إن الله عزيز ذو انتقام

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
عناصر الخطبة
  1. اسم الله العزيز في الكتاب والسنة .
  2. بيان معاني عزة الله سبحانه .
  3. من دلالات عزة الله سبحانه .
  4. صور من عزة السلف .
  5. من أسباب تحصيل العزة .
  6. الحث على الاعتزاز بهذا الدين .
  7. بيان كيفية التعبد لله ودعائه باسم العزيز .

اقتباس

والعزيز -سبحانه- هو الممتنع عن الإدراك، المرتفع عن أوصاف المخلوقات، جلَّت مكانته فلا يُذَل، وبَعُد عن الأفهام فلا يُدْرَك، واستغنى بذاته فلا يَحتاج إلى غيره، وهو الذي ينعدم وجود مثله، وتشتد الحاجة إليه، ويصعب الوصول إليه، وهو الذي لا يدركه طالبوه، ولا يعجزه هاربوه، فالعزيز -سبحانه- لا مثيل له ولا ند له ولا نظير له...

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَنْ يَهْدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له ومَنْ يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله. اللهم صلِّ على سيدنا محمد النبي، وأزواجِه أمهاتِ المؤمنين، وذرِّيته وأهل بيته، كما صليتَ على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعدُ: فإنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله -تعالى-، وخيرَ الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور مُحْدثاتُها، وكلَّ محدَثة بدعةٌ، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عباد الله: في زمان الضعف وأوقات الهوان، وفي أزمنة علا فيها الصغار، وتكبر الفجار، واستغنى كل متجبر بنفسه أو بماله أو بجاهه، أو سلطانه، في أزمانٍ كتلك يتطلع الضعاف المغلوبون لكل قوي عزيز غالب ينقذهم ويخلصهم من الهوان، وكثيرًا ما بحث البشر عمن ينصرهم أو يعزهم، ويقيل عثرتهم، ولكنهم ضلوا السبيل، فيمّموا وجوههم شطر الشرق تارة، والغرب تارة أخرى، فلم يجنوا منهم إلا الخسارة؛ لأنهم لجئوا لضعاف مثلهم، لا يملكون لأنفسهم -فضلاً عن غيرهم– عزّة ولا سؤددًا، ولا ضرًّا ولا نفعًا، ولو أنهم ركنوا للقوي المتين، العزيز الذي تفرد بالعزة والعظمة، والعلو والقدرة المطلقة غير المحدودة، لآواهم ونصرهم، وأعزّهم وقواهم؛ لأن العزة لله وحده.

أيها المسلمون: ينبغي للمؤمنين أن يستشعروا اليقين التام بعزة ربهم -سبحانه-، ويتيقنوا أن القوة والعزة في تعلقهم بربهم ومولاهم وحده، ويعتزوا بمن له الكبرياء والعزة، ويرفضوا الهوان حين يأتيهم من أي مخلوق، ويفزعوا إلى واهب القوة والعزة يرجونه أن يعزهم بعزته، قال تعالى: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) [الفتح:7].

أيها المسلمون: أثنى الله -تبارك وتعالى- على ذاته العلية فوصف نفسه بأنه العزيز الغالب على أمره، قال تعالى: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة:21]، فالله عزيز متفرد في القوة والعظمة لا مثيل له، ولا ندّ له. قال -تبارك وتعالى-: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القَوِيُّ العَزِيزُ) [هود:66]، وقال -سبحانه-: (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:74].

ووصف ربنا -جل وعلا- ذاته العلية بأنه (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) [ص:66]. وقال -عز وجل-: (أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) [ص:9].

إخوة الإسلام: الله -سبحانه- هو العزيز الذي لا يُضام، المُعِز الذي يعز من يشاء، ويذل من يشاء، وهو رب العزة، قال -سبحانه-: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الصافات:180].

والله عزيز رحيم، بعزته يقدر على إيصال الخير، ودفع الشر عن عبده إذا سأله، وتوكل عليه، وأحسن الظن به، ولذلك أوصانا ربنا الجليل بالتوكل عليه وحده، فقال -سبحانه-: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) [الشعراء:217].

وكما اتصف ربنا بالعزة، فقد وصف كتابه الكريم بالعزيز، قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت:41-42]، أعزه الله لأنه كلامه، فكلامه عزيز محكم، لا يتطرق إليه الباطل، فلا يستطيع أحد تغييره ولا تبديله، ولا إلحاق ما ليس منه فيه. ووجه ربنا -سبحانه- كل من يطلب العزة إلى الطريق الصحيح لتحصيلها، فقال -جل وعلا-: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ) [فاطر:10].

أيها المسلمون: وقد جاء ذكر عزة الله في سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم- -وهو أعرف الخلق به- فوصفه بأنه صاحب العز التام والعزة المطلقة؛ فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "العز إزاره، والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني عذبته" [مسلم:2620]. وعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- عن النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- ذاكرا جهنم -والعياذ بالله- قال: "لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ، فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ وَعِزَّتِكَ، وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ" [مسلم:2848].

وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- عَن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "يَجِيءُ الرَّجُلُ آخِذًا بِيَدِ الرَّجُلِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ هَذَا قَتَلَنِي، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: لِمَ قَتَلْتَهُ؟ فَيَقُولُ: قَتَلْتُهُ لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لَكَ، فَيَقُولُ: فَإِنَّهَا لِي، وَيَجِيءُ الرَّجُلُ آخِذًا بِيَدِ الرَّجُلِ، فَيَقُولُ: إِنَّ هَذَا قَتَلَنِي، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: لِمَ قَتَلْتَهُ؟ فَيَقُولُ: لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لِفُلَانٍ، فَيَقُولُ: إِنَّهَا لَيْسَتْ لِفُلَانٍ، فَيَبُوءُ بِإِثْمِهِ" (أبو نعيم في الحلية 4/160 وصححه الألباني في صحيح الجامع (8029)).

ومن المعاني الدقيقة للعزة ما قاله الإمام ابن القيم -رحمه الله-، قال: ".. فما كل من قدر عفا، ولا كل من عفا يعفو عن قدرة، ولا كل من علم يكون حليمًا، ولا كل حليم عالم، فما قُرن شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم، ومن عفو إلى قدرة، ومن ملك إلى حمد، ومن عزة إلى رحمة، (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الشعراء: 9]. ومن ههنا كان قول المسيح -عليه السلام- (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة: 118] أحسن من أن يقول: (وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم)، أي: إن غفرت لهم كان مصدر مغفرتك عن عزة، وهي كمال القدرة، وعن حكمة وهي كمال العلم، فمن غفر عن عجز وجهل بجرم الجاني لا يكون قادرًا حكيمًا عليمًا، بل لا يكون ذلك إلا عجزًا، فأنت لا تغفر إلا عن قدرة تامة، وعلم تام، وحكمة تضع بها الأشياء مواضعها، فهذا أحسن من ذكر الغفور الرحيم في هذا الموضع" (التفسير القيم: 1/32).

أيها المسلمون: إن مما قيل في حكمة تكرار قوله تعالى: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الشعراء: 9] بين فواصل قصص الأنبياء مع أقوامهم في سورة الشعراء، أن اسم الله تعالى "العزيز" يدل على قدرة الله في القضاء على المكذبين للرسل وإهلاك المعاندين، وأن اسمه تعالى "الرحيم" يدل على إنجاء المؤمنين ونصرهم، ولذلك تكررت تلك الآية بين كل قصة من قصص الأنبياء التي جاءت في سورة الشعراء.

يا عباد الله: إن من معاني اسم الله العزيز –لغةً- أنه القوي الغالب، الجليل الشريف، والرفيع الشأن، والقوي القاهر الشديد، والمنقطع النظير. والعزيز -سبحانه- هو القوي القاهر الذي لا يُغلب؛ لعزته وجبروته وعظمته وكبريائه، غالبٌ لا يعجزه شيء: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) [ص:66].

عزيزٌ امتنع أن يناله أحد من المخلوقات، وقاهر لجميع المخلوقات، ودانت له الخليقة كلها، وخضعت لعظمته وذلت لجبروته: (وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [يونس:65].

فالعزيز -حقًّا- هو الغالب الذي لا يُغلب، والإنسان إذا غُلِبَ لا يكون عزيزًا، بل يصبح ذليلاً، وقد يبالغ المنتصِر بإذلاله، وقد يُجري بعض التصرفات ليبالغ بإذلاله، فالغالب الذي لا يُغلب يسمى عزيزًا، وصدق الله: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [يوسف:21].

والعزيز -سبحانه- هو الممتنع عن الإدراك، المرتفع عن أوصاف المخلوقات، جلَّت مكانته فلا يُذَل، وبَعُد عن الأفهام فلا يُدْرَك، واستغنى بذاته فلا يَحتاج إلى غيره، وهو الذي ينعدم وجود مثله، وتشتد الحاجة إليه، ويصعب الوصول إليه، وهو الذي لا يدركه طالبوه، ولا يعجزه هاربوه، فالعزيز -سبحانه- لا مثيل له ولا ند له ولا نظير له، قال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ..) [الشورى:11]، فهو عزيزٌ لا يشبهه أحد، ولا يساويه شيء، ومن ذلك يقولون: هذا الموضوع عزيز المنال، ولله -سبحانه- المثل الأعلى، وإذا كان الشيء نادرًا قليل الوجود ليس متوافرًا مع إمكان توافره نسميه عزيزًا؛ فكيف بالذي يستحيل على العقل أن يعرف له نظيرًا ولا شبيهًا؟!.

أيها المسلمون: ولعزة الله دلالات كثيرة، منها:

- عزة الغلبة والقهر لكل المخلوقات، فجميعها مقهورة لله، خاضعة لعظمته، منقادة لإرادته وعزته، فجميع نواصي المخلوقات بيده، مشيئته نافذة فيهم، وهو القاهر لهم على ما أراد، لا يتحرك منهم متحرك، ولا يتصرف متصرّف إلا بعزته وحوله وقوته، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا به، تفرد بالعزة جميعًا.

فمن عزته وقوته واقتداره أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وأنه خلق الخلق، ثم يميتهم، ثم يحييهم، ثم إليه يرجعون، قال -جل ثناؤه وتقدست أسماؤه-: (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) [لقمان:28]، وقال -جل وعلا-: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الروم:27] له المثل الأعلى، أي صفات الكمال والجلال، يُنزّه ويُقدس تبارك وتعالى عن أن يُوصف بنقص، ولا عيب، جل جلال ربنا سبحانه وتعالى.

- عزة القوة: وهي صفة عظيمة لا تُقاس عليها قوة المخلوقات، وإن عظُمت، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات:58]، وقال -تبارك وتعالى-: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) [الأنعام:65]

وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفزع عند تلاوته لهذه الآية، ويستعيذ بالله من هذه العقوبات فيقول: "أعوذ بوجهك". (البخاري 7313).

وقال سبحانه يثني على ذاته العلية بالقدرة والعزة: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا) [الكهف:45]، وقال -عز وجل-: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر:54-55].

- عزة الامتناع والاكتفاء، فهو الغني بذاته، لا يحتاج إلى أحد، ولا يبلغ العباد ضرّه فيضرونه، ولا نفعه فينفعونه، بل هو الضار النافع، المعطي المانع، سبحانه وتعالى.

- العزيز هو الذي لا يرضى الذل لعباده؛ لأنهم عباد العزيز، فهم خلقه وهو الذي كرّمهم، ورفع رأسهم، وعدل قامتهم، وكانت أول كلمة في دينه: لا إله إلا الله، فلا أعبد غيره، ولا أذل نفسي لغيره، ولا أخضع لغيره؛ لأنه لا إله إلا الله، لا ذل ولا عبودية إلا لله العزيز.

ولذلك كان العزيز -سبحانه- هو الذي يُعِزّ وحده من يشاء: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ) [آل عمران:26]، ويروى أن آخر ملوك الأندلس عندما غادر الأندلس بكى، فقالت له أمه عائشة: "ابكِ مثل النساء ملكًا مُضاعًا، لم تحافظ عليه مثل الرجال". فما قيمة الإنسان إذا تخلى الله عنه؟!.

إن البشر سواء كانوا ملوكًا أم مملوكين إذا ضيَّعوا ما أوكلهم الله إليه مما مكَّنَهم فيه وأعزهم به، من عزة الخلق وعزة الدين وعزة الجاه، أهانهم الله ونزع منهم الملك.

يا عباد الله: إن عزة الله صفة حقيقية، وليست عزة معنوية مكتسبة وقائمة على أوصاف الآخرين وقدرتهم، كما في حال المتعززين من أصحاب المكانة الاجتماعية، الذين تعززوا بأوصاف غيرهم، وقاموا في حكمهم على استغلال غيرهم، واستحلال أموالهم وخيراتهم، فلا العزة نالوا، ولا الأجر حصلوا!!.

الله أعزنا ولا تذلنا يا كريم، نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها المسلمون: لقد كان تاريخنا الإسلامي مليئًا بمواقف تُظهر عزة أهل الإسلام، وكرامتهم العالية، لم يتوارثوها من أحساب عريقة فحسب، أو أموال طائلة، أو مناصب رفيعة، بل اكتسبوها من الاعتزاز بهذا الدين، وتشربوها من الالتزام به ظاهرًا وباطنًا، حتى قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "إن الله أعزنا بهذا الدين، فمهما ابتغينا العز من غيره أذلنا الله". (الحاكم في المستدرك 1/130 وصححه الألباني في الصحيحة رقم 51).

وانظر لفقه عمر -رضي الله عنه- في فهمه للعزة، مع قول عَبْد اللَّهِ بْن مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-: "مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ" (البخاري 3684)!! هكذا كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثالاً لاعتزازهم بدينهم، فأعزهم الله -تعالى-.

وهذا إمام عَلَم من علماء هذه الأمة المجيدة العزّ بن عبد السلام -رحمه الله- كان نموذجًا للعالِم الذي يستقي عزّته من الله العزيز -سبحانه-، وقف يومًا أمام سلطان القاهرة في زمنه، وقال: "أيها الأمير: اتقِ الله، واعدل في الرعية، أغلق حانة كذا، افعل كذا"، فيقول: نعم يا عزّ، نفعل. فلما انصرف العزّ، قالت له ابنته: يا أبتِ! أما هِبتَه؟ قال: يا ابنتي: تذكرت عزة الله فصغر الأمير في عينَي!!".

نعم، لقد كانوا قومًا فضلاء، لما خافوا الله، خوّف الله منهم كل شيء، ولما اعتزوا بالله ونبيه ودينه، أعزهم الله.

عباد الله: إن كل من يبحث عن غاية حميدة لا بد أن يطرق لها أبوابًا سليمة، وكل من يبحث عن العز في المال أو الجاه أو العمل، يبتعد عن الطريق المراد شاء أم أبى؛ وذلك لأن الله العزيز هو الذي بيده العزة: (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً)، فمن أراد العز في الدنيا والآخرة، فليطلبه من رب العزة، وذلك يحصل بكمال الإيمان والتقوى، ولزوم طاعة الله -عزَّ وجلَّ-، وصدق الله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) [فاطر:10].

يا عبد الله: إنك لو عشت بهذه الآية لكفاك ذخرها وعبيرها، فمن يبتغي العزة لن يجدها إلا عند الله، كما أن الشمس مصدر النور والدفء للأرض، فلو بحثت عن العزة عند غيره فلن تجدها، لا يمكن، لا في سلطة ولا معصية، وكل من يبحث عن العزة بالانحياز إلى أعداء الله من الكفرة والمنافقين فقد ضل السبيل، ولهذا اشتدّ نكير الله على من يفعل ذلك: (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [النساء:139]، فمصدر العزة في الكون من الله العزيز.

وإن العبد إذا تدبر في اسمه الله "العزيز" يجد أنه يبعث في نفسه سعادة ما بعدها سعادة، فكلّما عاش معه شعر بالقوّة والكرامة، فيعيش متفائلاً دائمًا، يبعث الأمل في روحه، فالعزيز -سبحانه- لا يخيّب رجاء العبد، وينصره ولو بعد حين، يحيطه بجنوده عند الحاجة، ولو فهمنا وعرفنا وعشنا هذه المعاني لخرجت الأمّة من ذلّها ومهانتها إلى عزّها وسيادتها، وتخلصت من قيودها وأسرها.

عباد الله: والعبد المسلم إذا رام العزّة قام بأسباب تحصيلها، وسلك مظان وجودها، فمن أسباب تحصيلها: العفو والتواضع؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ".. وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أحَدٌ لِلَّهِ إِلا رَفَعَهُ اللهُ" (مسلم(6757)، فيُعامل العبد بنقيض فعله، فكلما عفا -والعفو يفهمه بعض السذج على أنه جُبْن وخَوَر- كلما رفعه الله وأعزه، وكلما تواضع للعزيز رفع الله قدره وأكرمه.

فزيادة العزة والكرامة تكون مع عظم الطاعة وحسنها، وكمالها ودوامها، فأعزُّ الناس هم الأنبياء، ثم الذين يلونهم من المؤمنين المتبعين لهم، فعزة كل أحد بقدر علو رتبته في الدين، وكلما كانت هذه الصفة فيه أكمل، كان وجدان مثله أقل، وكان أشد عزة، وأكمل رفعة، ولهذا قال -سبحانه-: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقون:8]. فالعزة هنا لله تحقيقًا، ولرسوله فضلاً، وللمؤمنين ببركة إيمانهم برسول الله عليه الصلاة والسلام.

أيها المسلمون: ينبغي أن يظهر أثر اسم الله "العزيز" في سلوك العبد في مظاهر العزة التي يشعر بها المسلم في توحيده لربه وعبوديته، وحبه، وكل عمل يزيده من قربه، ويقينه أن العزة في اتباع أمره، وأنه جعل لنبيه -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه وحزبه العزة، والعبد الموفق لا يرضى بديلاً عن عزة الإسلام وأهله حتى لو كانت لأهله وعشيرته وقومه.

وإذا أردت - أيها الأخ الكريم- أن تنال العزة في الدنيا والآخرة، فعليك بما يلي:

- تذلل للعزيز -سبحانه- وتقرب إليه بذلٍ يتقرب إليك بعزة، وامدد يدك إليه بافتقار يمدّك منه بعزة وكرامة وغنى؛ فعن جَابِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى، وَجِبْرِيلُ كَالْحِلْسِ الْبَالِي مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-" (الطبراني في الأوسط (4679) وصححه الألباني في الصحيحة 2289). ولذلك قال بعض العلماء: "طرقت الأبواب إلى الله فوجدتها ملأى، فطرقت باب التذلل إلى الله فلم أجد عليه إلا القليل من الناس. فكلما ذللت له رفعك وأعزك".

- أكرِم الناس، وارفعْ من قدرهم ومكانتهم، وعاملهم كما تحب أن يعاملوك، وارضَ لهم ما ترضاه لنفسك، ولا تنس قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ".. وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أحَدٌ لِلَّهِ إِلا رَفَعَهُ اللهُ" (مسلم(6757)).

- حاول أن تتخلص من الذل، ولا تقبل الذل ولا ترضاه لنفسك، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه. قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق" (الترمذي 2254 وصححه الألباني).

ولا يقف بك الأمر عند تخليص نفسك وذويك فقط من الذلة والمهانة، بل ينبغي أن يصل بك الطموح، ويرتفع بك الواجب إلى أن تزيل الذلة عن الأمة الإسلامية، فخطّط كيف تخرجها من ذلها، وتردها إلى عزتها ومكانتها!!.

يا عباد الله: ادعوا ربكم باسمه العزيز، فقد توسل بهذا الاسم خليل الرحمن إبراهيم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- كما في قوله تعالى: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الممتحنة :5]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنس بن مالك -رضي الله عنه-: "إِذَا اشْتَكَيْتَ فَضَعْ يَدَكَ حَيْثُ تَشْتَكِي، ثُمَّ قُلْ: بِسْمِ اللهِ، أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ مِنْ وَجَعِي هَذَا، ثُمَّ ارْفَعْ يَدَكَ ثُمَّ أَعِدْ ذَلِكَ وِتْرًا" (الترمذي 3588 وصححه الألباني في الصحيحة رقم (1258)).

وحثنا -صلى الله عليه وسلم- على سؤال الله بعزته، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "من قال إذا أوى إلى فراشه: الحمد لله الذي كفاني وآواني، الحمد لله الذي أطعمني وسقاني، الحمد لله الذي منَّ عليَّ وأفضل، اللهم إني أسألك بعزتك أن تنجيني من النار، فقد حمد الله بجميع محامد الخلق كلهم" (الحاكم في المستدرك 2001، وصححه الألباني في الصحيحة رقم (3444)).

وعن عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا تَضَوَّرَ عَنِ اللَّيْلِ -أرق أو تقلب في فراشه-، قَالَ: "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ" (الحاكم في المستدرك 1980، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (2066)).

أيها المسلمون: وممن سطر أروع الأمثلة في إثبات العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وليست لمن يملك حسبًا أو نسبًا أو مالاً: عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول -رضي الله عنه-، يوم أن وقف أبوه رأس النفاق، يقول: "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل". هنا وقف ابنه عبد الله الشاب الصالح ومنع أباه من دخول المدينة، وقال في وجهه: "وَاللَّهِ لَا تَنْقَلِبُ حَتَّى تُقِرَّ أَنَّكَ الذَّلِيلُ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْعَزِيزُ" (صحيح الترمذي للألباني رقم (3315)).

اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه من أطاعك، ويذل فيه من عصاك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك، اللهم طهر بلاد المسلمين من كل سوء، وكن للمستضعفين في كل مكان يا أرحم الراحمين.

اللهم ارزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، واجعل خير أيامنا يوم نلقاك على لا إله إلا الله محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. آمين.. آمين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي