، وشُغل الناس عما يجري من إراقة للدم المسلم في كل يوم في سوريا بعدما اشتعلت أحداث أرض الكنانة مصر.

وهكذا دواليك، فلا يتمكن المسلم من متابعة الجديد، حتى شُغل عن تأدية عباداته على الوجه المطلوب والله المستعان.

والخطر كل الخطر أن تتم عمليات الإشغال والانشغال عن هموم الإسلام باسم الإسلام، ويتم الصرف عن العمل باسم العلم.

ولكل هذا فإن إعمال الفكر، وكدّ الذهن من أَجْلِ استجماع أسباب حماية الثوابت يطرح نفسه أمراً مهمّاً، في زمن أزكموا فيه أنوفنا بالمطالبة بالديمقراطية المغلف زوراً بإقامة العدل، وإعطاء الحرية للناس.

ولن يكون حماية ثوابت الدين إلا باستلهام روح النصيحة لله ولرسوله، ولخاصة المسلمين وعامتهم، واستشعار أهمية تغليب المصالح على المواقف الخاصة، واستبعاد تعرض ثوابت الدين للمخاطر من أجل الحفاظ على الخواطر.

أيها المسلمون: إن الديمقراطية التي يُنادى بها خصوصاً بعد هذه الثورات التي قامت في بلاد المسلمين، هي ثوب فصّل في الغرب لا يصلح لنا نحن المسلمين البتّة، ثوب الديمقراطية لا يناسبنا مقاسه، ولا شكله ولا لونه، ولا خياطته، ومع الأسف أن هناك من الصالحين، ومن التيار الإسلامي من ينادي بها ويبرر لنفسه مع إدراكه للتجاوزات التي تتضمنها؛ لأنه يراها أهون من الظلم الذي يُمارس عليه في بلاده.

ولم تجد الديمقراطية في تاريخها كله رواجاً مثلما وَجدت في عصرنا هذا، بل إن المفتونين بها، والمروجين لها، صاروا يصورونها؛ كالبلسم الشافي لكل مشكلات المجتمع السياسية، وغير السياسية.

ويكفينا في أحداث مصر الأخيرة أن ندرك زيف الديمقراطية، وزيف مصداقية صناديق الاقتراع، وأن هذا قد يكون مقبولاً إلى حد ما، لكن مع غير الإسلاميين.

بل إن الغرب نفسه مستعد أن يتخلى عن أسس وأصول الديمقراطية التي يزعمها إذا ما تعارضت مع مصالحه السياسية، أو الاقتصادية، والأمثلة على ذلك كثيرة.

وهناك درس أهم من ذلك كله في أحداث أرض الكنانة، تكفينا إذا استفدنا مما حصل، وهو أن الديمقراطية ليست طريقاً للحكم الإسلامي، الديمقراطية ليست طريقاً لتطبيق شريعة الله -عز وجل-؛ لأن الديمقراطية تخالف، بل تناقض الإسلام في عدد من القضايا الكبيرة والخطيرة.

فإذا ما اقتنع تيار معين، أو مجموعة معينة، ورأت أن تدخل اللعبة السياسية، وتمارس الديمقراطية، فيجب عليها أن تدخل اللعبة بشروطها، ومن شروطها: أن ترضى بالعلمانية، فإذا كان دينها وعقيدتها يحرم عليها ممارسة العلمانية، فلتبحث لها عن طريق آخر لتطبيق الحكم الإسلامي؛ لأن العالم كله سينقلب عليها؛ لأنها خالفت طريقة لعبة الديمقراطية.

أيها المسلمون: لماذا لا تستطيع جهة معينة لديها دين وترغب في الإسلام أن تمارس الديمقراطية؟

الجواب: لأن هناك مآخذ شرعية على الديمقراطية تتعارض مع الإسلام.

أول ما يؤخذ على الديمقراطية: كونها اسماً لا حقيقة له: إذ إن الديمقراطية كما يعرّفها كبار منظّريها وساستها هي حكم الشعب.

