واليومَ وقد ضعُفَ سُلطانُ المسلمين، وتسلّمَ رايةَ القيادةِ غيرُ المسلمين، شاعت مفاهيمُ الجاهليةِ المعاصرة، وسادَ العالمَ قتلٌ هنا، وتشريدٌ هناك، ظلمٌ وعُدوان، وفسادٌ في القيم، وانهيارٌ في الأخلاق، ومسخٌ في التصوراتِ، والأدهى والأمر أنَّ هذا الفسادُ مُقنن، تُستخدمُ لهُ مصطلحُ (العولمة) ويُعمَّمُ شرُّه عبرَ (القنوات الفضائية). ويُرمى الرافضونَ لهُ، والمدرِكُونَ لأبعادهِ ومخاطرهِ (بالتطرف والأصولية)، وتدرجُ السياحةُ والفنُ الرخيصُ والرياضة ...
الحمدُ للهِ خلقَ الخلقَ لحكمةٍ جليلةٍ محددة، ( وَمَا خَلقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ) [الذاريات:56].
وأشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ الله وحدهُ لا شريكَ له، فاوتَ بينَ الناسِ في مسعاهُم إلى ربِّهم في هذهِ الحياة، ( إِنَّ سَعْيَكُمْ لشَتَّى ) [الليل:4].
وفاوتَ بينهم في منازلِ الآخرةِ، ( فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِير) [الشورى:7].
وأشهدُ أنَّ محمداً عبُدهُ ورسولهُ، حماهُ ربُّهُ عن الضلالةِ والغوايةِ، ( مَا ضَل صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ) [النجم:2].
اللهمَّ صلِ وسلم عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلينَ وارضِ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعين، والتابعينَ ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
عبادَ الله:
اتقوا اللهَ حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلامِ بالعُروةِ الوثقى، وإيَّاكُم ومُحدثاتِ الأمور، ومُضِلاتِ الفتن، ( وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) [آل عمران:101].
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الغَرُورُ ) [لقمان:33].
أيُّها المسلمون: وهبَكُم اللهُ نعماً وأَودَعُكم أماناتٍ، وسوفَ يسألُكُم عن صنيعِكم بها؛ فالصحةُ نعمةٌ وأمانة، والمالُ نعمةٌ وأمانة، والوقتُ والشبابُ، والسمعُ والبصرُ والفؤادُ ونحوها من نعمِ الله، كُلَّها أماناتٍ استُودعتم إيَّاها، وستُسألُونَ عن نوعِ استخدامكم لها، وكلُكُم يقرأ قولهُ تعالى: ( إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) [الإسراء: 36]، ويعي قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لنْ تَزُول قَدَمَا عَبدٍ يَومَ القِيامَةِ حَتَى يُسأل عَنْ أَربَع .." الحديث.
عباد الله: نُذكرُ بهذه المسؤوليةِ على الدوام، وتشتدُ الحاجةُ أكثرَ وقتِ الفراغِ والإجازاتِ والعُطل، التي أعتادَ عددٌ من الناسِ السفرَ فيها، وقضاءَ الإجازةِ بنفسهِ أو بصحبةِ أهلهِ وأولادهِ، هُنا أو هناك؛ فإلى أينَ يذهَبُونَ؟ وبماذا يقضُونَ فراغهم؟ وكم يُنفِقُونَ؟ وبماذا يُنفِقُون؟ وكيفَ ذهبوا؟ وبمَ يرجِعُون؟ إنَّها أسئلةٌ مهمة، وإيرادُها على النفسِ قبلَ السفرِ من العقلِ والحكمة، والاستفادةُ منها والعَملُ بمقتضى الشرعِ فيها أثناءَ السفرِ إلى العودة - مؤشرٌ للصلاحِ ودليلُ الديانة.
إنَّ حياتك -أيُّها المسلمُ والمسلمةُ- دقائقُ معدودة، وأنفاسٌ محددة، ولستَ تدري ولا غيركَ يدري -إلاَّ الله- ماذا تكسبُ غداً، ولا بأيِّ أرضٍ تموت، وإذا حفظكَ اللهُ -مُعظمُ الوقتِ- وجاهدتَ نفسَكَ عن مُقارفةِ الخنا والفجورِ والفسوقِ - فمنَ الحماقةِ أن تُحطِّمَ هذا السياجُ الواقي، وترغبُ عن هذا الأمانُ الإلهي فترةً من حياتك، وقد يُختَمُ لكَ بها، فتكونُ الحسرةُ والندامة؛ إذ حلت بكَ سُوءُ الخاتمةِ، وتعرضتَ لمقتِ اللهِ وغضبه، إذا استُخدمت نعمُ اللهِ في معصيته، وليسَ يليقُ بكَ أن تأكلَ من رزقهِ وتعيشَ في أرضهِ، ثم أنتَ تُجَاهِرُهُ بالمعاصي، وهُو يَرَاكَ وإن لم تره.
إخوةَ الإسلام: ومصطلحُ السياحةِ مصطلحٌ يترددُ كثيراً، ولكنَّ الحديثَ عنهُ يكثرُ مع قُربِ الإجازةِ الصيفية، ورُبَما استهوت دعواتُهُ، بعضُ الناسِ غافلينَ عن حقيقتهِ ومخاطِرِه؛ فما مفهُومهِ في زمننا، وما هِي مخاطِرُهُ؟ وما مفهومُ السياحةِ الأصيلُ في شرِيعتنا، وما سياحتُنا أهلُ الإسلام؟ وما هيَ خصائصُنا ومسؤولياتِنا في بلادِ الحرمين؟
ودعونَا نبدأُ الحديثَ عن أصلِ السياحةِ في الإسلام، وما المرادُ بالسائحينَ في كتابِ اللهِ وسنةِ رسولهِ صلى الله عليه وسلم..
لقد وردت السياحةُ في كتابِ اللهِ وسنةِ رسوله صلى الله عليه وسلم تحملُ معاني ساميةً، وارتبطَ وصفُ السائحينَ بنماذجَ عاليةٍ من البشر، يقولُ تعالى في وصفِ الذين اشترى اللهُ منهُم أنفسَهم وأموالهم بأنَّ لهُم الجنة: ( التَّائِبُونَ العَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ ) [التوبة:112].
وترددت عباراتُ العلماءِ في معنى السياحة، ومَنْ هُمُ السائحون؟ فقيلَ هُم الصائمون، واستُدلَّ لهُ بقولهِ تعالى في وصفِ نساءِ النبيِّ صلى الله علي وسلم ( عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ) [التحريم:5].
وبما وردَ في الحديثِ عن عائشةَ -رضي الله عنها- مرفوعاً: " سِيَاحَةُ هَذهِ الأَمةُ الصِيَامُ ".
وقيل السائحونَ: هُم المُجَاهدون، واستدلَ لهُ بقولهِ صلى الله عليه وسلم -في الحديثِ الصحيح-: " إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ ".
وقيل السائحون: المُهاجِرون، وقيل: هُم الذين يُسافرون بطلبِ الحديثِ والعلم، وقيل: هُمُ الجائلُون بأفكارِهم في توحيدِ ربهم وملكوتهِ، وما خلقَ من العبرِ والعلاماتِ الدالةِ على توحيدهِ وتعظيمه.
قال القُرطُبي- رحمه الله- مرجحاً قلتُ: "( س ي ح ) يدلُ على صحةِ هذهِ الأقوال، فإنَّ السياحةَ أصلُها الذهابُ على وجهِ الأرضِ كما يسيحُ الماءُ".
أيُّها المؤمنون: وتأملوا ما جاءَ في سنةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم عن مفهومِ السياحةِ، بل ونهِيهِ عن نوعٍ من السياحة، ففي سُننِ أبي داود، وفي كتابِ الجهادِ فيه (بابٌ في النهي عن السياحة)، ثُمَّ أوردَ المصنفُ فيه حديثُ أبي أمامةَ رضي الله عنه أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله ائذن لي بالسياحةِ، قال النبيُ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالى ".
تُرى ما نوعُ هذه السياحةِ التي طلبها هذا الصحابي، وأرشدهُ النبيُ صلى الله عليه وسلم إلى خيرٍ منها؟ لقد استأذنَ هذا الصحابي رضي الله عنه في العُزلةِ عن الناسِ والتفرغَ للعبادةِ ومفارقةِ الأمصار، وسُكنى البراري والكهوفِ والجبال، فلم يأذن لهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لما في ذلكَ من تركِ العلمِ والجهاد، ولِما فيهِ من بُعدٍ عن الجمعةِ والجماعة، ودلَّهُ على الجهادِ؛ لأنَّ فيهِ ذروةُ سنامِ الإسلام، وكُبتاً للكفرِ والظلال، كذا قال العلماء.
وقالوا: ولا تشرعُ العزلةُ إلاَّ في أيامِ الفتنِ والزلازلِ في الدينِ.
إخوةَ الإسلام: فإذا كانَ هذا توجيههُ صلى الله عليه وسلم لمن رغبَ العزلةَ للعبادة؛ فكيفَ بمن يسيحُ في الأرضِ للفساد، وإهلاكِ الأوقاتِ، وتبذيرِ الأموالِ وانتهاكِ الحُرمات، والتفريطِ في الواجبات؟
إننا -معاشرَ المسلمين- أصحابُ رسالةٍ عظمى، ينبغي أن نعيها دائماً، ونسعى جاهدينَ لنشرِها وتبلِيغِها، وإنَّما أشرقَ الكونُ وعمَّ العدلُ، وانطوى بساطُ الظُلمِ يومَ أن أشرقت حضارتُنا ببعثةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم بعد أن عاشت البشريةُ ردحاً من الزمن، تتقلبُ في الفوضى وتسُودُها الصراعاتُ النكدة، ويُخَيِمِّ الجهلُ والاستبدادُ في أرجائِها، وذلكَ على أثرِ فترةٍ من الرسلِ غابت فيها تعاليمُ السماء، وسادَ فيها خُزعبلاتِ الجاهليةِ الأولى!
واليومَ وقد ضعُفَ سُلطانُ المسلمين، وتسلّمَ رايةَ القيادةِ غيرُ المسلمين، شاعت مفاهيمُ الجاهليةِ المعاصرة، وسادَ العالمَ قتلٌ هنا، وتشريدٌ هناك، ظلمٌ وعُدوان، وفسادٌ في القيم، وانهيارٌ في الأخلاق، ومسخٌ في التصوراتِ، والأدهى والأمر أنَّ هذا الفسادُ مُقنن، تُستخدمُ لهُ مصطلحُ (العولمة) ويُعمَّمُ شرُّه عبرَ (القنوات الفضائية). ويُرمى الرافضونَ لهُ، والمدرِكُونَ لأبعادهِ ومخاطرهِ (بالتطرف والأصولية)، وتدرجُ السياحةُ والفنُ الرخيصُ والرياضة، والنجوميةُ الوهميةُ ونحوها من الفسادِ الخُلقي والفكري في قوالبه، والهدفُ تخديرُ الناسِ وإبعادُهم عن الهدفِ الأسمى لوجُودِهم في هذه الحياة، وحملُهم في عربةِ القطارِ ذاتَ النهايةِ البائسةِ من حيثُ يشعُرُونَ أو لا يشعُرُون.
معاشر المسلمين: إنَّ الأخلاقَ والقيمَ العالية في كلِّ أمةٍ أساسُ بقائِها، وهي بالنسبةِ لنا -معاشرَ المسلمين- جزءٌُ عظيم من ديننا، ومقوّمٌ أساسي من مقوماتِ حضارتِنا، وإذا أفلسنَا في هذا الجانبِ الخلقي، وقد غُلبنا من قبلُ في الجانبِ المادي التقني؛ فماذا يبقى لنا؟
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيم: ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لعَلكُمْ تُفْلِحُونَ ) [آل عمران:200].
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ عزَّ من أطاعهُ، وذُلِّ من عصاه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدهُ لا شريكَ له، يُمهل ولا يُهمل، ويُؤخـِرُ العُقُـوبةَ ولا يغفل، وأخذهُ أليمٌ شديد، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله، أخبرَ وهو الصادقُ الأمين " ليَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ ".
اللهمَّ صلِّ وسلم عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين.
إخوةَ الإيمان: وهكذا يتبينُ لكم في العرضِ السابقِ الفرقُ في مفهومِ السياحةِ في الإسلام، وما آلَ إليه مفهومُها في هذا الزمان.
أجل إنَّ سياحتنا -أهلَ الإسلام- صيامٌ وجهاد، وهجرةٌ ودعوة، ورحلةٌ للعلمِ نافعةٌ، وسيرٌ في مناكبِ الأرضِ، وتأملٌ في ملكوتهِ، وإدراكٌ لعظمتهِ، وإقرارٌ بتوحيدهِ، أمَّا السياحةُ عندَ غيرنا -وبمفهومِها المعاصر- فهي كأسٌ وغانية، ومرقصٌ وبار، حفلاتٌ صاخبة، ولقاءاتٌ مختلطةٌ على الشواطئ، وفي القواربِ صورٌ فاتنة، وتهتكٌ وسفور، تبذيرٌ للأموالِ، وفحشٌ في الأقوالِ، وضياعٌ للأوقاتِ، وإسقاطٌ للأخلاقِ، وقتلٌ للمكرُمَاتِ، وابتزازٌ بشعٌ للأموال، وتصديرٌ لزبالةِ الأفكارِ وردِيءُ الثقافات، وطريقٌ لانتشارِ الأمراضِ الفتَّاكةِ، والوقوعِ في شبكةِ المخدرات.
وفوقَ ذلك كلهِ، وأعظمَ التشكيكُ في المعتقد، ونشاطُ ناصبي الخيامِ، فقد ذكرت إحدى الصحفِ ( شباكاً يُنصبُ لتنصيرِ المسلمين السائحين )، ثُمَّ ذكرتُ أنَّ هُناكَ مُنصِرين عرباً لتنصيرِ المُسلمين، رُبَمَّا جاءُوا من بلادِهم لهذهِ المهمة، وتلقُوا دروساً كنسيةً مطولةً لهذا الغرض؟.
عباد الله: ومما يُحزنُ القلبَ ويُعظمُ الخطبَ أن تتسللَ بعضُ هذه المفاهيمِ وتلك السلوكياتِ في السياحةِ المُعاصِرةِ إلى عالمنا الإسلامي، بل وقعَ ذلكَ أو جلُّهُ في أجزاءٍ من عالمنا، وذلكَ في مرحلةِ الضعفِ الروحي، والهزيمةِ الفكريةِ، وباتت السياحةُ تُمارسُ كرافدٍ اقتصادي، ومؤشرٍ للانفتاحِ على العالم، ولو كانَ ذلكَ على حسابِ الخُلقِ والدين، وإشاعةِ الفاحشةِ والرذيلة، واجتثاثِ القيم، وذبحِ الفضيلة.
أيُّها المسلمون: وحمى الله بلاد الحرمين - فيما مضى- من عقاقيرُ هذه السياحةِ المُصدرة، فلم تُستبح حماها، ولم يعبث السُوَّاحُ الأجانبُ بأرضها، بقي مجتمعُها أصيلاً محافظاً لم يخترقهُ الآخرونَ بسلوكياتِهم المشينة، وأفكارِهم المُنحلة وأمراضهم الفتَّاكة، وبقيَ الأمنُ فيها مستتباً، والناسُ يُتخطفُونَ من حِولِنا، والسياحةُ والسُوَّاح سببٌ من أسبابِ هذا الخللِ الأمني.
ولكنَّا -عباد الله- بدأَنا نسمعُ مؤخراً عن دعواتٍ للسياحةِ في بلادِنا تستهدفُ العائلاتِ في المملكةِ والخليج، -كما أُعلنَ في الصحفِ- وفيها إعلانٌ لحفلاتٍ غنائِيةِ، وتلميعٌ لنجومٍ وهمية، بل جاءَ في إحدى الصُحف الخبرُ التالي: بعد النجاحِ الكبيرِ الذي خرجَ بهِ مهرجانُ صيفِ أبها العامَ الماضي الذي عدّهُ البعضُ أكبر تجمعٍ فنيّ غنائي عربي لنجوم الساحة الفنية، فقد أقرت اللجنةُ برامجَ حفلاتِ مهرجان صيفِ هذا العامِ الغنائيةِ الكبيرة، التي سيكُونُ للجمهورِ موعدٌ معها ومع كبار مُبدَّعي الأغنيةِ، في المنطقةِ الذين سَيصنعُونَ صيفاً ساخناً مليئاً بالفنِّ والطربِ والثقافةِ العامة.
أيُّها المسلمون: ينبغي أن تتميزَ سياحتُنا عن سياحةِ الآخرين، وإذا نجحنَا في صرفِ الناسِ عن السفرِ للخارج، فذلك أمرٌ مرغوبٌ ومحمود، ولكن شريطةَ ألاَّ نقعَ في المحظورِ بأيِّ لونٍ من الألوان؛ فالحكُمُ الشرعيُّ في المُحرمِ واحد، وإن اختلفَ المكانُ أو الزمان.
ونحنُ في بلادِ الحرمينِ لنا خصوصيةٌ تُميزُنا عن غيرنا، فسلوكياتُِنا محلُ نظرٍ وتقديرِ العالم الإسلامي، وفينا قبلتُهم، وفي بلادِنا محيا ومبعثُ ومماتُ نبيهم، ومن أرضِنا انطلقت راياتُ الجهادِ وحملَ الفاتحونَ العِلمَ والحضارةَ الحقَّةِ للعالم، فكُنَّا بحقٍّ مصابيحُ الدُجى، ودعاةَ خيرٍ، وسطَّرنَا صحائفَ من ضياء؛ فما نسيَ الزمانُ ولا نسينا، وبلادُنا اليومَ مُؤهَلةً للقيادةِ من جديد، بإمكانَاتِها، وعُلمائِها، وموقعَ المُقدساتِ فيها، وسلامةَ الفكرِ، وصحةَ المعتقد فيها، وذلك في خضمِ حربِ الأفكارِ وصراعِ المعتقدات، ولئن عَجزنا أو قصَّرنا في حملِ ذلكَ للناسِ في دِيارِهم، فأقلَ الواجبِ أن نحفظَ هذا الكنْز الكبيرِ، ونحافظُ على هذا التاريخِ المجيدِ في بلادنا، حتى يتذكرهُ من وفدَ إلينا، وتبقى أرضُنا جُذوةً لإحياءِ المشاعرِ الإسلامية، لا أن نستبدلَ الذي هُو أدنى بالذي هو خير.
إنَّ بلادنا -والحمد لله- غنيةٌ بموارِدها الاقتصاديةِ الأخرى، وخيرٌ لنا أن نُنَميها ونزيدُ من فاعِليَّتِها، من أن نلجَ من بوابةِ السيَاحةِ الضيقةِ لدعمِ اقتصادنا، بل بإمكانِنَا أن نُجددَ في مفهومِ السياحةِ، ونقترحَ أنماطاً مشروعةً تستجلبُ الآخرينَ دُونَ أن تُأثرَ على دِينهم وأخلاقِهم.
إنَّها دعوةٌ للمسئولينَ، والعلماءَ والمفكرينَ والأولياءَ؛ للمحافظةِ على أصالتنا، وحمايةِ بلادِنا ومُجتمعِنا من سُمُومِ الآخرين، عبر بوابةِ السياحةِ، وقد تزدادُ مُستقبلاً فتكونُ بوابةُ انحرافٍ خُلقي، وباعثةٍ لمشكلاتٍ أمنية، وطريقاً لانتشارِ الأدواءِ والأمراضِ الفتَّاكة؟
إنني أُناشِدُ كلَّ غيورٍ، وصاحبَ مُواطنةٍ صالحةٍ للمساهمةِ في استدامةِ الأمنِ والإيمانِ في هذهِ البلادِ الطاهِرة، والبعدِ عن كلِّ أسبابِ الفسادِ والانحرافِ الخلقي، ومحمد صلى الله عليه وسلم جاء -يوم بُعث-؛ ليُتممَ مكارمَ الأخلاق، وجاءت شريعتُهُ ناهيةً عن اللهوِ والغفلةِ، وضياعِ الأوقاتِ، وتبذيرِ الأموال، وكانَ فيما أُوحي إليه: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِل عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولئِكَ لهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) [لقمان:6].
سُئلَ ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه عن تأويلِ هذهِ الآية، فأقسمَ ثلاثاً هو الغناء، واللهِ الذي لا إلهَ إلاَّ هو، وكذا قالَ ابنُ عباس، وجابرُ، وعكرمةُ، وسعيد بنُ جبير، ومجاهدٌ ومكحول وغيرهم.
وفي السُنةِ النبويةِ تأكيدٌ على حُرمةِ الغناء، ففي صحيحِ البخاري: " ليكُوننَّ من أمتي قومٌ يستحلونَ الحِرَ والحريرِ والخمرِ والمعازف ".
وتأملوا كيفَ جُمعَ تحريمُ الغناءِ والمعازفِ مع تحريمِ الفروج، والحريرِ والخمر؟ وما فتئَ علماءُ الأمةِ الربانيون يُحذِرُونَ من فتنةِ وعبوديةِ الشهوات.
يقولُ الشافعي -رحمه الله-: " من لزمَ الشهواتِ لزمتهُ عبوديةُ أبناءِ الدنيا ".
ويقولُ ابنُ تيميةَ -رحمه الله-: " والعشقُ والشهواتُ إنَّما يُبتلى به أهلُ الإعراضِ عن الإخلاصِ لله، الذين فِيهم نوعٌ من الشركِ، وإلاَّ فأهلُ الإخلاصِ كما قال تعالى في حقِّ يوسفَ- عليه السلام-: ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلصِينَ ) [يوسف:24].
وأخيراً أحذر أخي المسلم، أختي المسلمة أن نكونَ ممن قالَ اللهُ فيهم: ( فَخَلفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلقَوْنَ غَيًّا ) [مريم:59].
اللهمَّ احفظنا بحفظك، واكلأنَا برعايتك، وحبب إلينا الإيمانَ، وزينهُ في قُلوبِنا، وكره إلينا الكفرَ والفسوقَ والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
اللهمَّ احفظ بلادَنا وبلادَ المُسلمِينَ من كلِّ سُوءٍ ومكرُوه.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي