فالإسلام يطلب إليك -أيها المسلم- أن تكون نبيهاً وجيهاً، ولا يرضى لك السفه والحمق والطيش والجهل. بل إن الله – تعالى - وصف المنافقين فقال: (أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ)، ووصف المشركين فقال: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا)، وقال: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ).
الحمد لله، الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله نحمده ونستعين به ونستهديه ونسترشده، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي اجتباه، وهدىً ورحمةً للعالمين أرسله، أرسله ربنا بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، ولو كره المشركون، ولو كره من كره، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله – تعالى -، نحن ذاهبون -أيها الإخوة- عمّا قريب:
الموت بابٌ وكلُّ الناس داخله *** يا ليت شعري بعد الباب ما الدَّار
ترى مع أهل اليمين تكون؟! ترى مع أهل السعادة تكون؟! ترى تنجو في الآخرة؟!
قدموا لأنفسكم، اليوم عمل ولا حساب وغداً ذاهبون إلى دارٍ فيها حساب ولا عمل.
ثم أستفتح بالذي هو خير: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [آل عمران: 164]، (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة: 231].
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا حسد إلا في اثنتين: رجلٍ آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجلٍ آتاه الله الحكمة فهو يقضى بها ويعلمها". متفق عليه.
وجاء في الحديث: "إن الحكمة تزيد الشريف شرفاً، وترفع المملوك حتى يدرك ممالك الملوك". أبو نعيم في الحلية.
أيها الإخوة: قبل أن أذكر لكم عنوان الخطبة، أعرض عليكم أربع قصص:
رأى الحسن والحسين شيخاً كبيراً يتوضأ فلا يحسن الوضوء، فاتفقا على إرشاده، غير أنهما فكّرا في الطريقة الأنسب لتعليمه الوضوء، فهو مُسن وهما شابان أصغرُ منه، ولعلَّ عمرَه يمنعه من السماع لنصيحتهما، ثم في دعوته لتعلم الوضوء بعد هذا السن حرجٌ لشخصه، فاهتديا إلى طريقة مناسبة.
تحاكما إلى الشيخ أيهما يُحسنُ الوضوء، وتوضأ كلٌّ منهما أمامه، فلما وجد الرجل كلاً منهما يجيد الوضوء عَلِمَ أنه هو الذي لا يحسنه، فشكر لهما حسن إرشادهما وأعاد الوضوء بطريقة صحيحة.
ماذا تسمون حسن تصرفهما مع الرجل؟!
بينما أحد الأئمة يهِمُّ بأداء صلاة التراويح في المسجد، حدثت مشادّة حادة بين المصلين، فقد أراد بعضهم أداء ثماني ركعات، بينما أصرّ الآخرون على أداء عشرين ركعة، وكان أن سألوه: منْ على صواب ومنْ على خطأ؟!
ولم يجب الإمام لأن الإجابة في صالح أيٍّ من الطرفين كانت ستزيد الأمر سوءاً، ولكنه سألهم: هل التراويح فرضٌ أم سنة؟!
فأجابوا جميعاً: سنة بالطبع.
فقال الإمام: لكن وحدة المسلمين فرض، فهل نضيع فرضاً من أجل سنة، إذا اختلفنا بشدة فالأفضل لنا أن نصلي التراويح في بيوتنا ونحفظ وحدتنا وأخوتنا.
ماذا تسمون حسن إجابة هذا الإمام؟!
ادعت امرأتان، كبيرةٌ وصغيرة، ولداً أمام سيدنا داود -عليه السلام-، فأمر ابنه سليمان أن يحكم بينهما في الولد، فقال سليمان: ائتوني بالسكين أشقُّه بينكما، فسمحت بذلك الكبرى، وقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله، فلتأخذه هي لها، فحكم به للصغرى.
ماذا تسمون حسن القضاء هذا؟!
انعقد في جاكرتا عام 1967م مؤتمر ضمَّ عدداً كبيراً من المسلمين مع عددٍ من العلمانيين، واختلف المجتمعون كيف يفتتحون المؤتمر، هل يقرؤون الفاتحة أم يقفون دقيقة صمتٍ إجلالاً لأرواح الشهداء، وكان الأمر مثار جدلٍ وضجيج، واشتدّ الخلاف وتعالت الأصوات، وهنا تقدم أحد المشاركين من شيوخ الشام وقال: "بل نقرأ الفاتحة واقفين".
فضجت القاعة بالتصفيق لهذا التخلص الذي أفرح المشاركين جميعاً.
ماذا تسمون حسن التخلص هذا؟!
عنوان خطبة اليوم: "كن حكيماً".