لكن الصورة الواقعية لما يسمى بالديمقراطية في العالم كله مهما كانت حسناتها أو سيئاتها ليست هي حكم الشعب؛ لأن مفهوم الشعب نفسه مفهوم غامض، ولأن الشعب لم يكن في يوم من الأيام، ولن يكون حاكماً، فذلك أمر متعذر.

ومن المآخذ الشرعية على الديمقراطية: كونها تنادي بالحريات: فهي حرية مطلقة لا يقيدها دين سماوي، بل تسوِرها قوانين أرضية غير متفق على نصوصها، فهي أسوار متحركة، لها مسارات متعرجة بحسب البلاد والمجتمعات.

وعندما تكون الحرية مبتوتة التحديد عن دين الله الذي هو الإسلام، فإن تقييد إطلاقها سيكون خاضعاً لعقول البشر وأهوائهم، ومن هنا ستختلف معاني الحرية بحسب ذلك، وبناء عليه فإن مفهوم الحرية في النظام الاشتراكي مغاير لمفهومها في النظام الرأسمالي، وفي داخل النظام الرأسمالي، فإن مفهوم الحرية في فرنسا مثلاً قد تراه مغايراً لمفهومها لدى ألمانيا، ويعود سبب اختلاف المفاهيم إلى تراكم ظروف حياتية وموضوعية أدت في النهاية إلى صياغة قوانين متغايرة، إلا أن القاسم المشترك بينها جميعاً هو انبتاتها عن التقييد الرباني، فالحرية الجنسية، والحرية الاقتصادية، والحرية السياسية، والحرية الثقافية، والحرية الاجتماعية، والحرية الفكرية والعقدية، جميع تلك الحريات، وغيرها هي حريات يُطلق للشعب أسلوب التعبير عنها، كل بطريقته وذلك من خلال الأطر التي يضعها ممثلوه المنتخبون.

ومن المآخذ أيضاً: كونها تنادي بالمساواة: ويغلط من يقول بأن الإسلام دين المساواة، فالإسلام دين العدل وليس دين المساواة.

وأما مساواة الديمقراطية فيتساوى صاحب شهادة الدكتوراة العلمية مع العامي الجاهل الذي لا يعرف كيف يتوضأ في إدلاء كل منهما بصوته لصالح مرشح، ويتساوى العالم الفاضل التقي مربي الأجيال في الإدلاء بصوته مع بنت الهوى التي تعرض مفاتنها في الملاهي الحمراء، ويتساوى الإداري صاحب العقل المنظّم وواضع برامج التعليم، أو التنمية في الإدلاء بصوته مع جامع القمامة الأمّي، ويتساوى مدير المدرسة، أو رئيس الجامعة في الإدلاء بصوته مع الطالب الناشئ الذي يدرّسه.

وعندما تُفرز الأصوات ربما يفوز مرشح بسبب صوت أدلى به الأمي على مرشح آخر جلّ أصوات ناخبيه من المثقفين.

والعجيب أن يستمر بعض الإسلاميين في هذا النهج بمباركة الغرب، ويدّعي أن الغرب أنموذجا للنظام الديمقراطي، برغم أننا نعلم اليوم مدى تأثير رجال المال والاقتصاد على السياسة الغربية، حتى تصبح القرارات السياسية بيد طبقة دون أخرى، كما يفعل اللوبي اليهودي في أمريكا وغيرها، فيَسقط هذا الادعاء الزاعم أن الشعب هو الذي يحكم.

وكم من الجرائم ترتكب سواء برعاية الدول الديمقراطية الكبرى، أو بزعم الحفاظ على الديمقراطية وحقوق الإنسان.

انظر إلى قضايا المسلمين في البوسنة وفلسطين، والعراق والسودان، وغيرها من الدول المسلمة، وإلى التدخل السافر في الشأن الداخلي للدول المستقلة، ثم إلى الفساد والإفساد الذي يُروّج له تحت هذه المسميات البرّاقة، والذي تعج به الدول الديمقراطية، وما يصحبه من دعوات للتحلل الأخلاقي، وتسويغ لأشنع الجرائم؛ كالزنا والشذوذ، وغيرهما من فنون الفساد.

ونحن وإن كنا نجد العذر للكافرين الذين يحاولون البحث عن أي طريق لا وحي فيه ولا غيب، فإننا لا نستطيع أن نعذر أولئك المنتسبين للإسلام الذين يتعمدون إسقاط العقيدة الإسلامية من حساباتهم، أو يحاولون المتاجرة بالقيم الإسلامية الصحيحة؛ كالشورى، والمصالح المرسلة، وما ذلك إلا لنيل رضى الكافرين -والعياذ بالله-.

أما الحل الذي نفهمه، وندعو إليه، فليس هو محاولة تعديل للفكر الديمقراطي لكي يتناسب معنا؛ لأن الديمقراطية عِوج، ولا يمكن أن يستقيم الظل والعود أعوج، بل الحل هو العودة الرشيدة للنظام الإسلامي الأصيل، وهنا يجب أن يكون الجهد والمجاهدة إلى أن يقضي الله أمره.

أيها المسلمون: وفي خضم مجريات الأحداث من حولنا، لابد للمسلم من معالم ينضوي إليها، فهذه بعض معالم:

أولاً: لا مجاملة في الحق: فالحق قديم، وهو يعلو ولا يُعلى عليه، ومن نوقره من أجل الدين لا ينبغي أن يرتفع فوق حقائق الدين.

ومن الضوابط في ذلك: عدم الخلط بين الصلاح الشخصي والخطأ المنهجي الذي يقع فيه، فكل إنسان بل كل إمام يؤخذ منه ويرد إلا صاحب الحجرة كما قال ذلك الإمام مالك -رحمه الله-.

وقد قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "ليس في الدين محاباة".

ثانياً: كلما عظم الأثر عظمت المسألة: ذلك أن القضية كلما كان لها ارتباط بقطاع أكبر من الأمة، كلما عظمت المسؤولية في الكلام فيها، أو اتخاذ قرار بشأنها.

وفي عصرنا لا تصلح الاجتهادات الفردية في القضايا المصيرية، ولا يصح السكوت عن خطأ علمي، أو منهجي، أو سياسي من بقية أهل العلم، خصوصاً إذا كان أثر ذلك الاجتهاد متعلق بالأمة، فكما أن كتمان العلم ابتداءً لا يجوز فإن السكوت عن بيان الخطأ فيه أيضاً لا يجوز.

ثالثاً: ليس بصحيح اعتبار واقع مجتمعك معياراً للمنهج الصحيح في كل شيء: تتفاوت مجتمعات المسلمين اليوم في مدى قربها، أو بعدها عن الهدي الشرعي، ومدى سلامتها من البدع والمحدثات، وقد يتميز مجتمع منها بأنه أكثر محافظة، وأقل ابتداعاً من غيره، فيشعر أهله بالتوجس والريبة مما يفد إليهم من سائر المجتمعات، ويعطي الواقع المشاهد بعض المصداقية لهذه النظرة.

لكن قد تتحول القضية إلى اقتناع راسخ بأن أي وافد على هذا المجتمع، فذلك دليل انحرافه، فيرفض هؤلاء الكثير مما لم يألفوه بحجة أنه وافد، أو لم يكن يُعرف من قبل، نعم قد يكون هذا الوافد مخالفاً فينبغي أن يرفض؛ لأنه مخالف للشرع لا لأنه وافد، وقد يكون موافقاً للشرع، فكونه غير معروف لدى مجتمع معين، أو طبقة معينة من الناس، مهما علا قدرهم ليس مبرراً لرفضه.

رابعاً: لا يصلح أن ننطلق دائماً من ردود الأفعال: إن الأحداث تترك آثارها، وتهزّ النفوس هزّاً قد يفقدها بعض التوازن، فتتجه إلى طرف آخر، ومن هنا تساهم ردود الأفعال في صرف بعض الناس عن موقف الاعتدال، فقد تكون ردة الفعل تجاه موقف أخطأ فيه شخص، أو تيار، فعالجه آخر بتطرف مقابل، كما حصل من حزب النور -هداهم الله- في أحداث مصر الأخيرة.

خامساً: لا يصلح اعتبار النتائج القريبة مقياساً للفشل أو النجاح: لا شك أن كل عامل يتطلع إلى نجاح عمله، وإلى تحقيق أهدافه ومقاصده، والصالحون سواءً كانوا أفراداً أو جماعات شأنهم شأن سائر العاملين، يسعون لتحقيق أهدافهم، من نشر الخير في المجتمعات، وكف الفساد والشر عنها، وقد يفشلون أحياناً في تحقيق الأهداف التي يتطلعون إليها.

والفشل تحكمه عوامل عدة منها: خطأ المنهج وهذا واضح، وقد يكون المنهج صحيحاً لكن الفشل قد يكون ناشئاً عن تقصير في الأخذ بالأسباب، أو الذنوب والتقصير في الطاعة، أو عدم تمام صفاء النية، فقد يكون لدى المسلم شيء من ذلك، لكنه في الجملة سليم المنهج، فلا يسوغ أن نرفض طريقته، ونحكم بفشلها، فالفشل هنا له هو لا للمنهج.

لقد هُزم المسلمون في غزوة أحد، وفرّوا يوم حنين، وأخبر القرآن أن ذلك بما كسبته أيدي المسلمين، فهل يجرؤ مسلم على اتهام أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بالخلل في منهجهم إذ ذاك؟.

إذن: يجب التفريق بين التقصير وإتيان بعض الذنوب التي يتم علاجها بتصفية النفوس وتزكيتها، والخلل في المنهج الذي يعني المراجعة له.

وقد يكون ذلك ابتلاءً وامتحاناً لرفعة درجة أولياء الله، فقد أخبر الله عن أهل الكتاب أنهم: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾[آل عمران: 21].

وأثنى على أصحاب الأخدود الذين أُحرقوا جميعاً في النار في مجزرة جماعية، لم يكن الغلام إذ ذاك هو المسؤول عنها، ولم تكن تلك الدماء ثمناً لتهوره، وحين جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بدعوته وجهر بها أوذي نفر من المسلمين، بل منهم من قتل، وأُخرجوا من ديارهم، أكانت دعوته هي المسؤولة عن هذا الذي أصابهم؟! أم أن ذلك كان يعني خللاً في المنهج؟! معاذ الله.

إننا كثيراً ما نسمع الطعن في بعض المناهج الدعوية بحجة أنها فشلت في تحقيق أهدافها، والفشل جزء منه قد يعود للمنهج، لكنه ليس بالضرورة ملازماً له.

أما إذا اعتبرنا النتائج بمقياس آخر غير قياس اللحظة الحاضرة، فسنرى أن الكثير من الجهود الدعوية التي يَصِمها بعضهم بالفشل قد حققت النجاح، ولو لم يكن في ذلك إلا القيام بالواجب الشرعي.

بارك الله لي ولكم..

الخطبة الثانية

الحمد لله..

أما بعد:

أيها المسلمون: إن أصحاب الدعوات الربانية لابد أن يكونوا واضحين مع الناس في دعوتهم، كل من يسعى لتطبيق الإسلام لابد أن يكون واضحاً في عرض الإسلام كما أراده الله -عز وجل- لا كما يتناسب مع مصلحته هو، أو مصلحة تياره.

وأصول الشريعة هي من أولويات وقواعد الدعوة الإسلامية، وهي حجةٌ على الخصوم من العلمانيين والمنافقين، والمشركين والديمقراطيين، ولا يجوز التنازل عنها من أجلهم؛ لأن ذلك مؤدٍ إلى إفساد الدين والدنيا، ولا يجوز للعلماء والدعاة التنازل عنها، أو تأخير منزلتها في البيان والدعوة، وكل دعوة إسلامية تضعف وتعطلُ شيئاً من هذه الأصول، أو تؤُخرها في البيان هي دعوة مخالفة لدعوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد ثبت في السيرة النبوية أن هذه الدعوة لم تتمكن إلا بسبب المحافظة على تلك الأصول، سواء أمام الكفار أم بين المسلمين، وسواء في حالة الضعف أم في حالة التمكن، وسواء في حالة الحرب أم في حالة السلم.

إليك هذين المثالين من السيرة النبوية:

المثال الأول: وفد ثقيف: جاء وفد من الطائف بعد سنة تسع إلى الدولة الإسلامية في المدينة يطالب بأشياء، ويريد أن يُسْلِمْ، وتكون له حرية في الربا والخمر والزنا والخرافة، ونلاحظ هنا أن هذه المطالبات تمثل قاعدة حقوق الإنسان في الغرب، وتمثل مطالب العلمانيين باسم الآخر في العالم الإسلامي.

وإليك نص الحوار بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- ووفد ثقيف.

قال ابن القيم – رحمه الله – في زاد المعاد: قدم عليه صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف، فقال كنانة بن عبد ياليل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أفرأيت الزنى، فإنا قوم نَغترب، ولابد لنا منه؟ قال: هو عليكم حرام، فإن الله -عز وجل- يقول: (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً) [الإسراء: 32] قالوا: أفرأيت الربا فإنه أموالنا كلها؟ قال: لكم رؤوس أموالكم إن الله -تعالى-يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 278] قالوا: أفرأيت الخمر، فإنه عصير أرضنا لا بد لنا منها؟ قال: إن الله قد حرمها، وقرأ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: 90] فارتفع القوم، فخلا بعضهم ببعض، فقالوا: ويحكم إنا نخاف إن خالفناه يوماً كيوم مكة، انطلقوا نكاتبه على ما سألناه، فأتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: نعم لك ما سألت، أرأيت الرَّبَّة ماذا نصنعُ فيها؟ قال: اهدموها، قالوا: هيهات لو تعلم الرَّبَّةُ أنك تريد هدمها، لقتلت أهلها، فقال عمر بن الخطاب: ويحك يا ابن عبد ياليل، ما أجهلك، إنما الرَّبَّة حجر، فقالوا: إنا لم نأتك يا ابن الخطاب، وقالوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: تولَّ أنت هدمها، فأما نحن فإنا لا نهدمها أبداً، قال: فسأبعث إليكم من يكفيكم هدمها، فكاتبوه.

المثال الثاني: وفد الصليب: وفي سنة تسع جاء وفد نصارى نجران إلى الدولة الإسلامية، وفيهم العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريدان أن يفاوضاه في شأن عيسى -عليه السلام-.

وقد روى القصة الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي، ورواها البيهقي مطولة في دلائل النبوة، وابن إسحاق في السيرة، وموضع الشاهد فيها: أن وفد نجران وعددهم ستون راكباً، فيهم أربعة عشر من أشرافهم، قدموا إلى المدينة، يقولون: إنهم على الحق في اعتقادهم في عيسى -عليه السلام-، ونزل القرآن يُبين لهم في سورة آل عمران: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: 59] فلما كلّم الحَبْرانِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لهما: أَسْلِمَا، قالا: قد أسلمنا، قال: إنكما لم تُسلِمَا فَأسْلِمَا، قالا: بلى قد أسلمنا قبلك، قال: كذبتما، يمنعكما من الإسلام ادعاؤكما لله ولداً، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير، وفيهم قوله تعالى: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ [آل عمران: 63].

فانتهى هذا الحوار بصورة واضحة تبين فيها المفسد من المصلح، ورجع الوفد الصليبي خائباً يجر أذيال الخيبة، وقد علمهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كيف يتحقق الإسلام والإيمان.

ويمكن أن نذكر بعض الفوائد المستنبطة من هذين المثالين في السيرة النبوية فيما نحن بصدد الحديث عنه، ومنها:

أولاً: أن الأصول هي أساس الدعوة الإسلامية، وهي قوة معنوية للعمل الإسلامي يجب الاجتماع عليها، والقيام بها.

ثانياً: لا يجوز التنازل عنها لا في حالة القوة والجهاد، ولا في حالة الضعف.

والسلم في الشريعة الإسلامية إنما هو وضع للحرب بين المسلمين والكفار، وليس تنازلاً عن الأصول وتطبيعاً للعلاقات مع المجرمين.

ثالثاً: أن التنازل عن شيء من الأصول من أجل الآخر فتنة للبشرية؛ لأن فيها إفساداً للمسلمين، وتلبيساً على الكافرين.

وهكذا أبطل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حقوق هؤلاء التي هي في حقيقتها فساد وخرافة وشر، وإن حاولوا أن يُغلِّفَوها بالمصلحة والضرورة والحاجة والخصوصية.

وهذا المنهج النبوي الدعوي يمثل الإسلام عقيدةً وشريعةً، ويدافعُ عن الأصول، ويكشف أن تطبيق الديمقراطية، إنما هو فتنة وفساد، وظلم وبغي.

ونستطيع أن نقرر هنا: أن سبب ضعف المسلمين في العالم، وذهاب مقدساتهم، واختلاف كلمتهم، إنما هو بسبب مخالفتهم لهذا المنهج النبوي، وكذلك بالنسبة لكثير من الدعاة إنما أصبحوا فريسة للغرب لماّ وهنوا وضعفوا وانهزموا أمام أفكاره ووسائله، وأصبحوا يستحيون من الصدع بالمنهج النبوي أمام الانحرافات التي صنعتها الديمقراطية.

ولهذا السبب طمع الكفار فينا وفي مقدساتنا، وتدخّل الكونجرس بعد أن قرر تعطيل الشريعة الإسلامية لتحل محلها شرائع الآخر العلمانية، وهكذا يُدعمُ الآخر تشريعياً، كما دُعِمَ فكرياً بنشر حقوق الإنسان، ولا يزال يُدعمُ عسكرياً أكثر من خمسين سنة باسم حقوق إسرائيل، وحقوق الآخر في الأرض، والسلام والأمن العالمي، والآخر المسلمُ يُسحق ويُقتل على الطريقة الأمريكية، لكن مع مزيد من ضبط النفس، وتحت إشراف القانون الدولي، أو إن شئت فقل القانون الأمريكي، وكل ذلك لمصلحة الآخر الذي تارة يكون صليبياً، وتارة يهودياً، وتارة علمانياً، وعلى الآخر المسلم أن يتنازل تارة عن شريعته؛ لأنها إسلامية، وتارة عن مقدساته، وتارة عن تحريم الربا والزنا والخمر، وكذلك يجب على المرأة أن تتنازل عن حجابها، بل قد يُضيّق على المسلم في صلاته، كل ذلك من أجل الاعتراف بالآخر.

فهل تجتمع كلمة العلماء والدعاة والعامة والخاصة على نصر أصول الشريعة، وقواعد الملة، والعمل بها، والدعوة إليها، وهل نكون على بصيرة من الأمر، ونقف موقفاً شرعياً من الآخر الذي يخالف هذه الأصول، ويرفع راية الحريات، أو التنوير، أو السلام، أو حقوق الإنسان، وهو يطعن المسلمين من الخلف في دينهم وشريعتهم ومقدساتهم، بل أصبح اليوم يطعن من جميع الجهات، وما زال كثير منا يتوسل إليه ليكون مقبولاً عنده وليحظى برضاه: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت(41].

اللهم…


تم تحميل المحتوى من موقع