الحكمة في اللغة: هي المنع لإصلاح، ومنها سُمِّيت: (حَكَمَةُ الدابة) أي لجامها، لأنها تمنعها من الخطأ في سيرها.
والحكمة في الاصطلاح: هي فعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الشكل الذي ينبغي.
وسُمِّيت الحكمة حِكْمة لأنها تمنع صاحبها من الوقوع في الأخطاء.
ورد الحديث عن الحكمة في القرآن الكريم في مائةٍ وعشرة مواضع: منها تسع عشرة موضعاً فيها حديثٌ عن (الحكمة) ومنها واحدٌ وتسعون موضعاً فيها حديثاً عن (الحكيم) وهو اسمٌ من أسماء الله.
وهناك نظرية نافعةٌ في معرفة أهمية المواد الشرعية في القرآن تسمى: (نظرية حجوم الأشياء في القرآن)، فإن القرآن الكريم لا يزال يعطي كلَّ شيء حجمه بقدر أهميته في هذا الدين -والله أعلم-.
فإذا قلت لكم: إن مادة التقوى وردت في القرآن الكريم في 258 موضعاً، علمتم حجم مادة التقوى في الإسلام.
وإذا قلتُ لكم: إن مادة ذكر الله وردت في القرآن الكريم، في 262 موضعاً علمتم حجم مادة ذكر الله في الإسلام.
وإذا قلت لكم: إن مادة الحكمة وردت في مائة وعشرة مواضع، علمتم حجم هذه المادة في الإسلام.
فالإسلام يطلبُ من أتباعه أن يحسنوا التصرف، أن يحسنوا القول، أن يحسنوا التخلص، أن يفعلوا ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الشكل الذي ينبغي.
مطلوب من المسلم أن يكون ذكياً لبيباً عاقلاً، فطناً كيساً وهذه هي الحكمة.
وجدير بالذكر -أيها الإخوة- أن أذكركم وأذكرَ لكم أن دهاة العرب أربعة:
أربعة رجالٍ كانوا أذكياء لدرجة الدهاء، كانت العرب تضرب بهم المثل في عقولهم وحكمتهم وهم: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه.
وجدير بالذكر أيضاً أن تعلموا أن كلَّ هؤلاء الأربعة أسلموا، وأن الثلاثة الأول صحابةٌ والرابع مختلفٌ فيه هل هو صحابي أم تابعي.
لقد استطاع الإسلام أن يحتوي عقولهم واستطاع سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يحيط بعقولهم، بل أن ينمي لهم عقولهم ومَلَكاتهم الفكرية، وهؤلاء وأمثالهم لو لم يروا في الإسلام وفي القرآن وسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- عقلاً أكبر من عقولهم، ورشداً أصلح من رشادهم لما دخلوا في راية هذا الدين.
فالإسلام يطلب إليك -أيها المسلم- أن تكون نبيهاً وجيهاً، ولا يرضى لك السفه والحمق والطيش والجهل. بل إن الله تعالى وصف المنافقين فقال: (أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ)، ووصف المشركين فقال: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا)، وقال: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ).
على حين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصف جماعة من المؤمنين فقال فيهم: "علماء، حكماء، فقهاء... كادوا أن يكونوا أنبياء". أبو نعيم والبيهقي.
لقد جعل الله تعالى واحدةً من مهام سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يُعَلِّم الناس رجاحة العقل والذكاء والحكمة، قال تعالى: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) [البقرة: 129].
فمطلوبٌ منك -أيها المسلم- أن تكون عالماً بالكتاب، ومطلوبٌ منك أيضاً أن تكون حكيماً، تحسنُ القول والفعل، ومطلوب منك أن تكون مُزكّى حسنَ الخلق، لذلك كانت هذه الخطبة وما سيتلوها إن شاء الله (كن حكيمًا).
الآن: كيف تتعلم الحكمة؟!
اعلم -وفقني الله وإياك- أن العقل ينقسم قسمين:
قسم وهبي: يتفق فيه جميع العقلاء هبةً من الله وفضلاً.
وقسم كسبي: هو ما يسمى بالعقل التجريبي، وهو الذي يتمرن ويتمرّس على اكتساب الحكمة.
وطرق تعلم الحكمة أربعة:
أولاً: الإكثار من ذكر الله والتوجهِ إليه بالدعاء والالتجاء، ليزيدك من هباته الروحية والعقلية، لأن الله تعالى يقول: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [البقرة: 296].
فقد يهب الله تعالى -من خزائن مننه ومكنون نعمه- أناساً عقلاً وهبياً حكيماً يسابقون به أصحاب التجارب والآداب ويتفوقون به على أهل المِران والاكتساب.
قال تعالى عن سيدنا يحيى -عليه السلام-: (وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا).
قال المفسرون: آتاه الله الحكمة وحسن التصرف والقول وهو غلام صغير؛ لأنه من المعلوم أن يحيى لم يكن حاكماً أبداً؛ فالمراد (وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)، أي الحكمة.
وقد قالوا: "من أخلص لله أربعين صباحًا، تفجّرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه ويده".
فكلما ازددت ذكراً لله وتلاوة لكتابه وانضباطاً بأوامره؛ ازددت حكمةً وعقلاً.
ثانيًا: ملازمة الحكماء والأخذ منهم، وترك صحبة الحمقى والسفهاء؛ لأن الصاحب يعدي -بلا ريب- إن كان حكيماً أصابتك حكمته، وإن كان سفيهاً أرداك سفهه.
قال المنصور للمهدي: "يا أبا عبد الله: لا تجلس مجلساً إلا ومعك فيه رجلٌ من أهل العلم يحدثك".
وكتب عمر بن العزيز إلى بعض عماله: "أحيِ عقلك بعلم العلماء والأشراف من أهل التجارب والمروءات".
يطيب العيش أن تلقى حكيماً *** غـذاه العلم والنظر المصيب
فيكشف عنك حيْرَة كلِّ جهلٍ *** وفـضل العلم يعرفه الأديب
وقد قال الحسن البصري: "صلة العاقل إقامة لدين الله، وهجران الأحمق قربة إلى الله".
ثالثًا: قراءة كتب الحكمة وسير الحكماء: إن فاتتك ملازمة الحكماء، فلا تفتك قراءة سيرهم والتعرفُ على أخبارهم؛ لأن سير أهل العقول إنارةٌ للعقول.
اقرأ في تراجم نبلاء هذه الأمة، اقرأ في سير العلماء، اقرأ في كتب الأذكياء، فهذه القراءة تعينك على تعلم الحكمة وتنمية العقل والفهم والذكاء.
في المكتبات يوجد كتاب لابن الجوزي اسمه (الأذكياء) مطبوع بعدة طبعات، عدد صحائفه تقارب المائتين، وجاء في الكتاب ثلاثة وثلاثون باباً، تكلم فيها المؤلف عن: فضل العقل، والعلاقات التي يستدل بها على عقل العاقل وذكاء الذكي، ثم حديث عن شيء من ذكاء الأنبياء وذكاء سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وذكاء صحابته الكرام، ثم لُمَحٌ من قصص ذكية عن الخلفاء والوزراء والسلاطين والقضاة والعلماء والعباد والأطفال والنساء، ثم حديث عن الأجوبة المسكتة واحترازات الأذكياء.
ففيه من أخبار القضاة: قال الشعبي: شهدت شريحاً القاضي وجاءته امرأةٌ تخاصم رجلاً فأرسلت عينيها فبكت، فقلت: يا أبا أمية: ما أظن هذه البائسة إلا مظلومة، فقال: يا شعبي: إن إخوة يوسف جاؤوا أباهم عشاءً يبكون.
وفيه من أخبار الفقهاء: أن رجلاً كانت معه تفاحة، جاء بها إلى الإمام الشافعي، فقال له: "لقد قلتُ: زوجتي طالق إن أكلتُ هذه التفاحة، وزوجتي طالق إن رميت بها ولم آكلها". فقال له الإمام الشافعي: "كُلْ نصفها وارم نصفها الآخر".
وقيل لأبي حنيفة: إن رجلاً قال لزوجته -وكانت واقفةً على سُلّمٍ-: "أنت طالقٌ إن صعدتِ، وطالقٌ إن نزلتِ، وطالقٌ إن وقفتِ، وطالقٌ إن قعدتِ". فقال أبو حنيفة: "تلقي بنفسها على زوجها".
قراءة سير الحكماء والأذكياء، تعينك على تعلم الحكمة.
كثرة التجارب: فقد قالوا: كل شيءٍ يحتاج إلى العقل، والعقل محتاجٌ إلى التجربة. وقالوا: لا حكيم إلا ذو تجربة. وقالوا: الرجل الذي صقلته الحياة ومرسته التجربة هو الرجل الحكيم. وقالوا: من حنَّكَتهُ التجارب وهذبته المذاهب هو الحكيم.
ألم ترَ أن العقل زينٌ لأهله *** ولكن تمام العقل طولُ التجاربِ
هذه أيها الإخوة هي الطرق الأربعة لتعلم الحكمة: الإكثار من ذكر الله والتوجه إليه بالدعاء والالتجاء، ملازمة الحكماء والأخذ عنهم، وترك صحبة الحمقى والمغفلين، قراءة كتب الحكمة وسير الحكماء، كثرة التجارب.
والحمد لله رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي